+

إستير

Esther

 

مُلَخَّص مسرحية

 

 

 

     هذه ثاني الأعمال الكًبرى الناجحة التي كتبتُها وأخرجتها لاجتماع الخريجين بكنيسة مار جرس – العجوزة في يناير 1998.. فصل بينها وبين "رجاء محبة" عدة اسكتشات لطيفة لاجتماعَي الشباب والخريجين بالكنيسة.. نصّها الكامل فقدته بسوء تقدير في فيرجينيا، وتسجيل الفيديو مع "إستير،" وياحبذا لو كانت تحتفظ بنسخة من النص المكتوب أيضاً، وفي انتظار أن تنعم عليّ بهما أثبت هذا الملحَّص..

 

 

 

الفكرة

 

 

     وأتذكر بداية التفكير فيها.. تلقيتُ دعوة لتحضير درس كتاب لسفر إستير في اجتماع الشباب.. ولما كنتُ بعد "رجاء" وبقية الاستكشات اللاحقة قد انحزت لفن المسرح، صارت نظرتي ترى الدراما بين خبايا الأحداث.. فالآن أثناء إدارة درس الكتاب في الاجتماع، وقد طُرِح سؤال: "لماذا لم يُكَر اسم الرب إطلاقاً في السفر؟"، انبريتُ لأشرح أن وجود الرب ظاهر بأقوى من ذكر الاسم، لأنه ظاهر بالفعل.. غاب لفظ الاسم وظهرت قوة الاسم.. ولإثبات ذلك بدأت أضع الخطوط تحت الإحكام المذهل في ترتيب وتوقيت الأحداث..

     وإذ كنت اشرح يد الرب الكائنة خلف الأحداث قُلتُ دون تحضير مُسبَق: هذه مسرحية محبوكة.. كانت أحداثها السفر محبوكة بالتوقيت والتتابع حبكة رواية يصممها مؤلف بارع.. ولكنّ مؤلف الروايات الخياليّة يملك معاودة الأحداث لأنها في خياله.. فمن هو الذي يملك التحكم في توقيت وتتابع أحداث الواقع الحيّ إلا الرب الإله؟ نحن أمام مسرحية مؤلفها ومخرجها هو الرب الإله.. ومن هذه الفقرة لمعت في عزيمتي كتابة مسرحية إستير..

 

     وعندما عاودت "رجاء" الاتصال في أغسطس 1997، مقترحةً الإعداد لعمل جديد بعد "رجاء محبة"، ومتعجلة في بدء الكتابة لأنني، كما قالت، بطئ ومدقق بالزيادة في مراجعة ما أؤلِّف؛ قلتُ لها تلقاءً: "مش محتاجين تأليف.. في ذهني مسرحية جاهزة لإستير".. سألتني: "مين اللي مئلّفها؟" قلت لها:" ربنا".. وشرحت لها فكرتي.. واتفقنا..

  

   على أن ظروف عملي كانت قد تغيرت عنها وقت رجاء.. واحتجتُ للوقت.. ولكنّ حفل يناير بعد شهور تكفي بالكاد للمران.. وهكذا بدأت أكتب مع البروفات نفسها.. وقد اشترطتُ على رجاء التي صارت هدسّة أو إستي ران تشاركني الكتابة بحجة أن من الأسهل تعديل كتابة عن إنشائها، وقد وافقت وقدمت لي مشهدين اكتشفت معهما أن إنشاء الكتابة أسهل من تعديلها..

وهكذا واصلنا ثلاثة عشر فصلاً لمسرحية استمر عرضها ثلاث ساعات تقريباً فيما أتذكر..

     ومن طريف الذكريات أن الروابط بين الفصول التي كان مُخَطَّطاً ان يقرأها راوٍ، كتبتُها صباح يوم العرض.. وضمَّنتُها أجزاء من الفصول ذاتها كانت لم تكتمل بعد!

     كانت تجربة فريد ومثيرة، هوَّنها أن متاعب رجاء الشخصية فد ولّت بغير رجعة..

 

 

 

ملامح بارزة

 

 

     سريعاً وفي مُلَخَّص أسجِّل أبرز الملامح الفنية في بعض مشاهد "إستير"...

 

 

مقدمة من القانونية الثانية

 

     بدأت المسرحية برؤيا مردخاي الواردة في الأسفار القانونية الثانية.. كانت الفكرة من الناحية المسرحية قوية جداً، لأنها أولاً جديدة على معارف الناس، فتحقق شغفاً في البداية يزيل إحساسهم المسبق بتوقع أحداث معروفة.. كما أنه يضفي على الاحداث التقليدية رؤية جديدة مطَعَّمة بمضمون البداية..

     وكانت هذه البداية فرصة لي لأدسّ تقديماً لشخصية إستير في سياق عائلي غير متعسف، بل نابع من الأحداث، إذ صوّرت هدسّة (إستير) تبادر بإغاثة مردخاي عند فزعه من الرؤيا.. وفي استطراد حوارها مع مردخاي أُظهر شغفها بأسفار النبوات، إذ تسأل مردخاي إن كان في الرؤيا شيئاً من مذاقة رؤى حزقيال.. كانت المقدمة فرصة لإتاحة الخيال غير المتعسف، لإظهار شخصية كتابية غيورة ذات تربية محافظة تقوية..  

 

 

من أي شعب؟

 

     وكان مشهد سؤال أحشويروش لإستير عن شعبها فرصةً لإضافة فكراً تفسيرياً يغوص وراء النص، مع إبداع حواريّ في العمل.. لقد بقيت هدسّة تفلت من السؤال ست مرات، وكان هامان يحاول محاصرتها، ليظهر معنى كلمة شعب في ذلك الوقت، وطبيعة الصراع، ويُفسِّر حكمة مردخاي في طلب إخفاء هدسّة لذكر شعبها.. دار الحوار على هذا النحو:

 

     - (هامان يتقدم ويسأل) من أي شعب أتت الفتاة هدسّة؟

     + من شعب خاضع للملك العظيم أحشويروش..

 

     - هامان: كل شعوب الأرض خاضعة لملكنا العظيم أحشويروش.. من أي شعب فيهم؟

     + لعل ذكر شعب لا يُقدّره الملك العظيم يؤذي مسامعه..

 

     - الجمال.. (ويتكئ في النطق) والذكاء دول مايخرجوش غير من شعب عظيم!  

     + هذا أدعى للصمت.. الافتخار بالشعوب لا يصح أمام ملوكهم..

 

     - أيوة.. بس لازم نعرف.. كل واحد هنا معروف أصله منين.. أنا مثلاً  (بافتخار) هاامااان.. الأجااااجيّ.. زمان كان فيه ملك عظيم اسمه أجاج العماليقيّ..

     + ليس أعظم من ملكنا أحشويروش.. ذكر العظمة في وجود الملك مدهش أيها الوزير.. أظن امام عظمة الملك تتوارى عظمة أجداد عبيده..    

 

     - (بانزعاج) هذا بعيد تماماً عن مقصدي.. كنت باسأل بس مين هو شعبك؟

     + مش لما أعرف من هو شعب اللي بيسألني.. إنت قلت اجاج.. فين اجاج ده ونهايته إيه هو وعماليق شعبه؟

 

     - (بغضب) مش عاوزة تجاوبي ليه؟ هو شعبك عمل جريمة ولا مديون بشئ للملك؟

     + كل شعوبك الملك مديونة لحكمته وعدله..

 

     - مش عاوزة تجاوبي ليه لسادس مرة؟

     = (يصفّق الملك صفقة واحدة وهو لم يزل يتابع مسروراً) خلاص هامان.. ستة صفر هدسّة.. كسبتك ستّة صفر.. هاهاها..

 

 

مشهد مد الصولجان

 

     لطول العمل كنت أحاول اختصار كل مشهد قدر إمكاني وإمكان المشهد نفسه.. وعندما جاء دور مشهد دخول إستير للملك وهي خائفة من رفضه لها، وجدت أن المشهد لو تم طرحه للحوار التقليديّ سيستهلك وقتاً وكلاماً دون لزوم، وأن في المشهد ما يعينني على تحويله للتجريد.. المشهد نفسه به بُعْد فائق لتدبير الطبيعة، مع بعد عاطفيّ، وله من ثَمَّ خصوصية تمكِّن من استثنائه من تتابع المشاهد التقليدية السرد، وبهذا الاستثناء يمكن اختصاره دون تعسف، وفوق ذلك أكسب إثراء المسرحية بقطعة فنية خالصة.. وكانت النتيجة فوق الرضا، وظهر المشهد كأروع مشاهد المسرحية.. وهذه وقائعه:

 

     الستار يُفتَح على الملك جالساً في حالة تأمّل وصفاء مرتدياً معطفاً أبيض..

     تدخل إستير إلى الملك مرتدية رداءً أبيض دون مقدمات من حديث..

     مع دخولها تخفت الإضاءة تدريجاً، ومع اقترابها من الخفوت تضئ لمبة الألترا فيوليت..

     مع تدريج خفوت الإضاءة المعتادة وسطوع الالترافيوليت يقوم الملك ليواجه إستير..

     والآن تحت الألترافيوليت يكون الملك ورجاء في أمامية وسط المسرح في وضع مقابلة..

     (تفصلهما مسافة تساوي أطول قليلاً من امتداد يد الملك زائد طول الصولجان)

     مع استقرار موقفهما يبدأ عمل الفلاشر مع الألترافيوليت..

     مع الفلاشر يمد الملك يده بالصولجان بحركة متزامنة مع الفلاشر..

     عند تمام امتداده تبدأ إستير في الانحناء نحوه للمس رأسه بحركة متزامنة بنفس الإيقاع..

     مع صدى خفيف يدور الحوار كما ورد في الكتاب المقدس بنصه..

 

هامان وزرش

 

     من أقيم الإشارات الكتابية المصاغة مسرحياً ما ورد في مشهد لهامان وزرش، وهو يحكي لها عن تكريم الملك له، وطموحه.. وتشير عليه بصنع صليب عال لمردخاي، فيقول لها:

     - صحيح يا زرش.. طالعة لهامان زوجك.. ما جمع إلا لما وفّق.. أخلص من مردخاي.. يبقى محدش يحسسني بالمهانة.. أفضى لشق طريقي.. وأنا أصلاً مافيش أعلى مني غير الملك.. أفضى للملك.. (يقف من فوق مقعده ويصعد فوقه وهو يقول) واطلع على كرسي الملك.. ومعايا كرسيّ (تناوله زرش كرسياً في يده وهو فوق الكرسي) واجعل كرسيّ فوق كرسي الملك العالي.. (يطلق ضحكة شيطانية عالية)

 

 

مشهد السرير

 

     هذا المشهد أصعب ما واجهنا في الإخراج والتنفيذ.. مشهد تواقع هامان على سرير إستير.. وجه الصعوبة فيه مفهوم.. والىن كيف ننفذه؟ أولاً يجب أن أشير لشكل السرير الوحيد الذي كان متاحاً لنا بحسب إمكانياتنا.. لقد وافانا ماجد (الملك) مشكوراً بمقعد عريض بلا مسند للظهر من تلك المقاعد التي تستخدمها النساء أمام ما يُسمَّى "التسريحة".. وغالباً نقله من بيته متطوعاً.. وكان هذا أفضل ما توصلنا إليه مما يعطي الانطباع المطلوب لسرير الملكة.. والىن كيف يتواقع هامان عليه بحيث يوحي للملك أنه تعدى حرمة الملكة، وفي نفس الوقت لا يتعداها بالفعل؟ هذه هي المعادلة الصعبة على المسرح، وأما عند الجمهور فخط المعادلة أدق وأصعب: فالموقف الذي يقنع الملك بسوء الفهم، عليه أن يقنع الجمهور بحق الملك في سوء الفهم، ولكن مع لزوم اقتناعهم التام في نفس الوقت أن المشهد لم يخرج عن المألوف.. مطلوب من هامان بالنسبة للملك أن يظهر له تعديه لحدود الحرمة، ويخبئ عنه أنه لم يتواقع على هذا المقعد الصغير في الحقيقة.. ومطلوب منه بالنسبة للجمهور أن يظهر له أنه لم يتعدى حدود اللياقة في الحقيقة، ولكنه في وضع يجيز للملك سوء الفهم.. كل هذا والكرسي صغير! وهكذا تم تنفيذ المشهد الذي كلفني سهراً طويلاً، وكلّف الممثلين تدريباً قاسياً:

 

     يخرج الملك غاضباً ممسكاً بقنينة الخمر في يده (الإيحاء بالسكر سيسهّل قبول الإيحاء بالخلط)..

     تجلس إستير على منتصف المقعد..

     تبدأ الموسيقي التي تفيد انزعاج هامان..

     مع كل جملة توسّل يقولها هامان يركع مستنداً ليد المقعد البعيدة عن جلسة إستير..

     ينتقل للناحية الأخرى، وقبل أن يهم بالتواقع على يد المقعد تنتقل إستير للناحية البعيدة..

     تبقى الحركة سريعة والكلام متصاعد النبرة هكذا حتى يصل لأقصاه..

     في الجملة الأخيرة يطلب هامان الرحمة، وهو يقرع رأسه بحسرة، ويدور الحوار هكذا:

     "أنا عرفت مين شعبك، وانتي مين ومنين.. ملوك إسرائيل رحماء.. الرحمة"..

     فتجيبه إستير وهي تُغيِّر موضعها معطية ظهرها له في جلستها مع قولها:

     "الرحمة يا أجاجي؟ زمان طلبها واحد أجاج من شاول والنتيجة إن الرب رفض شاول.. للرب حرب مع كل عماليق وكل أجاج وكل أجاجيّ من جيل لجيل.. طلبك مرفوض مايقبلوش غير واحد زي الملك شاول المرفوض"..

     فيكرّر: "الرحمة"..

     فترد وهي تستدير: "الرحمة ليك ظلم.. الرحمة تكون رحمة منّك ومن شرّك مش ليك"..

     مع وصولها لنهاية الجملة الأخيرة تكون قد أكملت استدارتها حتى صارت في مواجهته، وتضع يديها على مسنديّ المقعد في إصرار..

     ويهمّ هامان بإلقاء نفسه على مسند المقعد بحيث يكون ظهر إستير ليسار المسرح الذي خرج منه الملك، ويكون هامان مواجهاً له..

     يضع هامان كلتا يديه على المسند القريب فتزيح إستير يدها من عليه في ذات اللحظة التي يدخل فيها الملك.. يعمل الفلاشر مع دخول الملك.. فيصرخ بغضب.. يقف الوضع على حاله لعدة ثوانٍ.. يهرع هامان للملك مرة ولإستير مرة طالباً إزالة سوء التفاهم.. يصدر حكم الملك..

 

     المشهد بهذا الشكل يحل كلتَي المعادلتين الصعبتين، ويوفّق حلهما معاً.. دون لإهدار لحق المشهد، ودون استخفاف بالمشاهدين، ودون تنفيذ لا تحتمله أخلاق الكنيسة..

                

 

 

 

لمسات باسمة

 

 

     ومع جدية وميل العرض للإبهار، لم يخل من لمسات لطيفة، أورد أبرزها:

 

 

احنا مش نافصين يا مولاي

 

     في مشهد امتناع وشتي عن الحضور، ونصيحة مموكان للملك، ورد الحوار ساخراً بقدر:

     - الملكة وشتي ماغلطتش في حق خلالتك لوحدك يا مولانا.. دي غلطت في حق رجالة المملكة كلهم.. الخبر ده لو اتعرف (وينظر حوله) وهيتعرف.. زي باقي الأخبار ماببتعرف.. محدش هيعرف يكلم مراته في البيت.. واحنا مش ناقصين يا مولانا..

 

     = (احشويروش) إيه هيقولوا إيه؟

     - هيقولوا.. أمان يا مولانا.. هيقولوا لما الملك... (يكمل الكلام المحرج بالإيماءات) وكدة يعني.. (ينظر لباقي الملوك حوله) ومحدش فينا ناقصص..

 

 

دي خطة تهريج

 

     في النصف الثاني من نوفمبر (كانت البروفات على أشدّها) وقعت مذبحة للسائحين في مدينة الأقصر.. وظهر الرئيس حسني مبارك وقتها غاضباً (هذا شأنه مع ما يختص بما يحرجه أمام الغرب واما مع المسيحيين فيقابل مذابحهم بدم بارد).. القصد أنه ظهر في التليفزيون غاضباً في المدينة نفسها في موقغ المذبحة.. ووقف أمامه مدير الامن مذعوراً، وقال من بين ما قال: "يافندم احنا عاملين خطة لتأمين المنطقة الأثرية..."، فقاطعه الرئيس وقال له: "دي خطة تهريج".. كرر التليفزيون المصري هذه الجملة مرّات كثيرة لعدة أيام لاحقة، حتى تندر بها الناس.. واوحت لي هذه اللقطة بإضافة لطيفة..

     ونحن وقتها في البروفات، وكان الملك في مشهد غضبه على حُرّاس القصر بسبب المؤامرة، يقول لهم:

     - مؤامرة تحصل جوّة القصر.. يكتشفها بواب بيقف على الباب خارج القصر، وانتو نايمين؟

     هنا أوقفت البروفة وقلت للحارس: "زوّد جملة يا جلالة الملك إحنا عاملين خطة لتأمين القصر".. وقلت للملك: "وانت عارف هترد تقول إيه طبعاً J".. وانفجرت قاعة البروفة بالضحك.. واُضيفَت اللقطة وأضافت للمسرحية تلطيفاً هوذن من طول مدة عرضها..     

 

 

ما جمع إلا لما وفّق

 

     في مشهد نصيحة زرش لهامان بصنع خشبة يعلِّق عليها مردخاي، سُرَّ هامان بِشَرّ الفكرة، وقال لزرش:

     - يا سلام يا زرش.. طالعة لزوجك هامان تمام.. صحيح.. ما جمع إلا لما وفّق..

 

     ومن ألطف وأطرف كل مواقف البروفات على الإطلاق ما حدث من هذه العبارة معي.. كانت القاعة مفتوحة للدخلاء بسبب أعمال ملاحقة من اجتماعات خدمة متعددة.. فلم أملك السيطرة على الهدوء.. ولذلك نحوت للنبرة المرتفعة وبعض العصبية.. وفي كل مرة التفت لتوفير الهدوء أعود فأجد هذا المشد بين زرش وهامان قد انتهى، فأطلب منهما تكراره، وذلك لقلقي من عدم التزامهما بحرفية النص.. ومن كثرة التكرار بدا الغضب على الممثلين، فوعدتهما بأن هذه آخر مرّة.. وفي "آخر مرّة" هذه، اقتربت مني إستير بطلب عاجل، فابتعدت معها قليلاً ونحوت نحو ركن بعيد عن غزعاح الممثلين على خشبة المسرح، وإذني تتابعهما بينما عيني مع ورق لم أفهم منه شيئاً بسبب عدم التركيز تعرضه عليّ إستير.. وفيما أنا في هذه الحالة بين نظري في جهة وسمعي في جهة أُخرى، وفيما أنا مُحرَج من موقفي هذا وأحاول إنهاء ما تطلبه إستير سريعاً، سمعت صوت "هامان" وهو يكرر: "ما جمع إلا لما وفّق".. وهنا نسيت أمر كل شئ، وظننت أنه يداعبني مداعبة خارج حدود اللياقة.. فنفضت أوراق إستير، وعدت لخشبة المسرح ثائراً: "مش كدة.. عيب كدة.. إيه اللي بتقوله ده؟" وبكل هدوء وابتسام نظر لي ببراءة، وتذكروا أنه ممثل بارع، وقال لي وهو يدفع بالنص أمامه تجاهي: "خط مين ده؟ مش ده النص اللي انت قلت التزموا بيه؟".. فرددت مهزوماً: "يعني حبكت الجملة دي دلوقت؟".. فاستكمل الفاصل: "وهو انا اللي اخترت المشهد ده دلوقت؟ مش ده اللي قعدنا نكرره وكل مانقول كفاية تقول تاني؟".. فقلت: "طيب خلاص.. كفاية".. قال: "يعني مانقولوش تاني؟".. قلت:" لأ خلااااااااص.. مش عاوز اسمعه تاني J)".. ومن وقتها بقيت متلذذاً بهذه المصادفة النادرة..

 

 

 

الفريق

 

 

     كان اختيار الممثلين هذه المرة أسهل، فقد توافر عدد أكبر، إذ تخرّج بعض ممن منعتهم الدراسة وقت رجاء، وزادت ثقة ورغبة الكبار ممن لم يظهروا وقت رجاء.. ومع أن عدد الممثلين المطلوبين للعمل في إستير فاق العشرين، بينما كان المطلوب ستة فقط في رجاء، فإن توفرهم زاد في إستير، ولعل نجاح رجاء والاستكشات اللاحقة ساهم في ذلك.. وعليه فقد أُزيح عني هَمّ الاختيار والتدريب..

     ولذلك جاء توزيع الأدوار بلا عناء من مفاضلة واختيار.. فالأدوار تقليدية، والممثلون متوفرون، وكلّهم يتقن دوره بلا مشاكل.. وهذا ثُبْت مختصر بهم استكمالاً لغرض التسجيل:

 

          الأدوار الرئيسة

          إستير          ميري (رجاء – في مسرحية رجاء محبة)

          هامان        هاني (الملاك في رجاء)

          الملك         ماجد

 

          وبتقدير شخصيّ:         

          مردخاي      مدحت (الكاهن في رجاء)

                           وهو من أمدني أولاً متطوّعاً بنص ملحق إستير في الأسفار القانونية الثانية..       

          هيجاي        إيهاب (المشرف على المسرح)

                           واعتاد إخراج المسرحيات قبلي، وتطوّع مشكوراً لمساندة العمل..

 

          وأما بقية الأدوار الكثيرة القصيرة، فاقتنيت أصحابها من اجتماع الشباب، وبعضهم لم تسبق

          لي معرفته، ولم يدم اتصالنا بعدها، ولكن أذكر لهم التزامهم الذي لم يعتادوا عليه، والذي لا

          أعرف العمل مع غيابه..

 

          الإضاءة     باسم (كالعادة)

                          وهذا العمل تحديداً احتاج لتدقيق خاص في الإضاءة بسبب مشهدين تمثّل فيهما

                          الإضاءة أكثر من الممثلين.. ولكن لم أقلق لتولي باسم الأمر..

 

 

 

يوم العرض

 

 

معجزة الصباح

     تورّطت في الليلة السابقة على العرض في حضور حفل أقامه مدير عملي الجديد في قصره.. وكنت حديث الانضمام لهذا العمل وقتها، ومصدر حفاوة الجميع لأنني توليت عملاً حساساً بقي شاغراً لفترة طويلة كان مصدر قلق للمدير.. وبفعل هذه الحفاوة زاد إكرامه لي، ولم أكن شغوفاً بالطعام، فأكرمني بالمشروبات.. ولما كنت غير معتاد على شرب الخمور ولا أعرف منها أصلاً إلا النبيذ أباركة أحمر حلو (كوب في رأس السنة ودمتم)، فإن أقل القليل من كاس نبيذ قد أطاح بقدرتي على التركيز.. ولا أبالغ لو قلت إنني بمجرد أن اشتممت نوعاً أتذكر اسمه للآن "كامباري" شعرت بدوار.. وهنا جرس الإنذار عندي، وانتبهت أن غد هذه الليلة هو عرض إستير الذي لايزال ينقصه كتابة فقرات الربط بين المشاهد، غير ما يلزم من إجراء البروفة العظيمة الأخيرة.. وببقية قدرتي على التركيز اتفقت مع أول المغادرين أن ينبهني عنده انصرافه لأرحل معه.. ولا أعرف كيف وصلت للبيت، ولكنني حالما وصلت نبَّهتُهم أن يعتنوا بملاس الغد للحفلة، وأن يوقطوني الساعة التاسعة تحت أي ظرف وبأي طريقة، وكل ما أتذكره وقتها أنني سمعت شييئاً مثل: "ماهي دلوقت الساعة داخلة على تسعة الصبح"..

     وفي الصباح، غطست تحت الماء البارد (الذي يعذّبني) وشربت قهوة مُرّة ثقيلة، وذهبت للبروفة.. كان يوماً ثقيلاً، ولكنّ المسئولية أثقل، والنتيجة المرجوة ستزيح كل ثقل ما مضى.. وقد كان..

 

شهادة نجاح

     زاد عدد المشاهدين حتى تحول ليل شهر يناير إلى حر مسيل للعرق.. وبدأ أمين الاجتماع يقلق ويقول لي: حاول إنهاء العرض سريعاً.. الناس مش عاوزة تمشي قبل مايشوفوا النهاية، لكن فيه حالات قريبة من الاختناق.. وكان هذا الطلب المتكرر بعد كل مشهد تقريباً من المشاهد الخمسة الأخيرة شهادة نجاح غير مسبوق..

 

 

ألطف التعليقات

     كانت أصعب أوقات العرض هي استغراق عمل تبديل المشاهد في الوقت.. والوقت بدون تمثيل مع حالة التكدس صعب الاحتمال.. وفقرات الربط بين الأحداث التي جهزتها صباحاً لا تأخذ وقت تبديل المشاهد.. فكنت أعتمد على البديهة في مداعبة الناس حتى يأتيني تمام انتهاء تبديل الديكور.. وكان التعليق الأطرف هو السابق للمشهد الأخير، والذي يأخذ أطول الأوقات في تبديل الديكور.. خرجت للناس وقلتُ: معايا خبر حلو.. المشهد الجاي هو المشهد الأخير.. فوجئت بانفجار التصفيق مع الضحك  في القاعة، واللذان أخذا وقتاً غير قليل.. فيما بعد العرض سألتني إستير: "انا سمعت وانا بغير اللبس الناس بتصقف فافتكرت الستارة اتفتحت والمشهد بدأ وارتبكت.. بعدين عرفت انك كنت بتتكلم.. انت قلت لهم إيه؟".. فأجبتها: "قلت لهم خلاص مش هيشوفوا وشك تاني بعد المشهد ده"..

     وللأسف الشديد طال صدق نبوة هذه النكتة اللاذعة، وكانت هذه المسرحية آخر ما مثّلت فيه إستير أو رجاء..