<meta http-equiv=refresh content="0; URL=/topic.php?topic=14308&amp;post=67829&amp;uid=167605712823&amp;_fb_noscript=1" /> Facebook | عن الأب متى المسكين

عن الأب متى المسكين

Displaying posts 1 - 30 out of 62.
  • Coptic Youth 4 Holy Book كنت قد وعدت أنني سأنشر هنا في ذكرى انتقال الأب متى المسكين مقالاً مطولاً لي عنه كتبته دون إعداد ولا استعداد مسبق بعد شهرين من انتقاله المبارك، أثر قراءتي لكلمة من أستاذ الفلسفة عاطف العراقي عنه

    أنشرها هنا كما كتبتها، مع التماس قبول العذر عن عدم ظهور الروابط واختلال الترتيب بسبب النقل من نص مكتوب اتش تي ام إل



    الأب متَّى المسكين

    ||المقال في صورته الخام ولم يُقرأ للمراجعة ولا يزال تحت التعديل||


    كان مقدَّراً لهذا المقال ثلاث صفحات فأبى إلا أن أستطرد فيه استطراد الإحاطة
    فمن رغب في قراءته بصورته الأصلية فليقرأ المدخل ورؤوس الفصول الأولى وفقرة أو فقرتين من الخاتمة
    وما زاد على ذلك فهو من التفصيل وللتسجيل..

    فكرت أولاً في كتابة قصيرة أشبه بإعلان الموقف الذي أثاره أولاً عندي كلمة د. عاطف العراقي في تأبين المتنيح، فلم أتمالك القلم، والمقال يتسع حضنه ليحوي بعض مراجعة لمشاكلنا اللاهوتية القديمة والمعاصرة،
    ويشير لتدرّج معرفتي بكتابات الأب متَّى، ونقد دقيق لبعض مناحي فكره، وتلميح عن منهج التفكير الأمثل عندي،
    وأشياء أُخرى ما كان لها أن تجتمع إلا في تذكار رجل موسوعي الفكر والعلاقات والمعارك والعمر..

    فما بدأت الكتابة وسجلت العنوان إلا وتداعت الفقرات وتجمعت كأن في العنوان شيئاً يناديها نداءً لا يُرَدّ،
    وكأنها، فقرات المقال، كانت تطارد سن قلمي وتسبقه، وتنتظره،
    ولا تسمح واحدتها له أن يتخطاها لغيرها حتى تنال نصيبها سطرين أو ثلاثة..
    وأظن أن مناسبة غير مناسبة العملاق الموسوعي الراحل ما كان لها أن تتداعى الأفكار فيها هذا التداعي،
    وأظن لو أن فقرة أو فكرة كانت محشورة أو متداخلة دون لزوم لما وجدت طريقها للمقال..

    فهكذا اتسع المقال الذي لم أكتبه (جمعت أفكاره فقط)،
    ولم أقرأه قراءة المراجعة بعد، التي صارت الآن من مسئولية القارئ بعد أن استودعت ما كتبت لمن يقرأ..


    مصطلحات في كتابة المقال:
    * الأسماء مع ألقابها مكتوبة بخط مائل مثل: الأب متَّى المسكين
    * الاقتباسات الحرفية أو التقريبية مكتوبة بخط مائل بين علامتي تنصيص هكذا: "...."
    * الكلمات التي أقصد بها الإشارة للمعنى الذي يقصده صاحبها بها مكتوبة بين قوسين مثل: (المستيكية)

    بُدِئَ كتابة هذا المقال في أغسطس 2006
    وتم إضافة فقرتين بعد أن أعارني صديق مجلة مرقس عدد أكتوبر 2006


    فهرس:

    مدخل
    معرفتي الأولى
    تعبيرات مذهلة
    تأملات نافذة
    الأب متَّى فيلسوفاً؟
    خير وسيلة للمديح النقد
    الروح والذهن أيضاً
    إذن ما هو نفع المنهج الروحي؟
    الأب متَّى باحثاً
    بين الأب متَّى ومنتقديه
    روحانية في غير محلها
    O Sancta Simplicitas
    مع المسيح
    مع العذراء
    كلمة ختام
    وما بعد الختام
    السطر الأخير

    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book مدخل

    أكثر ما لفت ذهني بين مقالات تأبين الأب متَّى المسكين، في كتاب "أبونا القمص متى المسكين"، هو أن الدكتور عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية استدرك في موضع من مقاله قائلا: "أقول هذا رغم اختلافي مع الأب متَّى المسكين من حيث حقيقة اتجاه كل منا، إن الرجل يؤمن إيماناً راسخاً بالاتجاه الروحاني، وأنا من جانبي لا أرتضي بالعقل النظري بديلاً، وبحيث أقول باستمرار أنني مؤمن بالعقل كافر بكل الاتجاهات اللاعقلية"(صفحة 85 من الكتاب).. إذن فهو كفر بوَّاح بالاتجاهات اللاعقلانية، ومنهم بالضرورة الاتجاه الروحاني للأب متى المسكين، ولذلك يشرح بعدها مباشرة أن العلاقة بينه وبين الأب متَّى هي احترام وتقدير تمسك الأب متَّى بدفاعه عن اتجاهه.. هو إذن تقدير شخصي لا تقدير اتجاه روحاني.. والذي ألفت ذهني من هذا القول هو عودة العراقي لاعتراف خطير في نهاية مقاله: "ثم إذا كانت روحه قد صعدت إلى السماء، عالم الخلود والسعادة النهائية فإنني أقول لها: أذكريني"(صفحة 89).. هل هذا كلام تأبين مجامل؟
    كلا.. ففوق أن الكاتب أستاذ فلسفة، ولاسيما صاحب كفر بواح بغير العقلانية، فلا نتوقع من مثله كلام مجاملات روتيني، فإنه يتابع بعدها معترفاً اعترافاً خطيراً بشقائه واحتياجه لتذكر روح الأب متَّى له، وهذا نص اعترافه: "أقول لها: أذكريني، فقد أصبحت الحياة شقاءً مابعده شقاء. أصبحت الحياة ظلمات فوق ظلمات وإن كان أكثرهم لا يعلمون" (صفحة 89)..

    لقد بدأ العراقي بمديح متوقع للأب متى المسكين، ولم يسعه كفره بغير العقلانية إلا أن يستدرك في منتصف مقاله ليؤكد على التزامه بها دون غيرها، وأن تقديره للأب متى المسكين هو تقدير لمن يتمسك بموقفه ويدافع عنه، وظهرت جلمودية إصراره على موقفه في قوله: "وبحيث أقول باستمرار أنني مؤمن بالعقل كافر بكل الاتجاهات اللاعقلية".. ولكن مهلاً، فهو إذ وصل في نهاية مقاله لمواجهة حقيقة مفارقة روح صاحبه ذي الاتجاه الروحاني لنطاق الحياة الحاضرة، المنظورة لعقله، تاركةً إياه في مجال هذه الحياة منفرداً في مواجهتها بمنهجه العقلاني الذي لا يرضى له بديلاً، فكأنه شعر بوطأة الشقاء والظلمات، أو هو شعر بعجز العقل عن دفع هذا الشقاء عنه، أو هو –وهذا هو لب القضية- شعر بحاجته لمساندة الروح التي حلَّقَت في السعادة الأبدية باعترافه، فصرخ في شقائه صرخة الناقص المحتاج: اذكريني..

    ورغم صرخته المُرَّة، فإن العراقي لم يسلم بهزيمة اتجاهه العقلاني الصرف، ولو كان قد سلَّم ما كان قد شعر بالشقاء، ولأتت كلمته "اذكريني" كلمة وداع متفائلة بدلاً عنها صرخة استغاثة مُرَّة كما كان حالها..
    (الاقتباسات السابقة من مقال "الملائكي –طائر الحب والتسامح الأب متَّى المسكين –وداعاً"، دكتور عاطف العراقي أستاذ الفلسفة الإسلامية، كتاب "أبونا القمص متى المسكين"، إصدار دير القديس مقار، أغسطس2006)

    هذا هو أكثر ما لفت ذهني في كتاب تأبين الأب متَّى المسكين، وهو أفضل مدخل لي لأعرض رأيي عن الأب متَّى المسكين، وعن اتجاهه الروحاني الصرف، ومقابلته بالاتجاه العقلاني الصرف، ثم مقابلتهما معاً بالوصفة الإنسانية المذاق الإلهية الصنع التي أنعم وأشقى بها معاً..



    معرفتي الأولى

    معرفتي بالأب متَّى المسكين كلاهوتي، في مرحلة شغفي باللاهوت والتفسير، جاءت من أفواه وأقلام خصومه، من رؤساء إكليروس كنيستي وحبيبتي القبطية الأرثوذكسية.. وفي الأكثرية الفائقة من ردودهم، كانت تتأكد لي حقيقتان: الأولى عدم أهليتهم مبدأً لما يتكلمون فيه من عقيدة، وشرح، ونقد لشروحات الآخرين لها.. والحقيقة الثانية أن الرجل الذي ينتقدونه يتكلم بلغة مختلفة لم يفهموها، وتحتاج في نقدها لمعايير غير تلك التي يستخدمونها.. لا أقول انها تعلو على النقد ولكن أقول أن نقدها له أصوله التي لم تتوفر لناقديه.. هذه معرفتي به ككاتب ومفكر في اللاهوتيات..

    وأما معرفتي به على الإطلاق، فتعود لكتاب "الكنيسة والدولة" الذي قرأته باكراً جداً من عمري، وقرأته من أبوابه الأخيرة، ففاتني الباب الوحيد الذي أوافق الأب متَّى عليه والذي ينتقد فيه المرحلة القسطنطينية، وهو ما قلته متأففاً يوماً كنت أرتل فيه بضمير مرهق ذوكصولوجية الصليب.. قلت يومها لنفسي: "لو صح أن قسطنطين رأى رؤيا، ولم يكن يلفق قصة لرفع معنويات جنوده، فإنه ربما أساء فهم معنى الغلبة المقصودة في نداء الرؤيا له: بهذا تغلب".. لقد كتب الأب متَّى في فصل مبكر من هذا الكتاب كلاماً شبيهاً بهذا، وإن لم يطرح احتمال أن القصة ملفقة، وقد فاتتني قراءته وقتها ففاتني اتفاق مبكر معه، ولكنني قرأت فصولاً أُخرى حكمت عليها في حدود قدرتي الذهنية الغضة وقتها باللعبكة، وما لم أتمكن من الحكم نظرياً عليه أحلته لمشاعري فأصابتني الكآبة فألقيت بمصدرها جانباً.. ولم تزد الايام رأيي إلا توثيقاً، فتلك الفصول من الكتاب هي من اسوا ما كتب المتنيح، ووربما يأتي الحديث عن ذلك الكتاب لاحقاً في مكانه في هذا المقال، إذن فلنتركه الآن ملقى جانباً لحين العودة إليه، أو عليه، بالنقد الواجب..

    وفي جولة لاحقة التقطت كتاباً صغيراً بالإنجليزية عن النظرة المسيحية لافتراق الكنائس، وكان، ولا يزال، موضوعاً مهماً من مواضيع اهتمامي القلبيّ، ولكنه لم يكن الإجابة التي تقنع ذهني ومشاعري بمواصلة القراءة حتى الوصول لنتيجة، أية نتيجة، رفضاً أو قبولاً.. كانت لغة غريبة تناقش مشكلة غريبة عن ذهني وتصل إلى وسط لامكان middle of nowhere.. فوضعت الكتيب بجانب رفيقه الأول في ساحة التقييم.. وهكذا بقي اسم الرجل في ذهني صاحب ما لا يسوغ لي تقديره..

    وفي ذات مرة وكنت من محبي التسبحة فكرت كيف أحسن الآباء بفهمهم السامي بتفسير المنارة الذهبية بالكنيسة، ولكن ما بال فهمهم السامي قد فات سموه تشبيه سرجها السبعة بالسبعة أسرار؟ ولم يشبهونها بشئ عارض وغير أصيل في تاريخ الكنيسة الذي هو السبع طغمات التي لم يعد لها وجود بحالها السابوعي ذاك؟ نقلت السؤال لكاهن محترم تربيت على احترامه، وقلت له إن الاستنتاج الملزم أن فكرة السبعة الأسرار لم تكن حاضرة في هذا العصر على أي نحو، وإلا ما استقام الأمر أن يفوت المفسرين تفسير السرج السبعة بالسبعة الأسرار، بينما نحن في عصرنا نستميت في التقاط أي سبعة وتفسيرهم بالأسرار، فقال لي مبتسماً: هذا فكرت فيه من التسبحة فقط؟ أم لعلك قرأت شيئاً للأب متى المسكين؟ قلت له إن الاسم غريب عني ولعلي قرأت قديماً "الكنيسة والدولة".. علمت على أي حال شيئاً جديداً عن صاحب الاسم: أنني لست منفرداً في القارب والأب متى المذكور قال شيئاً في الموضوع، ولعله كان يصلي التسبحة مثلي!

    ثم راح من ذهني الاسم بجملته، حتى عاد بقوة على ألسنة خصومه ليقدمونه لمسامعي (كانت كلها تسجيلات صوتية) كـ"لاهوتي منحرف"، بل وعند أكثرهم عصبية وادعاءً "مبتدع ومهرطق"، وأما عند المدفوعين بالضغط للشهادة ضده فهو "له أخطاء لا تمنع المحبة من تصحيحها".. وفي كل ذلك الهجوم كنت أخرج بنتيجة واحدة: الناقد غير مؤهل، والأخطاء بالأكثر كثيراًَ في الرد..

    ومع ذلك فلم أشغف بمراجعة ما يكتبه الرجل من ذات كتاباته.. فقد كنت منشغلاً أصوغ مشروعي بلغة ثانية غير تلك التي يستخدمها.. بلغة أقرب للغة منتقديه على نحو ما، وللدقة فهي لغة الكتاب المقدس بلغة عقلية بقدر الإمكان تخلو من المستيكيات، تختلف فقط عن لغة منتقديه في كونها خالية من السقطات المنطقية، وكل كلمة فيها لها تعريف دقيق.. كنت، ولا زلت، أنشد الوصول لضبط شرح معاني الإيمان بتلك اللغة، والمشكلة كانت عندي أن شُرَّاح العقيدة أصحاب الألقاب والمناصب لا يجيدون استخدام اللغة التي يشرحون بها، ولا يحسنون المنطق الذي يدعونه.. مشكلتهم في استخدامهم للغة لا يتقنونها، وأما اللغة ذاتها فهي صالحة للقيام بدورها.. وفي مشروعي المتواضع، وكل المشروعات البشرية متواضعة بالمناسبة، أواجه دوائر متتابعة ومتداخلة و متحلِّقة من المشاكل.. الدائرة الأولى هي الدائرة القبطية والتي تكلفني، في مواجهتي للأخطاء، مصداقيتي أمام السذج من المؤمنين الذين يربطون العقيدة والسماء وراحة الضمير وضمان الحياة الأبدية بأسماء ذوي المناصب والرتب.. ثم الدائرة الأرثوذكسية العامة والتي تحرمني من وتكلفني الراحة التي ألتمسها في تنسم رائحة المسكونية، لأنني أجد في تعصبهم الآبائي ما يؤكد لي كلنا في الهم أرثوذكس، وبالمناسبة فمشاكلهم لا تقل عن مشاكلنا.. ثم دوائر متداخلة من الطوائف الأخرى تكلفني مزيداً من تحمل الدوار عندما أجد نفسي مضطراً في كل مرَّة أشرح خطأً أو أعرض رأياً لأن أفرِّق للمعاند بين أن في الكنيسة أخطاءً موروثة في الشرح، وبين أنه بجملته خارج عن الكنيسة وليس الخطأ مبرراً لخروجه، وليس في رده على الخطأ ضمان صحة الرد، إذ ليس دائماً الرد على الخطأ يكون تصحيحاً له.. وبالجملة فإن مشروعي يتلخص في لغة بسيطة منطقية كتابية تميز بين "الأرثوذكسية" معنىً، وبين "الأرثوذكسية" مصطلحاً يدل على طوائف عرقية ومؤسسات كنسية بعينها، وبينها على أي حال وبين الموروث في تلك المؤسسات.. لكل هذه الأسباب لم يكن في طاقتي النفسية فائض لمتابعة كتابات الأب متَّى المسكين، ولا فسحة لانتقاد لغته المستيكية مزايا وعيوباً..
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book
    تعبيرات مذهلة

    ولكن وإذ صار الأب متى أمراً واقعاً، وموضوعاً يجري على كل الألسنة القبطية في مصر والخارج، أُلزِمت بمتابعة كتاباته التزامي بمسئولية الحصافة والملائمة فيما أقول.. وهنا أجدني مُلزَماً لقول هذا الحق: إن الأب متَّى المسكين هو أروع من قرأت لهم قاطبةً في قوة العبارة.. صحيح أنه يكتب كثير من السطور التي لا تسلب شغفي، ولكن بين فقرة وأخرى تلمع عبارةٌ لمعان الذهب المصفي سبعة أضعاف.. مثلاً، ودون تحري للنص، عبارته في مناسبة تعزيته للإيغومانوس بيشوي كامل في ألمه: "إن آلام المسيح هي لحن الخليقة الجديدة".. مثلاً عن الراهب أندراوس الصموئيلي قال أروع ما قيل عنه: "ياليت رهبنتي كانت مثل رهبنة هذا الشيخ".. مثلاً في أحد كتبه لعله "أعياد الظهور الإلهي" يكتب: "العهد القديم كان يسير بنغمات حزينة تدل توقيعاتها على النهاية السعيدة لهذا اللحن ".. مثلاً عبارة له في الكنيسة الخالدة باكورة كتبه، تقول: "لقد سلبت الكنيسة مجد الهيكل القديم ولم تترك فيه إلا (؟) حجراً على حجر".. وعلامة الاستفهام من عندي، فالأدق أنه كان يقول "لم تترك حجراً على حجر"، ولكن قوة القول تغفر له هذه الهفوة.. مثلاً في رسالته للإيغومانوس صاحب الشرف والمشرِّف صليب سوريال عندما علم بأن والدة خطيبته تمانع في سيامته كاهناً بعد الزواج: "لا زواج إلا لعلة الكهنوت"، ومفهوم أن المعنى مرهون ومقيد بسسياقه، هذه العبارة السابقة وردت في مذكراته الشخصية التي نشرت في الكتاب التذكاري بمناسبة رحيله.. ومن نفس المذكرات عبارة أبهرتني تعليقاً على ضياع اللسان القبطي من الأقباط نتيجة تهديد أحد الحكام بقطع لسان من يتكلم بها، قال: "فقُطِع لسانهم دون أن تُقطَع ألسنتهم".. وهذه عبارة وردت في رسالة خاصة لرهبان من وادي الريان، محل رهبنته المنفية، انتدبهم البطريرك أنبا كيرلس السادس لخدمة دير أنبا صموئيل المعترف، وقرأتها في نسخة خطية غير منشورة، تقول: "لا تسيئوا سيرتكم ببغضة أي إنسان".. ثم أختم بأول عبارة له لفتت انتباهي لموهبته الفائقة في إطلاق العبارات الذهبية المبهرة، إذ سمعت زميل كنيسة لي في تأمل في اجتماع للشباب يقول: "ينبغي أن يكون لكلمة الرب سلطان على نفسي".. واخترقت العبارة مفرق النفس والروح عندي، ولم أنسها منذ سمعتها، بقَيتُ بها، وسافرت بها، وعدت بها، وتنقلت دائماً بها، حتى أتت فرصة سألت الأخ: "هل تتذكر يوم قلتها؟".. فأجابني: "ليست لي.. لقد استعرتها من كتاب حبة الحنطة للأب متى المسكين".. ومثل أخير من مقدمة لكتاب عن سفر التكوين لأحد أبنائه في الرهبنة، قال يصف المؤلِّف: "استؤمِن فوُجِدَ أميناً".. وعبارات أُخرى كثيرة مثل هذه، يتذوقها من له ولع بأدب الكلمات، العهدة في إثبات مراجعها على الذاكرة المرهقة.. أما في ألفاظها، فقد فضلت أن أسجلها كما صيغت في ذاكرتي بحسب تأثيرها المباشر، ليكون التسجيل للروح لا الحرف.. وأما مضمونها، فالذي يضمن دقة المضمون هو قوة المضمون ذاته الذي حفر لنفسه مكاناً لا يُمحى حتى أنني أسترسل في التسجيل وأنا اكتب دون مراجعة ولا توقف.. هذه بعض العبارات التي حفرت مكانها في ذهني من مجرد قراءات سريعة متعجلة كنت أخطف فيها الفقرات فخطفتني من بين ثناياها مثل هذه العبارات.. هذه شهادة حق..

    لعل هذا الفصل القصير يكون بداية ودعوة لتسجيل العبارات اللامعة لذهبيّ العبارة الأب متَّى المسكين..



    تأملات نافذة

    ثم حتى أُكمِل شهادتي عن مزايا كتابات الأب متَّى المسكين التي عرفتُها متأخراً، كي أنتقل للنقد المعارض بضمير مستريح، يلزمني أن أشير لروعته متأملاً كتابياً.. أول ما أذكر له، في تفسير إنجيل يوحنا، مقابلته للسفينة التي وردت في (يوحنا 21) والسفينة التي وردت في (لوقا 5)، وقد وضع ستة أوجه للمقابلة بينهما: سفينة لوقا هي الكنيسة على الأرض، نرى المسيح فيها، وسفينة يوحنا هي الكنيسة حال إكمالها رحلتها وقدومها للأبدية، فها المسيح في استقبالها.. شبكة لوقا تتخرق، ولكن شبكة يوحنا وإن امتلأت فإنها لم تتخرق رغم الكثرة لأن سمكها في سلام ملكوت السموات.. بحر لوقا هائج بالعواصف، وبحر يوحنا هادئ إذ السفينة قريبة من الشاطئ.. وهكذا من أوجه المقابلة التي اصطادها المتأمل بغنى، إذ رمى شبكة التأمل ببراعة ماسكاً برأس التأمل في يمينه بثقة، ورأس التأمل هو الفهم الملهم لرمزي السفينتين.. هذا كان تأملاً يقف في الموازين بمجموعة كتب.. أو مثلاً آخر: توقفه عند قميص يسوع المنسوج من فوق، وهي إشارة انفرد بها إنجيل يوحنا فوجد فيها المتأمل الملهم شعاراً ووصفاً لإنجيل يوحنا نفسه.. أتذكر أيضاً تأملاً نافذاً من الدرحة الأولى في التجربة على الجبل، يرى في تجارب إبليس للمسيح عرضاً شيطانياً على المسيح بمعاونة الشيطان له في تحقيق هدفه من التجسد دون صليب، يشرح المتأمل غرض الشيطان فكأنه يقول للرب: هذا العالم الذي تريد أن تخلصه بالصليب أعطيك إياه مجاناً، لم لا تظهر مجدك بوسيلة الكبرياء المظهرية ليؤمنوا بك فوراً وتوفر الكثير من الوقت والتعب.. ما أروعه.. وأروع ما فيه أنني أعيد صياغته من ذهني بكلماتي، شهادة على قدرة معانيه على السكنى في العقل الواعي والعقل الأعلى معاً.. ولهذا أصر على عدم توثيق النصوص حتى لا أكتم الشهادة: شهادة عمل النص الاصلي في الذهن وقدرته على البقاء دون معاودة مرجع..

    هذه شهادة حق أن الأب متَّى المسكين عندي، في حدود ما قرأت، هو واحد من أروع من تأملوا.. وهو أفضل من قال عبارة، الأفضل دون جيران.. فهو في مضمار العبارة الواحدة، لا يوضع بين كثيرين ولا قليلين، بل يقف واحداً، بحسب ما أخذ من موهبة.. وقد سُئِلت مرَّةً فقلت: الأب متَّى هو عميد الأدب القبطي بلا جدال إلا جدال الحسود أو غير المتذوِّق للأدب.. آه وما اكثرهم في حالنا الكنسيّ!

    وبمناسبة ذكر الموهبة، والأدب، فقد قرر الأب متَّى في مذكراته أنه نشأ طفلاً محروماً من قراءة الأدب، وأُقرِّر حقاً أن في حرمانه ما لا يترك مجالاً لناقده أن يستعفي من الإقرار بأن عباراته هي نتاج موهبة نعمة سماوية خالصة.. فياليتني وُهِبت حرمانك، وما حُرِمت موهبتك..



    الأب متَّى فيلسوفاً؟

    شأن آخر سأمر به مسرعاً لأن الأب متَّى نفسه مر به مسرعاً ولم يتمهل عنده كثيراً، وهو علاقته بالفلسفة، فقد شاع أنه كان فيلسوفاً، وهذا صحيح، وأنه واسع الاطلاع بالفلسفة، وهذا غير صحيح.. فأما إنه كان فيلسوفاً، فإن منهجهه الروحاني العملاق وذهنه المتوقد القوي، ينتجان حتماً فيلسوفاً إنسانياً مؤثراً، ومثل هذا الفيلسوف تتكون فلسفته في أوقات الشجاعة في مواجهة النفس، والصفاء في فحص الواقع، والشفافية في التطلع للغائب.. وكل هذه المقومات لا تحتاج بالضرورة لأي اطلاع على فلسفات الآخرين، بل أنها تتعطل أحياناً بسبب مثل هذا الاطلاع، وعلى أي حال فلم يظهر من الأب متى ما يؤهله للحكم له بسعة الاطلاع على منتجات الفلاسفة، وأتذكر في عظة مسموعة للأب متى أنه نقل شيئاً من فلسفة مارتن هايدجر ليعلق عليه آسفاً كمثال لظلمة العقل الإنساني، ووصف هايدجر بأنه فيلسوف فرنسي (الصحيح أنه ألماني)، ومثل هذه الأخطاء السطحية تعطي مؤشراً على محدودية الاطلاع..

    لقد كان الأب متَّى صديقاً ومتحاوراً لأساتذة فلسفة مثل الدكتور عاطف العراقي، كانوا أساتذة للفلسفة خبراء فيها، ولكنهم لم يكونوا بأنفسهم فلاسفة، ولا جسروا أن يدعوا هذا لأنفسهم، أما هو فكان فيلسوفاً دون الحاجة لأن يكون أستاذاً للفلسفة أو خبيراً واسع الاطلاع بها.. ولعله كان قريب الصلة من هذه الوجهة بأبيه الأول أنبا أنطونيوس صاحب الجواب المُفحِم للفلاسفة: "أيهما اسبق العقل أم المعرفة ..."..

    ويبقى أيضاً له عندي، بعد أن قرأت مذكراته، أنه بسيط.. نافذ للحق من أبسط وأسرع الطرق.. الطريق الأبسط والأنفذ والأسرع حتى من طريق مواجهة النفس، وليس اسرع من مواجهة النفس للوصول للحق إلا طريق مواجهة الحق نفسه مباشرةً، وطلب الحق من الحق نفسه.. ومن هذا الحق أتخذ قياسي وأبدأ في عرض خلافاتي معه..



    الفقرات الآتية تستعرض بعض شواهد تأثير مستيكية الأب متَّى المفرطة
    على إنتاجه التفسيري للنصوص وعرضه لشخصيات الكتاب
    ومواقفه السياسية والاجتماعية
    ومقابلتها بمنهج متزن أقترحه يحفظ للروحانية قيادتها وأهميتها
    ويحفظها من التضخم والتورط في احتكار دور الذهن

    خير وسيلة للمديح النقد

    يحكم الضمير والتجارب الحاصلة بالإجماع أن النقد المخلص لو أتى من المقِرّ بالفضل سابقاً على مجيئه من الخصم المغرض، فإنه يُبطِل حجة الخصم ويحفظ فضل الفاضل من التشويه أو التعتيم.. فقط لو سبق.. وأحاول هنا أن أسبق.. وقديماً قيل عن العملاق أوريجينوس: لا نتغاضى عن أخطاء من لا نجاريه في فضائله.. وللأسف يفوت هذا المفهوم الذهن القبطي في العموم، وليس أصدقاء الأب متى استثناءً..
    ولا أظنني بحاجة أمام من تابع معي الكلام من بدايته لتأكيد أنني لا أنطلق في نقدي للأب متى من منطلقات خصومه، ولا الأخطاء التي سأمسكها عليه هي تلك التي ظنوها هم.. لا حاجة بي مع من يتابع.. ولادخل في المواضيع:
    ومؤاخذاتي على الأب متَّى ، وإن تعددت، فإنها تدور على محيط دائرة واحدة مركزها فكر الأب متَّى المغرق في المثاليات بما يستفز المنطق أحياناً ويتجاهل الحواس أغلب الأحيان.. فهو يحول كل شئ لعمل سري (مستيكي كما يفضل تسميته باليونانية).. ولأن مزاجه اللاهوتي والتفسيري أُحادي العنصر، وغايته الفكرية مغرقة الأحادية، فإن "رأس استدلالاته" (أقصد الفرضيات السابقة priori) يتسم بذات العيب المتجاوز في أحاديته، وجُلّ أخطائه ينتج من عدم شمولية الاستقراء.. وبحسب خبرتي المحدودة فقد وجدت أن رأس رؤوس الأخطاء هو النظر بعين واحدة، أو من زاوية واحدة، أو لجانب واحد، وإهمال شمولية ودقة الاستقراء.. وعندي أنه الوحدانية السليمة لا يُتَوصَّل إليها إلا من خلال استقراء كل المفردات.. والأمثلة اللاهوتية عندي هي وحدانية الثالوث، ووحدانية طبيعة المسيح، ووحدانية الكنيسة.. والأمثلة الفيزيائية بلا حصر.. الوحدانية ينبغي أن تكون جامعة والوحدانية الجامعة لا تكون هكذا دون استجماع للمفردات قبل تنسيقها في هيكلها الموحد، ونقصان هذا هو رأس عيوب مستيكية الأب متى، والذي ظهر تقريباً في كل التفسيرات القليلة التي قرأتها له..
    لقد سبق أن قلت إن الأب متى يقف فريداً في مصاف أصحاب العبارات الذهبية، وإنه يقف سابقاً جداً بين المتأملين، ولكنه للأسف ليس في هذا التريب كمفسر! وذلك لأن التفسير يحتاج لتلك الشمولية التي تجاوزها الأب متى في سعيه المبالغ فيه لإثبات فهمه المسبق من أي نص..
    about 5 months ago · Delete Post
  • Mena Milad تسجيل متابعة

    شكراً
    :)
    about 5 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book شكراً للمتابعة

    قبل استكمال الرفع، قال لي صديق إن قول الأب متى عن الهيكل في مقابلته بالكنيسة "سلبته مجده ولم تتركه إلا حجراً على حجر" ليس خطا مبطعياً او سهواً، ولكنه كان يقصد معنى آخر وهو الغشارة إلى أن الهيكل وحتى قبل نقضه لم يُترَك فيه إلا مجرد حجارة مرصوصة أي عمل بشري حجري بلا روح في مقابل هيكل الرب الإله الحي الغير المصنوع بأيدي بشرية -- الذي هو الكنيسة
    أكيد معنى عالي في قوة التعبير
    ولعله نقصه أن يضيف فيقول "وحتى هذه الحجارة نُقِضّت"، وكان في هذه الإضافة ما يزيد التأمل تأملاً ويشرح معنى قصده والذي كان ينبغي ان يُدرِك أنه قد يفوت كثير من الناس أنا منهم

    قال لي أن عبارة "كلمة الرب يكون لها سلطان على النفس" لا يتذكر انها وردت في كتاب حبة الحنطة"، فليكن فأنا لا أنقل نقلاً معتاداً -- انا أؤرخ لسيرة رجل بارز من خلال وعيي الشخصي ومعرفتي أنا به، هذا هو روح التسجيل الذي دفعني وقادني للكتابة، وليس هو عمل اكاديمي وإن كان محتواه دقيق المنطق والتقدير بقدر الإمكان

    الفصل القادم للأسف كثيف وطويل ومرهق في المتابعة
    ولكن بعده تأتي فصول خفيفة وبها أوجه مهمة في النقد والملاحظة
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book لقد سبق أن قلت إن الأب مَتّى يقف فريداً في مصاف أصحاب العبارات الذهبية، وإنه يقف سابقاً جداً بين المتأملين، ولكنه للأسف ليس في هذا التريب كمفسر! وذلك لأن التفسير يحتاج لتلك الشمولية والحيادية اللتان تجاوزهما الأب مَتّى في سعيه المبالغ فيه لإثبات فهمه المسبق من أي نص..

    وعلى قلة قرائتي للمصادر المتّاوية، ولم أتعرض إلا لتلك التي ياتيني بها صديق للمناقشة أو أخذ الرأي، فإنني رأيت سمات المنهج التفسيري نفسها تتكرر في ما بين عشرة لعشرين مثالاً.. وأقرر بارتياح أن القليل الذي قرأته يصلح كعينة اختبارية، وهذا ما دلتني عليه تلك العينة: تطغى مستيكية الأب مَتّى واندماجه مع المعنى الروحي وثقته بأنه عايش الشخصية الكتابية التي يفسر لها أو يفسرها هي ذاتها.. وهذه الثقة وذلك الاندماج يدفعه لرؤية نهاية المعنى قبل أن يتروى في تفاصيل النص، حتى إذا به مرةً يقفز للنهاية معلناً بلا مقدمات رأيه، وفي مرة أُخرى يعود للنص مغرقاً في التفاصيل، ولكن لا يخيب من عين المحلل رؤيته وهو يبحث عن طريقة لغثبات معنى مسبق.. وهذ المنهج مع جودة دافعه وتاسسه أصلاً على نقاوة روحية وعملقة في التعايش مع القيمة وهضمها إلا أنه يحابي الروح على حساب الذهن، وإن أخذ تارةً أو اثنتين شكلاً منطقياً معقداً ومفصلاً، والروح لا تفرح بمحاباتها على حساب ذهنها، ولكن روح الأب مَتّى تحديداً تقود الذهن وتخضعه ويتهلل هو ناعماً بثقته في مقولاته التي لا يبدو أنه هو نفسه يراجعها أو حتى يعاود قراءتها.. إذاً جودة الدافع وقيمة الروح وحق المعايشة ونقاوة اقتناء القيمة كلها متوفرة وتمثل اسس تفسير الأب مَتّى، ولكنه في نشوته الروحية يبالغ في اللغة حتى يتجاوزها، ويتجاوز المنطق أحياناً معها وإن غطى تفسيراته ببعض الشكل، ولا يعود من تفسير إلا وقد قرر بثقة النتيجة المقررة في ذهنه بل بالأحرى في وجدانه سلفاً.. هذه خلاصة ما استقرأته ظاهراً بإصرار في الأمثلة التفسيرية التي قرأتها له، وهي على قلتها كافية للحكم كعينة جيدة.. ومن الطريف أن ذلك المنهج الجاري وصفه لا ينجو من عقوبة عادلة ذاتية من النوع الذي اسميه العدالة المنطقية على وزن العدالة الشعرية: ألا وهي الوصول عادةً لنتيجة تخالف المرتب الوصول لها سلفاً..
    باختصار: المحلل المتابع للأب متى المسكين المفسر يجد نفسه تقريباً دائماً مع هذا المنهج: منهج القناعة المسبقة روحياً بقوة والتي أداة تجسيدها الأولى في الكلمات هي المبالغة، والتي تدفع بسبب طغيانها لعدم استكمال الاستقراء أو حتى القراءة، والتعجل في الاستدلال شغفاً باختطاف النتائج المرصودة مسبقاً والمُخضطَّط للوصول إليها.. والعدالة المنطقية أن هذا المنهج يؤدي لعكس الغاية المطلوبة منه ويثبت عكس نتيجته المرجوة..

    وأتخذ مدخلي لعرض إشكالية منهج الأب مَتّى التفسيري من تحليله المبكر (كتبه في الخمسينيات) لخطية آدم في مقال باكر له نُشِر في كتاب الحدود المتسعة للإيمان بالـله.. ففي تحليل به كثير من جوانب الاتفاق وبعض جوانب الاختلاف التفصيلية بيننا يصل لنتيجة (مستيكية) أتوقف عندها لأنها تمثل خلافاً جوهرياً بين التقدير المستيكي للأب متى وبين التحليل التفصيلي عندي.. يقول الأب مَتّى إن خطية آدم كانت قبوله: "مشورة جديدة ليس مصدرها هو الـله".. هذا تقرير صحيح ولكنه ناقص.. وهذا عين الخلاف المنهجي، انه يجتزئ المعطيات، فالمشورة ليس فقط مجرد "غريبة المصدر"، ولكنها أيضاً مناقضة ومكذبة تمام المناقضة والتكذيب لمشورة الـله.. فهل كان هذا غائباً عن آدم؟ خطأ المفسر هنا واضح في اعتبار أن آدم فهمَ المناقض المكذب على أنه مجرد مصدر آخر غريب.. وبناءً على هذا يكمل فيقول: "لم يكتشف فيها آدم في البداية المخالفة العقلية التي تضمنتها؛ لأن كون آدم يسمع لغير الـله فهذا هو بعينه بداية العصيان".. وأكرر السؤال: هل في مشورة الحية التي تناقض مشورة الرب الإله وتُكَذِّبها تكذيباً صريحاً وقحاً أي مواربة تعطي آدم عذراً لعدم اكتشافها؟ كان آدم يعلم أنه عاصياً بأكله من الثمرة، وهو نفسه، آدم، لم يختبئ خلف هذا العذر (المستيكي) الذي وصل إليه الأب مَتّى بتحليله، بل بحث عن آخر ليواري به خطأه، ومثله فعلت حواء.. وكان في تنصلهما من العصيان اعتراف بفهمهما أن ما فعلاه كان عصياناً.. ولكن الأب مَتّى يرى صراحة في خطية آدم، كما وضح مما مرَ، أنها مبنية على عدم رؤية للعصيان المختبئ في العمل!..
    ويعود الأب مَتّى ليقرر أن الشيطان أخفى العواقب الحتمية عن آدم.. مرة ثانية: هذا جزء من الحق، تكملته أن العواقب، وإن تاهت تفاصيلها عن ذهن آدم، ولكن غايتها كانت معلنة له من قبل الرب الإله: الموت المؤكد.. موتاً تموت..
    وينتهي في الملخص لقوله: "وهكذا قبلها آدم كشهوة في نطاق الخير، ولم يلحظ الخدعة التي فيها أنها شهوة خير متصل بالشر ومنفصل عن الـله".. واضح أن الأب مَتّى ينطلق هنا من فرضية ساذجة الطوباوية عن المبدأ الخيّر في كل شئ.. ولست هنا بصدد مناقشة إشكالية مصدر الشر، ولكني أكتف بإثبات أن رؤية الخير في ذات الشر هو عمل تسطيحي ينتج من الاستقراء بل القراءة الناقصة.. فأما إن آدم رأى في الشر خيراً فلا يصح إلا من باب أنه رأى خيراً ذاتياً أنانياً لنفسه، وهذا في ذاته ليس خيراً.. ثم ماذا عن نذالة عمله؟ هل رأى في تحديه للرب الإله خالقه ومحاولة سرقة المعرفة رغم وصيته خيراً؟.. وأما أنه لم يلحظ الخدعة في ربط الخير كطعم بالشر كشوكة موت، فهذا صحيح، ولكن عدم رؤيته للخدعة هو في ذاته دينونة عليه، لانه يكون قد قبل العصيان طالما كان في تصوره بمنجاة عن العواقب..
    الخلاصة من رأى الأب مَتّى أن طبيعة ومخالفة آدم للوصية لم تكن واضحة عنده.. وان العصيان أتاه متخفياً في صورة خير محض..
    (الاقتباسات في الفقرات السابقة في هذا الفصل من كتاب الحدود المتسعة للإيمان بالـله ومقالات أخرى الطبعة الأولى صفحات 41 و42 و45)
    أحاول الآن أن أفهم محاولات الأب مَتّى المتوالية إلى تخفيف جرم آدم، فأقول أن رأيه المفرط في الخيرية لحد التجاوز المؤدي للنتيجة العكسية هو أحد مداخله المحتملة لهذا التفسير الواضح العوار.. وللأسف يسود هذا التعليم الفاسد أيامنا، وتدور في فلكه عناصر كثيرة مثل المغفرة غير المشروطة والتوقف عن عمل دينونة القديسين وما إلى ذلك من أفكار غريبة عن الكتاب المقدس وعن المنطق..
    ومدخل نظري تفسيري آخر لعله كان محاولته لعلاج مشكلة نظرية هي مشكلة التوفيق بين طبيعة آدم الخيرة، وبين حقيقة سقوطه في العصيان.. وأظن أن الحل البسيط لهذه المشكلة هو التفسير الذي يفسر سقوط وقيام كثيرين إلى الآن.. فآدم، كمثال الخطاة، غير الأشرار بالسبق والترصد والنية، كان مدفوعاً بقوة عمل سالبة مزدوجة تمثلت في دافع وجداني قوي تمثله امرأته، ومعها جاذب قوي يذف في ذات اتجاه الدفع تمثله شهوة تزينت له في الثمرة.. وبكل بساطة التفسير وتحت خط عمل الدفع والجذب غابت النتائج عن ذهنه، غابت ولكنها كانت معروفة له غير خافية.. إنها خدعة الشيطان الشهيرة أنه يُصَوِّر قضية الخطية لنا كقضية كم لا قضية كيف، فيتيه الإنسان الذي يُخدَع بحيلته في قياس بشاعة الخطية ووزنها أمام كمية رحمة الرب، أو قياس كم وطأتها مقابل قوة المقاوم على الاحتمال، أو تقدير النفع العاجل منها مقابل الأضرار الآجلة، وكلها معايير كمية تخفي بخبث شيطاني حقيقة نوعةي وهي أن الموت (الذي لا يقاس بكم ولا عدد) متربص بالخاطئ.. وهكذا درات في ذهن آدم أفكار من قبيل لعل الرب الإله يُقًدِّر كمّ الإغراء، ويضع في اعتباره مقدار الضعف البشري، ولا يطيل فترة غضبه، ولعل الرب الإله كان صادقاً أن ثمرة العصيان موت ولكن ماذا يمنع أن الحية صادقة أيضاً باعتبار أن الرب الإله سيندم على الشر ويعفو وينسى.. وهكذا ينسى الإنسان المخدوع جوهر الخطية أنها عصيان وانفصال عن الرب الإله، ويفتح فم ذهنه ليبتلع مخدر الكم حتى يتمكن من بلع سم الخطية دون ألم.. هذا كل ما في الأمر.. وهذا هو ما يتكرر مع كل إنسان يسقط ضعفاً ودفعاً وغوايةً..
    ولكن إن صح هذا الشرح لحال كل إنسان، المولود أصلاً بعد سقوط آدم وارثاً للطبيعة الفاسدة، فإنه لعله لا يصح مع ىدم نفسه قبل السقوط، والذي لم يكن يعرف إلا الخير؟ أليس هذا صحيحاً؟ نعم صحيح وىدم لم يكن يعرف إلا الخير مثل الرب الذي لا يعرف خطية وغير مجرب بالشرور.. ولكن المعرفة غير العلم، فإن كانت عدم معرفة آدم بالشر والموت عذراً له، فإن علمه بالشر يسحب منه هذا العذر.. والعلم هو الإدراك الذهني بينما المعرفة هي الاختبار.. آدم لم يعرف الشر، ولكن معرفته بالخير تقود إلى علمه بان الشر هو عكس ما هو فيه، وىدم لم يعرف الموت، ولكنه كان يعلم يقيناً ما هو الموت وإلا ما كان هناك معنى لتحذير الرب له بالموت..
    ولكن هذا الشرح السالف في الفقرتين السابقتين، البسيط المترابط من وجهة نظري المتواضع، لا يلقى التفاتاً من الأب مَتّى تحيزاً لفكرة (مستيكية) شفافة دونما داع أو احتياج، ورغم ما يتكشف في هذه الشفافية من نقاط ضعف وخروج عن النص..
    ولقد أشرتُ أولاً للعقوبة الشعرية الكامنة في منهج الأب مَتّى بوصول المنتهج لنهجه الأثير لعكس النتيجة المرصودة سلفاً.. وفي هذا المثل تتحقق تلك النتيجة، فالأب مَتّى بدا بإثبات حرية الإرادة التي لآدم (بحسب الفهم السائد الخاطئ للحرية أنها الاختيار.. ولكن آدم في تحليل الأب مَتّى يظهر على عكس المطلوب مجرد دمية حسنة الصنع، ولأنها صنيعة الـله فمن ثم لا يمكن، لها حسب الأب مَتّى، أن تعصى، ويتأكد لنا أنها مجرد دمية عندما نرى الشيطان، بحسب تحليل الأب مَتّى، يقودها لورطة لا تعلم تلك الدمية لا حقيقتها أنها عصيان، ولا نتائجها أنها سقوط في الشر.. مجرد دمية جُبِلَت على الخير فلا ترى إلا الخير حتى وهي تعصي خالقها مصدر الخير ذاته!

    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book وهناك من قبيل هذا المنهج المتسرع الناقص الاستقراء خطأً أكثر سخافة من الجميع، وردَ في كتابه "بولس الرسول" يقول الأب مَتَّى فيه أن الخطايا العمد لا كفارة لها في العهد القديم.. ويشير للإصحاحين الرابع والخامس من سفر اللاويين.. وهو يريد بذلك، بحسب ما فهمت، أن يؤكد حتمية موت الخاطئ عن خطيته دون كفارة، ثم يصل من ذلك أن موت المسيح كان فيه موتاً بالحقيقة لكل خاطئ لأنه لا يمكن التكفير بدم المسيح عن خاطئ لم يمت في المسيح.. كان يهدف لتأكيد هذه الحقيقة أن الخطاة ماتوا بالفعل في جسد المسيح.. وفي طريقه لربط حجته بغايته سقط في التعميم المخل (تعميم حالات محددة من خطايا العمد التي توجب موت الخاطئ فيها دون كفارة) وسقط في فقرب الاستقراء (قرا شواهد عن ذبائح الخطايا السهو دون استكمال بقية الشواهد) وتسرع الاستدلال (الذي يظهر مع الفحص فساده وتاديته في المجمل لعكس النتيجة)..
    والموطن الأول للخطأ في فكرة الأب مَتّى هو من النوع المتحدي للتصديق، من تلك الاخطاء التي تتسم بالتسرع المفرط فوق الوصف، لقد اختطف الأب مَتّى بعض الشواهد قبل تمامها، وتسرع في الحكم الخطير بموجب ما قرأ، وهو حكم من خطورته كان يستدعيه أن يقرأ الكتاب المقدس كله قبل الخروج به، ولكنه لم يصبر حتى يستكمل الإصحاح التالي لشواهده، إذ بمجرد أن لمح بوادر معطيات تتفق مع غايته سارع بتقريرها تقريراً مؤًكداً.. ولو أنه قلب الورقة وقرأ الإصحاح السادس من سفر اللاويين، لوجد ما يهدم تقريره تمام الهدم ولوجد ذبائح كفارة تقدم لأكثر من خطية من خطايا العمد، إحداهن خيانة الأمانة وهي بلا جدال خطية عمد.. صدق أو لا تصدق ولكن الأب مَتّى سقط في هذا! وما يقع في مثلها إلا الأب مَتّى وخصمه الكبير..
    والموطن الثاني هو التسرع دون صبر، ولكن في الاستدلال هذه المرة، إذ لم يكن بحاجة، كي يصل لإثبات غايته، أن يأخذ من هذه القضية دليلاً، ويحتاج عرض وجه الخطأ لبعض التفصيل: فإن خط الأب مَتّى في ابسط صوره هو أن الذبائح رمز للمسيح، والذبيائح ليس بها تكفير عن الخطايا العمد، إذاً لزم أولاً أن يموت الخاطئ المتعمد خطيته عن نفسه، ولزم ثانياً أن كفارتنا في المسيح تكون بموتنا فيه وليس موته عنا.. ولكن بنفس هذا الخط من الاستنتاج يمكن الوصول لنتائج ثابتة الفساد كالآتي: الذبائح تُقضدَّم عن الخطايا غير العمد، إذاً ينتج أن المسيح يكفر عن خطايانا غير العمد دون حاجة لموتنا فيه! وعلى هذا النحو تنقسم ذبيحة المسيح لقسم يلزمنا الموت معه فيه وقسم يكفينا دون حاجة لشركة، فإن كانت الخطايا السهو لا تحتاج أن نموت مع المسيح لنخلص منها فهذا يعني أنها خطايا لا صلة لها بالطبيعة العتيقة المطلوب صلبها مع المسيح، وهذا يعني ما هو أخطر وهو أن الخليقة الجديدة خاضعة في طبيعتها الجديدة لنقيصة السهو في الأمور المقدسة (طالما تلك الخطايا ليست من الطبيعة العتيقة).. وبالجملة ليس أسخف من هذا التصور والتقسيم في فاعلية ذليحة المسيح والذي يؤدي استدلال الأب مَتّى إليه ولو لم يقصد أو يدر بباله.. الصحيح مقابل كل هذا أن ذبائح ناموس موسى نبوية باعتبار الناموس يتنبأ عن المسيح، ناقصة باعتبار أن المسيح جاء ليكمل، تأديبية باعتبار أن الناموس كان مؤدبنا للمسيح، ولكنها من كل وجه لا تكفر تكفيراً جوهرياً ولا تاماً بحكم قول الرسول إن دم تيوس وعجول لا يقدر أن يكفر خطايا، وعلى هذا فسواء وُجِدت ذبيحة ناموسية للتكفير عن الخطية العمد، أم لم تُوجَد، لا ينجو الخاطئ في كلتي الحالتين من حكم الموت العامل فيه حتماً بحكم الخطية التي سقط فيها، وأن احتياج الخاطئ هو لعمل فوق الناموس ينتشله من موت وقع فيه بالفعل.. وهذا العمل الفائق يلزمه أن يشترك فيه لكي ينال نصيبه منه، وذلك بحكم طبيعة الاحتياج نفسه، فالخطية أصلاً أنفصال عن الرب بالإرادة وبالحال، وحتى خطايا السهو وإن لا تتساوى في الدرجة وخطورة النتائج مع الخطايا العمد، ولكنها من ذات الطبيعة التي هي انفصال عن الرب – أليس الرب لا يسهو ولا ينسى وساهر على كلمته ليجريها أفلا تكون خطايا السهو انفصالاً عن قداسة الرب الساهرة؟ والخطية إذ هي انفصال عن الرب في جميع اشكالها، فالخلاص لا يكون إلا بالاتحاد به، وعلى ذلك يلزم لمن يريد نصيباً من الخلاص بالمسيح المصلوب ان يتحد معه في موته وقيامته، فيموت معه عن الخطية ويقوم معه في خليقة جديدة، خليقة جديدة منزهة عن خطايا العمد وعن خطايا السهو.. إن حال الموت والقيامة هو حال خلقة طبيعة جديدة ورذل أُخرى قديمة، طبيعة بجملتها بمنتوجها من خطايا العمد والسهو، وليس تقسيماً وفصلاً وانتقاءً بين خطية عمد وخطية سهو..
    والوجه الثالث هو وجه العقوبة العادلة التي أشرت إليها في فقرة سابقة.. عقوبة إثبات العكس الناتجة من استخدام المنهج المتسرع استقراءً واستدلالاً.. فطالما كان انعدام الذبائح عن كل الخطايا العمد هو دليل على لزوم الموت في المسيح لنوال الكفارة، وطالما ثبت أن الدليل غير متحقق إذ أن الذبائح كانت تُقَدَّم بالفعل عن بعض الخطايا الخطايا العمد، فإذاَ كانت النتيجة التي هي لزوم الموت مع المسيح غير متحققة.. وطالما بقي استدلال الأب مَتّى صحيحاً مع ثبوت بطلان دليله طالما بقيت النتيجة هي عكس ما أراد أن يثبت، ولا ينقذ من هذه النتيجة إلا أن يكون الاستدلال نفسه فاسداً.. وبالفعل فدليل الأب مَتّى باطل واستدلاله فاسد ونتيجته صحيحة، ومن أسف أنه ربط دليلاً باطلاً باستدلالٍ قاسد بنتيجة صحيحة، ولكنه الأب مَتّى..
    الطريف وكعادة خصومه، لم يفهموا غرضه من مقولته الخاطئة تلك، وقدموا بعض الأدلة ضدها تثبت عدم فهمهم لما قال، وإن كانت لا تثبت الخطأ فيما قال، وفاتهم معه هم أيضاً أن يراجعوا شاهده في سفر اللاويين ليظهروا الخطأ من طريق قصير ومُوصِّل.. والمضحك هنا أنهم وثقوا في دقة مراجعته فتكاسلوا عن أن يفتحوا الكتاب ويراجعوا وراءه، واكتفوا بعادتهم في الرد دون فهم لما يردون عليه، ولما يردون به..
    وأيضاً بمناسبة هذا الخطأ أسوق حواراً لطيفاً لي مع أحد محبي الأب مَتّى المسكين قبل نياحة الأخير.. إذ عرضت عليه هذا الخطأ وأظهرت له شواهد واضحة من الكتاب لتفنيده، ثم سألته: "ما رأيك؟".. فأجاب: "قطعاً خطأ، ولكن ما العمل ولا أحد يمكن أن يراجعه فهو دماغه ناشفة! ".. ولم أحظى بمعرفته الشخصية، ولكن لو صح ما قيل، فـ(نشفان الدماغ) في قضية كهذه ليس من دواعي شرف صاحبه على أي وجه وغن كان هو شريفاً..

    ونفس إشكالية المنهج المجتزئ المتحيز لجزء على حساب الكل المختطف للنتيجة يتكرر جديداً في مثل آخر، في تفسيره ليونان، ويزيد عليه ظهور عنصر آخر لثقته المستيكية المفرطة هي ما يعتبره تعايشه مع الشخصية الكتابية التي تجعله يتحدث عنه كمتحدث رسمي..
    في تفسيره لموقف يونان المستعفي من إنذار أهل نينوى، يعرض الأب مَتّى المسكين أولاً رأياً مخالفاً لرأيه هو، ورأياً آخر، ثم آخر، وفجأة يقرر تقريراً بدون مناقشة، بدون حشد لأدلة تؤيده، بدون تفنيد لازم، أن كل هذه الآراء خاطئة.. هكذا.. عبارة مصمتة.. ثم بأكثر ثقة يقرر كمن هو متحدث رسمي باسم يونان، أن يونان استعفى من إنذار أهل نينوى لأنه كره أن ينادي بالهلاك، كأنه، كما يُفهَم بالضرورة، لو كان قد كُلِّف بنداء الخلاص والرحمة لما توانى.. هكذا فهمتُ رأيه من مقال نشر بأحد أعداد مجلة مرقس لعله عدد فبراير 2003.. لقد صبغ الأب مَتّى كعادته الأثيرة يونان بصبغته الشفافة.. وليس هذا في ذاته وجه اعتراضي، وإنما اعتراضي مبدأً هو على إخلاء الشرح من آليات البرهنة وربط النتائج بالنص ربطاً منطقياً لا يعجز عنه عقل جبار كعقل الأب مَتّى.. هنا مثل واضح على جنوح الأب مَتّى المسكين، في أحيان من تفسيره، لتقرير ما استقر عنده من معايشته للشخصية الكتابية، فيرى من ثم عبثية الجدال والاستدلال على ما يظن أنه يعرفه معرفة شاهد عيان ومتحدث مُفَوٌّض من قبل صاحب الأمر نفسه.. كأنه يرى أن اللغة عاجزة، فيعرض عن استخدامها للشرح، ويكتفي باستخدامها للتقرير..
    إن حالة الأب مَتّى مع يونان تكشف عن جنوح أبعد للشفافية والتحيز (المستيكي) عما مر بنا أولاً في حالة آدم التي درسها وحللها وكتب فيها قبل مقالته عن يونان بأكثر من أربعين سنة.. فهو هذه المرة لا يكتفي بشفافية النتيجة.. بل يبدأ (شفافاً) من البداية في الأسلوب ذاته، فيلقي عن كاهله عبء التحليل، ولايتورط في ثقل ومادية اللغة، عكس ما كان عليه من حال في دراسته السابقة لحالة آدم التي أجهد فيها نفسه وقارءه في تحليل مفصل.. لقد اعتاد الأب مَتّى إن استهوته شخصية من يدرسه، أن يعكس حالته الشفافة عليه، فيصيره شفافاً مثله، ويبذل جهداً ذهنياً ولغوياً ضخماً لصقل هذه الشفافية، وإقناع قارئه بها.. ولكنه هذه المرة ينتقل للنتيجة مباشرة، ودون صبر على التحليل، كأنه لا حاجة لتحليل ما هو ظاهر شفاف، ويقرر ما يقرره أمراً واقعاً، كأنه تضجر بعد مرور عشرات السنين من بقائه أسيراً لعجز اللفظ.. إنه يعايش الشخصية تعايشاً (مستيكياً) على مستوى العقل اللاواعي، فما حاجته للشرح؟ ألا يكفيه التقرير؟ وهل يحتاج المتحدث الرسمي لإثبات أن ما يقوله هو ذات ما يريد صاحب الأمر قوله؟ أليس هذا هو ذاك بحكم التعريف؟
    وهذه العادة التفسيرية القاتلة تقود لمخالفات مخجلة للنص، وفي حالتنا هذه فإن يونان نفسه يرى في نفسه راياً بخلاف رأي الأب مَتّى فيه، فيجلس حزيناً على خلاص نينوى، ولو كان قد استثقل النداء عليهم بالهلاك لأنه لا يطيق لهم إلا الرحمة، فما باله حزين وقد آلت النتيجة لمبتغاه؟ نسي الأب مَتّى هذا السؤال الواضح من النص وعذره في تعجله المستيكي وإيقانه بما يعرقه عن يونان من معايشته إياه، إن كان في هذا عذر..
    وعندي، فإنه حتى معايشة الشخصية يستدعي عرض مداخل تَعَرُّف الكاتب عليها، ولا يكفي او يصح أن يفاجئ القارئ بنتيجة معايشته لها مقطوعة من جذورها، وإلا حكم على القارئ بأن يبقى غريباً عن الشخصية، ويكون هو وحده الظافر بمعايشتها.. إن معايشة الشخصية إن كان حقاً قد توفر للكتاب فعليه أن يعرض مادخل تعرفه عليها (هذا منهج أحببته واستخدمته في مجموعة لقاء مع يسوع).. وللأسف فإن هذه الثقة (المستيكية)، التي يعشقها الأب مَتّى المسكين، كثيراً ما تخرج عن محلها، وهو ما حدث بالفعل في تفسيره لموقف يونان، والذي تقف ضده شواهد كثيرة سواءً في النص، أم في أفعال يونان اللاحقة وتصريحاته، أم ما يتبين من الدراسة الواقعية المتأنية للظروف المحيطة بيونان.. باختصار كان يونان نبياً يهودياً لم يحتمل أن يفتح لأهل نينوى الامميين الأعداء بصيص أمل للتوبة.. لاسيما في وقت كان اليهود أحوج ما يكونون لها.. ولم يفهم أبعاد عمل الرب الإله مع البشرية في المستقبل، لانحصاره في الماضي الآبائي المجيد لشعبه، وفي الحاضر المخجل لهم روحياً وسياسياً.. قطعاً أتفق مع الأب مَتّى المسكين أن يونان استوعب حتى أعماقه محبة الرب الإله وطول أناته وندمه على الشر، ولكن أختلف معه في اتجاه الانطلاق من هذه الحقيقة نحو الاستنتاج.. لقد فات الأب مَتّى وهو يبني على حقيقة معرفة يونان بمحبة الرب هذا السؤال: هل كانت أعماق يونان التى استوعبت هذه المحبة كفء لأن تغير يونان وتحرره من ضيق النظرة؟ لا أظن، بل على العكس فإن عجز يونان عن التجاوب مع المحبة الإلهية يظهر بأكثر روعة عمل الرب يسوع عندما نقابله في تجسده بيونان الذي دُعِي أن يكون مثالاً له فلم يوجد، وخاب من مجرد القدرة على دعوة اعدائه للتوبة لعلهم يخلصون، نقابل هذا بدعوة المسيح ليس لأعدائه فقط بل لمن أتى إليهم ليصلبوه ليخلصهم بذات صلبهم إياه.. (ليس الجميع ولكن من آمن منهم وتاب وقبل)..
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book ولسّة، ولكن حبة وحبة أ-- نا زهقت على فكرة من الشغلانة دي وعايز ارجع للتأمل المحض وطرد جميع مواضيع النقد من ذهني والاستفراد بالكتاب المقدس
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book وقضية أُخرى متعلقة، هي الأخطر في البحث، وأعني بها قضية الفداء، ومدخلي فيها لتحديد نقطة بحث هي قول الأب مَتّى في كتاب "بولس الرسول" إن القول بان المسيح صُلِبَ عنا هو خطأ لأن كلمة عنَّا توحي بأن الصليب كان استحقاقاً شخصياً (يقصد أنه ليس عقوبة مستحقة على خطية شخصية للخطاة استوجبت موت شخص بديل عنهم لتنال الخطية جزاءها بصرف النظر عن متحمل العقوبة – كمثال دين مستحق على بضاعة ليس مهماً من يوفيه ولكن المهم ان يتم إيفاؤه)، ويستطرد الأب مَتّى فيقول أن الصحيح بالمقابل هو القول صُلِبَ لأجلنا، باعتبار أن الصليب إعلان محبة مجردة إذ لم تكن هناك عقوبة أصلاً.. وواضح لمن سبق له سماع الأب متى في القديم (سمعت له عظة تعود لأواخر السبعينيات كان فيها أنسلمياً أكثر من أنسلم) أن موقف الأب متى الآن من شرح الفداء هو فتح وتجليات غير مسبوقة عنده.. ومن الطريف أن بعض من طُلِبَ منه الرد عليه، لم يدرك أو لم يتوقف عند غرضه من استبدال الحرف بآخر، أو لعله تعمد هذا لتمرير الإشكالية – وفي ذلك حكمة لا أنكرها، واكتفَى بالاستخفاف أو التخفيف بالفرق وقوله: "عنا زي لأجلنا ولأجلنا زي عنا، إيه يعني؟".. والحقيقة أن الفرق خطير! وقبل مناقشة التعبير المتاوي ونقده أسجِّل ملاحظة خطيرة على شرح الأب مَتَّى للفداء، وشرح تابعيه وأصدقاء فريقه معه، وهذه الملاحظة المفاجَأة هي أنه لا يقدِّم شرحاً أصلاً!!! بجد.. لا يجيب ما علاقة الصلب بالفداء، أو ما وجه أو حيثية أو مبرر أن يتم الفداء بالصلب أو حتى بموت المسيح.. فقط قال "الصليب كله محبة في محبة".. على عيني وراسي وفي قلبي أيضاً.. ولكن أين الشرح وإجابة الأسئلة؟ لدى خصوم الأب مَتَّى الشرح الانسلمي السائد بصحيحه وخطئه، وكان له هو نفسه ذات الشرح قديماً --وفي عظة للجمعة الكبيرة سمعتًها له تعود لأوخر السبعينيات سمعته يبالغ في التعبيرات الأنسلمية (ذات الأصل السكندري كما يظهر في "تجسد الكلمة" على نحو ما) فيقول ما لا يجسرون هم على قوله ويصف المسيح بأنه لم يكن بريئاً على الصليب! ولكن الآن في موقفه (المستيكي الجديد) لم يأبه بتقديم شرح، واكتفى باقتراح تعبير غير مشروح بدلاً من تعبير له شرح باطل في رأيه.. أين شرحه هو؟
    أعود عموماً لحيث بدأت لمراجعة اقتراح "عنا\لأجلنا" من الأب مَتّى ومؤاخذة خصومه له: هو يقدم نقداً على كل حال لشرحهم لا أوافقه فيه على إطلاقه دون تحفظ، كما لا أوافق خصومه دون تحفظ مقابل، ّلكن بفحص متأنِ هادئ آخذ من القولين بعضيهما وأصل لبعض الحق، مقِرَّاً أن سر الفداء يبعد عن قدرتي على التعبير النظري ولعله يبقى بلا إحاطة نظرية إلى مجئ الفادي..
    ولكن مالا يُدرَك كله لا يُترَك كله، فما الذي يمكن إدراكه؟ احتياج الفداء للذبيحة في بساطة بديهية – والبديهية لا يمكن إثباتها كما هو معلوم، ولكن هناك ما يمكن فعله بشأنها: يمكن إعادة تقديمها بصفتها الصحيحة على أنها بديهية في زمن تفوت فيه البديهيات عن الأذهان ويحاول الفريقان عبثاً الواحد إثباتها والآخر تفنيدها، بينما هي بديهية لا تقبل اتفنيد ولا الإثبات وتكتفي بإثبات نفسها.. يمكن مع البديهية تقديم المعطيات الكثيرة التي تظهر صحتها ثم بتحدى المعترض على إثبات العكس.. الشارح للفداء ينبغي أن يبدأ بتقرير أن الفداء بالذبيحة البريئة بديهية، ودون حاجة للخوض في متاهات مفاهيم العدل والتشبيه بالمحاكم الأرضية دون كل ذلك يبقى الفداء بالذبيحة بديهية.. ولكن أي نوع من البديهيات؟ ليس بديهية رياضية أو من بديهيات المنطق الأرسطي.. وغنمكا هي بديهية إنسانية.. أليس للإنسان طبيعة معروفة؟ أليس لكل طبيعة بديهياتها؟ وهكذا طبيعة الإنسان مجبولة على تلك البديهية.. والأمثلة تترى: الإحساس بالذنب والذي ينزع نحو القسوة على الذات يدل على أصل بديهية احتياج المخطئ لذبيحة لفدائه يبدأ في بحثه عنها بمحاولة ذبح ذاته جزئياً.. شريعة تقديم الذبائح أو التقدمات البديلة عموما التي عرفها البشر منذ البدء ولم يجادلوا فيها بأي نوع منلا المعارضة يدل على نضج تلك البديهية لديهم مع خروجها من حدود قلق الضمير الداخلي إلى تقديم ذبيحة ظاهرة أمامهم.. الطبيعة البشرية جبلها الرب الإله على تلك البديهية مثلما جبل الذهن على بديهياته الرياضية، وفي هذه البديهية المدخل الخطير لإظهار محبة الرب الإله للإنسان إذ يقوم هو بدور الذبيحة.. وفيها أيضاً المدخل لإظهار بر الرب مقابل فساد الإنسان إذ أن نقاوة الذبيحة شرط بديهي فيها.. مشهد آخر في الفداء يكاد يكون بديهية إنسانية ثانية أو هو كقولهم في الرياضيات: نتيجة مشهورة.. ذلك هو المعادلة المتأرجحة للخاطئ أمام من أخطأ في حقه، تشجعه للعودة محبة من أخطأ في حقه تجاهه، ويمنعه عنها قباحة خطيته، والآن إذا وقف الخاطئ أمام الرب الإله شخصياً فهو أمام محبة لانهائية لشخصه وبغضة لانهائية للخطية فأي اللانهايتين يتغلب سيحسم مصير الخاطئ، إما تائب عائد ولائذ بمحبة الرب، أو يائس فارّ منه.. وهذه كانت مشكلة قايين الذي رأي خطيته أعظم من ان تُحتَمَل – أي رأى بغضة الرب لها تغلب محبته، وهذه مشكلة أفلاطون ونسطور وأتباع الأديان اللاحقة على المسيح، ومشكلة كل خاطئ يتردد في الظهور في الموضع المقدس لتغلب شعوره بقبح الخطية على رؤيته لمحبة الإله.. أين حل هذه المعادلة؟ فقط في الصليب، لأنه في الصليب يقول الخالق إنه وإن أبغض الخطية جداً ولكنه ها هو يحملها ويُقذَف بها، فلماذا ما لم يكن لسبب أعظم، ولا حب أعظم من أن يضع احد نفسه عن احبائه.. على الصليب قدم الفادي البار الدليل أنه يحب الخاطئ أكثر من بغضته للخطية وإن وصلت الأخيرة للانهاية، فالأولى تتعدى اللانهاية، ويعلم الرياضيون أن في اللانهايات هناك لانهاية أكبر من الأُخرى..
    هذه الإجابة وهذا الحل للمعادلة الصعبة لا يكون إلا في مشهد الصليب..
    الفداء لا يمكن إدراكه كله، ولكن بعض الفائق على الإدراك ممكن، وشكراً للأب مَتًَّى كل الشكر أنه ساهم بقوة في دفع الموضوع الخطير لأماميّة ساحة المناقشة الروحية اللاهوتية، وأعطاني الفرصة لمناقشة تلك القضية والوصول لهذه النتيجة للمرّة الأولى في حياتي، وإثباتها في حنايا مناقشة سيرته وتراثه، فوإن كنت من الناقدين، ولكنني لاشك من المقدرين المعترفين بالفضل، والآن وعلى عودة ذكره أعود لنقد اقتراحه "عنا أم لأجلنا"، مع مزيد من النقد ومزيد من الاعتراف بالفضل: فيمكن أولاً وبكل بساطة لغوية أن يُراجَع الأب مَتّى بالمنطق اللغوي الذي يترفع عليه فيًقال له أنه قد قبل حسناً كلمة "لأجلنا"، والحقّ أن ما فعله المسيح لأجلنا هو بالضرورة "عنا" لأنه لو كنا قادرين على فعمل ما فعله المسيح لأجلنا فما لزوم أن يفعله المسيح لأجلنا؟ إلا أن يكون قد فعل ما فعل لأجلنا عنا وبدلاً من عجزنا نحن عن أن نفعله..
    والآن وإذا كان الحال بسيط هكذا، وكما تصور بعض الأحباء الذين بسطوه في الرد، فلماذا بحق رفض الأب مَتّى كلمة عنا وأصر على كلمة "لأجلنا" بدلاً عنها؟ يمكن ببعض الصبر اللغوي دون سماجة إدراك بعض المعاني المثيرة التمايز في كلمة "عنا" بمقابل تضييق الأب مَتّى المتواصل لمعناها.. لقد قام خط التفكير عند الأب مَتّى بعمليات تضييق متتالية للمعاني فحصر معنى كلمة "عنا" فيما يخص الصليب في بدلية العقوبة، ثم حصر معنى البدلية في بدلية الاستعفاء بالبديل، ثم حصر معنى العقوبة في مفهوم النقمة، والآن إذ اقتصر معنى العقوبة عنده على الاقتصاص والنقمة، واقتصر معنى كلمة "عنا" على بدلية العقوبة، صار الصلب عنده أن المسيح تحميل عقوبة نقمة وأغنانا نحن عن احتمالها، وإذ استبعد من الفداء معنى العقوبة ومعنى البدلية أصلاً، فقد رفض كلمة "عنا" جملةً إذ هي في فهمه تحمل معنى الدبلية والعقوبة معاًً، وبحسب المفهوم الضيق الذي وضعه لكل كلمة، وكانت هذه هي خطورة رفضه للكلمة التي استخف بها خصومه ولم يتوقفوا بدقة عندم ما قال وشرعوا في التهكم المعهود منهم..
    فهل مع قليل من منطق اللغة يلتزم المدقق برفض كلمة "عنا" مع الأب مَتّى؟ لا، وهناك متسع رغماً عن تضييق فهم الأب مَتّى، وفي كل تعبيرات المعنى، فاولاً ليست البدلية بالضرورة هي بدلية عقوبة، وثانياً قليست البدلية دائماً بدلية استعفاء، وثالثاً ليست العقوبة دائماً هي عقوبة النقمة.. ولنفحص واحدة فواحدة..
    هناك الكريم الذي يتحمل نفقة بدلاً من الفقير، أو الشجاع الذي يتحمل مسيرة في طريق خطر بدلاً من خائف، أو القوي الذي يتحمل حملاً ثقيلاً بدلاً من ضعيف خائر القوي.. ليست البدلية دائماً هي بدلية العقوبة، وفي كل هذه المعاني فإن صليب المسيح وقف ساداً الثغرة كبديل..
    ثم ان البدلية نفسها لا تعني بالضرورة إعفاء المستبدل من العمل أو الاشتراك فيه.. وفي الصليب تحديداً فالبدلية ليست هكذا، وإلا فما هو قول الرسول: مع المسيح صُلِبت؟ ولكن أي مكان للبدلية في الصليب تحديداً؟ لقد احتاج البشر لمن ينزل في الحفرة لينتشلهم، بدلاً من أن يصعدوا بأنفسهم، أن يحملهم لأعلى بدلاً من أن يحملوا أنفسهم (إذ كان هذا محالاً عليهم)، أن يقهر العدو المستعبِد لهم (وهذا محال عليهم فمن انغلب منه الواحد فهو مستعبَد له أيضاً) وفي هذا العمل تحديداً يظهر بقوة معنى البدلية أنه جرد الرياسات بدلاً منا، وأن يفتح لهم واحد الطريق ليسيروا معه، بدلاً من أن يفتحوه لأنفسهم بأنفسهم (وهذا محال عليهم)، بالجملة أن يموت عنهم بدلاً من أن يموتوا عن أنفسهم (إذ كانوا أمواتاً بالفعل) ليقوم عنهم ليقيمهم معه (بدلاً من أن يقوموا بانفسهم لاستحالة ذلك عليهم).. هذه البدلية القائمة دائماً الواضحة في كل أوجه الفداء تحمل وتدفع كلمة عنا بكل قوة في المشهد، فالمسيح صُلِب عنا واحتمل الآلام عنا وفتح الطريق للآب عنا، ولكنها ليست البدلية التي نقف ونصفق فيها للمسيح، وإنما البدلية التي تنشئ عملاً وتفتتح طريقاً يلزم لمن يريد الانتفاع بها أن يشترك مع المسيح فيها فيساهم في العمل ويسير في الطريق، البدلية التي يقهر فيها المسيح الشيطان للمرة الأولى فيعلمنا ويعطينا السلطان أن نقهره في المسيح تباعاً، إنها بدلية المرة الأولى، بدلية تأسيس العمل والدعوة للشركة فيه، بدلية افتتاح الطريق والدعوة للسير فيه، وليست بدلية كل مرة ولا بدلية الحمل والدفع ولا بدلية الدعوة للمشاهدة.. وبحق كيف يمكن أن تُقال كل هذه المعاني بدون كلمة بدلاً منا وعنا؟
    إلى الآن وأظن أن الأب مَتّى يقبل هذا الشرح في اخطر قضاياه الخلافية مع خصومه، وأن جل ما في الأمر فذلكة لغوية من جانبي لم يقصد هو عداها وغن ترفع عن الدقة التي أرى لزومها، ولكن النقطة الخلافية الكبرى هي في قضية العقوبة، فهل في الفداء لبالصليب مكان للبديل العقابي حتى نفسح المجال برحابة صدر لكلمة "عنا"؟ نعم وبكل تاكيد، ويلزم الآن تفصيل وفحص معاني العقوبة.. ينبغي هنا أولاً استيعاب أن موت آدم لم يكن عقوبة تعسفية أو بقول آخر معاقبة arbitrary punishment من الرب الإله لآدم، كمثل عقوبة القانون للمخطئ مثلاً.. ولكنها كانت عاقبة طبيعية natural consequence مثل لسعة الطفل بالنار لو خالف وصية أمه وعبث بالكبريت.. والخلط بين معنيي العقوبة هو خطأ شائع بالفعل ويظهر إيحاء به في كتاب تجسد الكلمة للبابا أثناسيوس للأسف.. وهنا مكان ملائم لإضافة القول إن الشاهد الشهير: أجرة الخطية موت، يتحدث عن أجرة وليس عقوبة، وهي أجرة من الخطية لا من الـله.. والشاهد يعبر بلغة ساخرة من الخاطئ الذي يخدم الخطية منتظراً أجراً فلا يرث إلا الموت كعاقبة طبيعية.. ومقابل هذا يضع الرسول هبة الـله مقابل أجرة الخطية، والحياة الأبدية مقابل الموت.. والفهم العكسي لهذا الشاهد هو خطأ وخلط شائع بين الاجرة والعقوبة ينبغي الالتفات لتصحيحه.. وعلى هذا لا يكون الصليب مجرد عقوبة تعسفية تحملها المسيح بدلاً من البشر لأنه بمعنى المعاقبة أو العقوبة التعسفية لم تكن هناك عقوبة أصلاً، والصواب أن يقال أن المسيح شاركنا العاقبة الطبيعية لخطايانا التي هي الموت، شاركنا فيها وهو بلا خطية حتى يرفعنا منها.. وسأعطي مثلاً ساذجاً ولكنه يمثل هذا الوجه من المعنى: مثل هذا كمثل رجل حذر ابنين صغيرين له من الخروج بمفردهما وإلا وقعا في حفرة عميقة لن يمكنهما الخروج منها، فكان أن الولدين أغوتهما نصيحة صديق سوء فعصا الوصية وخرجا فسقطا في الحفرة، فأرسل الرجل ابنه الكبير خلف أخوته فخرج ونزل إليهما في الحفرة وأوصاهما أن يصدقا أنه جاء لانتشالهما لا لمعاقبتهما، وأن يتمسكا به ليخرجهما، فكان أن رفضه المتكبر منهما، وأمسك به مستنجداً ومصدقاً المتضع، فخرج وأخرجه معه.. هذا معنى العقوبة الطبيعية التي تعلقت أولاً بخطية آدم والتي تحملها المسيح دون خطية ليخرج منها الذين سقطوا فيها بالخطية.. ولا ينبغي الاستهانة بهذه العافبة الطبيعية ويُظَنّ أنها تقليل من قيمة الفداء، فهذه العاقبة الطبيعية للخطية تحمل مع الموت اللعنة والعار، وهذا تحمله المسيح، ومات موت اللعنة والعار، وقيمة الفداء في جوهرها أن الذي تحمل هذا هو الابن الوحيد البار.. هذا ليس قليلاً ولا يُستهان به، ويكفي للفداء.. ويزيد.. ومن ناحية أُخرى، فهناك عقوبة بمعنى التأديب بغرض تقويم الإنسان سواء قبل الخطية أو بعدها، وسواء من أجل الخطية أو من أجل معالجة الطبع البشري الضعيف، وهذه تحملها المسيح كإنسان لبس جسداً إنسانيا وإن كان بلا خطية فهو ليس بلا إنسانية، فتحمل كل ما يجوز على الإنسانية فتعلم الطاعة مما تألم به مع كونه ابناً باراً – لقد جاز المسيح هنا خبرة احتمال التأديب الإنساني الذي يختبر إرادة الإنسان ليرى غن كانت تفوق على ضعفه، والمثال الأعظم هو سهرة بستان جثسيماني، تحمل المسيح التاديب بهذا المعنى -- تحمل تأديب سلامنا عليه.. وهناك العقوبة بمعنى النقمة على الأشرار، كقول الرب لي النقمة أنا أجازي، وهذه لا يصح تصور وقوعها على المسيح على عكس الفكر البروتستانتي السائد للأسف..
    أظن بهذا التفصيل يصح بكل قوة استخدام كلمة "عنا" وبمعناها كبديل عقابي، أولاً لأن المسيح كان بديلاً عنا فيما لا نستطيع فعله الذي هو تأسيس الرصيد وفتح الطريق وسحق الشيطان على الصليب، وثانياص لانه احتمل ما كان عقوبة طبيعية حتمية للخطية التي هي انفصال عن الخالق، وبهذا الإحكام في تحديد المعاني يكون المسيح قد تحمل عقوبتنا وصُلِب عنا.. انتهي!
    لقد تحوطت في الشرح والتفصيل ورذل المعنى الخاطئ الذي قد يختلط مع المعنى الصحيح لاشتراك كليهما في اللفظ، ولكن لا أعتبر أن الأب مَتّى كلفني عناء تحليل وتفصيل، بل اعتبره صاحب فضل في الدعوة لهذا العمل الخطير، والذي فيه تم بكل شجاعة من جانبه رصد الأخطاء البروتستانتية الخطيرة في شرح الفداء، وإن اقترح هو بالمقابل التخلي عن لفظ صحيح فقد دعا إلى استبعاد معنى قبيح وخطير، وهذا هو المكسب من قضيته.. إنه من المؤسف أننا تورطنا لأجيال في تصوير الفداء على اعتبار أن المسيح تحمل الصليب استرضاءً للآب كتطييب خاطر أو تهدئة غضبه كما يُشاع، فلو كان الآب غاضباً على المسيح بديلاً لغضبه عن البشر، فلماذا غضِب على صالبيه حتى أن الابن تدخل لتهدئة غضبه عنهم بطلب المغفرة لهم؟ هذه هي غضبة الآب الحقيقية لأجل ابنه لا منه، وهذا هو استرضاء الآب الحقيقي من الابن بطلب المغفرة لا بسفك الدم.. ثم لو كان المقصود بالصليب هو استرضاء غضب عدالة الآب، فأية عدالة في صلب البرئ؟ وماذا عن غضب الابن عنا بدوره، من يسترضيه؟..
    ثم أخيراً لا أقصد المجاملة والتوازنات، وهذا ليس عهدي بنفسي، ولكني أرصد بموضوعية أن الخطأ في الشرح يكمن أساساً بين الفريقين في عدم التوقف لتحليل معاني كلمة العقوبة والانطلاق في الاختلاف من واقع كلمة حَدُّوها في معنى واحد، واختلفوا على النتائج المترتبة على هذا المعنى الواحد.. والخلاف قديم ولكنه تجدد فقط على يد الأب مَتّى بجرأته المعتادة في طرح القضية، وكشف خطأً ووقع في آخر: كشف خطأً في لب المعنى، ووقع في آخر في اللغة وفي بعض المعنى، وإن كان خطأه أقل ضراوة من الناحية النظرية والإيمانية.. ولأن السياق لا يتحمل مزيد من الشرح أحيل القارئ إن شاء لمقال "شرح عقيدة الفداء" إن كان لهذا المقال من يقراه او من صبر عليه لهذا السطر، معتذراً ومتأسفاً على جفاف اللغة وجفاوتها وانا اكتب في حال المرض متعجلاً وغرضي فقط تسجيل الافكار لا العرض على قارئ أُتعبه بقساوة اللغة..
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book وأختم الأمثلة التفسيرية التي استقرأت منها إشكالية منهج الأب مَتّى التفسيري بمثل من تفسيره لإنجيل يوحنا والذي كتبه في فترة عمق نضوجه وتركيزه وتراكم خبرته واستقراره على منهجه.. والحالة المختارة للدراسة هذه المرة هي تفسيره ليوحنا1: 16-17: "ونحن جميعاً من ملئه أخذنا، ونعمة فوق نعمة، لأن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا".. فعند الأب مَتّى تعني "نعمة فوق نعمة" نعماً كثيرة متوالية من يسوع المسيح فقط، وأن الناموس لا شأن له بالنعمة وليس هو المقصود، وعليه فإن الترجمة الشائعة "نعمة عوضاً عن نعمة" غير صحيحة لأنها تعني أن الناموس كان هو الآخر نعمة وأتى المسيح كنعمة بديلة وإن كانت فائقة عليه.. وهو هنا لا يألو جهداً في فتح فصول بلا حصر كُتِبَت في تفسير حرف "أنتي" في اليونانية وإن كان يعني فوق أم عوض أم مقابل.. لقد سبق ملاحظة نفاد صبر الأب مَتّى وقفزه لتقرير ما يراه صحيحاً في امثلة سابقة، ولكنه هذه المرة ومع تفرغه وعدم تعجله فإنه يستفيض في سرد التحليلات والشروح اللغوية، ولعل مرد ذلك لمحبته لإنجيل يوحنا وشغفه في الانفراد معه.. ولكن هل أعانت تلك المحبة (المستيكية) دقة التفسير؟ لا أنكر بدايةً أن الإنجيليّ حقاً يستعمل كلمة النعمة بخصوصية تصل لدرجة لم تتوفر لغيره في الإنجيل خلا بولس، وهذه هي النقطة الأقوى ذات الاعتبار القوي التي تقف مع صف تفسير الأب مَتّى أن الإنجيليّ عندما يقول النعمة فهو يقصد نعمة المسيح لا سواه، نقطة ذات اعتبار تفسيري قوي صحيح زادتها مستيكيته واعتباراته المسبقة قوةً واعتباراً فصدّرها جائراً على كل شئ عداها، ولكنها في ذاتها نقطة قوية لا ينبغي لي إهمالها وأنا أقرر تفسيراً مغايراً.. ولا يمنع أبداً في المقابل أن يوحنا النافذ على رؤية نعمة المسيح أنه كان متزناً لا ينزع نزوع الأب مضتَّى المتجاوز ولا يجور على حق الناموس في وصفه بأنه نعمة إذ أتى ذكره، بل على العكس أنه متى وضعها في كل محلاتها في سياق واحد فهو يؤكد خصوصيتها مع المسيح تأكيد اتضاح التفاوت بين البدائل عند المقابلة، وهي نقطة لا تقل قوة عن ملاحظة خصوصية كلمة النعمة عند الإنجيليّ يوحنا..
    فالآن ومع إنجيليّ لكلمة النعمة خصوصية عنده، مقابل أنه لا يمنعه ذلك من وضعها في غير موضع خصوصيتها لديه متى تعرّض لمحل ملائم لها، فكيف يكون التفسير الصحيح الوافي للنص مع بداية متكافئة الترجيم أو تكاد بين المعنيين؟ أجد هنا مكاناً لتلخيص هيكل المنهج التفسيريّ عندي: عندي كمنهج لتحليل نص كتابي أن تكون البداية بالنص بفحصه في سياق محله القريب، وقاموس اللغة يأتي أخيراً في السياق لما في كثير من أحيان استخدامه من منافاة لواقع اللغة.. ثم بعد استقراء كل عناصر السياق لغوياً وشخصياً ومن الملابسات والزمان
    والمكان، يصل المنهج إلى منتصف الطريق ومعه معنى قد أُخِذ من فحص السياق المحلي للنص بكل خلفياته، والآن يتقدم المنهج فيطوف بالمعنى الراهن لمقابلته وقياسه مع عموم
    البنية المسيحية الكتابية، ولو نجح ذلك المعنى في إيجاد مكانه في الهيكل اللاهوتي الشامل
    يكون صحيحاً دون شك، وإلا احتاج التحليل من بدايته للمراجعة..
    ومع هذا المنهج الهيكليّ البسيط ومع نص مثل الذي أمامنا يتقرر أولاً بقليل من الصبر، وبحكم منطق اللغة، أن كل ما أورده الأب مَتّى مما ذهب إليه السابقون في تمحيص الحرف "أنتي" مجرد تعمية!.. لأن جميع المعاني المقترحة لهذا الحرف لا غير معنى العبارة اليوحنّويّة، ولا تحد من اتساعه.. فالمعنى من النص يحتمل مذهبين: الأول أن موسى أتى بناموس والمسيح أتى بنعمة.. والثاني أن موسى أتى بناموس هو في ذاته وعلى نحو ما نعمة، أما المسيح فأتى بنعمة أعظم هي النعمة الحق، وعليه تكون نعمة الناموس مجرد ظل أو تمهيد لجوهر النعمة الذي أتى به المسيح.. كلا المعنيين يظلان محتملين مع كل ترجمات الحرف البسيط "أنتي".. فأي المعنيين يرجح إذن؟ أعطي صوتي للمعنى الثاني، فأولاً ومن واقع النص يأتي الحرف "كاي"، وهو أداة العطف، فاصلاً عبارة "نعمة فوق نعمة"عن "نحن جميعاً من ملئه أخذنا" وفي هذا كفاية لغوية لإثبات أن النعمتين المذكورتين لا تدخلان معاً كمفعول به للفعل السابق عليهما وإنما هما رأس معنى جديد آتٍ تفصيله بعدهما، وعلى هذا يُغلَق أقوى مدخل لمحاولة عزل الناموس عن تسميته بـ"نعمة".. ثم إذ يُستَكمَل المنهج المعتبر عندي ويُؤخَذ المعنى الروحي ليقارن بالروحيات في عموم الكتاب لاستحال إنكار أن الناموس هو نعمة باعتباره عطية مسرة من الرب الإله للبشرية غرضه سرور المجتمع في حدود قامتها القديمة، والرسول يقول إن الناموس مقدس وصالح، فكيف للعطاء الصالح ألا يكون نعمة؟ ولذوي الولع بالليتورجيات فهذا ما نصلي به أيضاَ: أعطيتني الناموس عوناً، وكيف لعون من الرب ألا يكون نعمة؟ أما الذي قاد للتعمية هو أن الناموس ليس غاية النعمة، بل مجرد نعمة تدبيرية، وأعني بالتدبير Economia هنا أمراً ليس مطلوباً في ذاته، ولكنه دخيل لإعادة تقويم الطريق.. فالناموس، وإن كان تدبيراً مؤقتاً، ولكنه يحمل كل أركان تعريف كلمة نعمة في معناها اللغوي والكتابي في بساطته: أي عطية مجانية دافعها سرور المانح وغرضها سرور الآخذ.. وفي مقابلة الناموس، يأتي المسيح بغاية النعمة، ليس مجرد نعمة تدبيرية، بل الغرض النهائي من النعمة، وهو ذاته، لذلك شفع الإنجيليّ بالحق فقال: النعمة والحق، ليشير إلى تمييز نعمة المسيح عن نعمة الناموس هو أنها الحق، أو الجوهر في النعمة.. فصحيح أنه إذا قيل النعمة مفردةً او معرفةً فهي تعنى المسيح، ولاسيما لو أتت في سياق يوحنوي أو بولسي، ويتفق مع هذا التدقيق في الأصل اليوناني، ففيه ترد أداة التفصيل to arthron قبل كلمة "النعمة"وقبل كلمة "الحق" وهي هنا تعطيهما قوة الاسم العَلَم كأن قول النعمة على الإطلاق، وبدون تفصيل أو تحديد، يعني نعمة المسيح لامتيازها عن كل ما سواها.. إذاً وبدون إنكار أن النعمة مطلقةً هكذا هي نعمة العهد الجديد في المسيح فإن الناموس متى تسمى بنعمة في ذاته فلا مجال ملزم للإنكار والتعسف مع حقه في التمتع بالوصف، وهكذا قصد الإنجيليّ ببساطة فيما أذهب إليه.. وبدون الإسهاب في التفصيل أكرر أن النص لغوياً لا يحسم الرأي تماماً، وأنني أتكلم عن ترجيح لغوي لمعنى لا ينبغي إنكاره لاهوتياً، وتفسيرياً، وهو أن الناموس أتى كنعمة في زمانه، ولكن الجنوح (المستيكي) للمبالغة في المعنى عن طريق إنكار المعنى الآخر هو الذي قاد الأب مَتّى لاعتبار الإنجيليّ واقفاً في صفه وقائلاً بقوله، وكيف لا وقد عاشره وتعرف عليه شخصياً وصار جديراً للتحدث بلسانه..
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book
    وهناك أمثلة أُخرى متوفرة أمام ذاكرتي تحمل نفس السمات المنهجية وتظهرها، وهي موقفه من نص إنجيل متى بشأن الأتان والجحش ابن الأتان، وتفسيره المتضارب العجيب بشأن تحديد يوم عيد الفصح، وهما مثلان يحملان من البحث أكثر من التفسير، فأؤجل مناقشتهما لفصل خاص بالأب مضتَّى كباحث.. وهناك أيضاً مما يحضر ذاكرتي تفسيره للقولين الربيّين في بستان حثسيماني "غن شئت فلتعبر عني هذه الكأس"، وعلى الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني"، ولا أظن أن في الطاقة والوقت فسحة لمناقشة التفسيرين الأخيرين، وأما الوقت الآن هو لتلخيص بعض سمات منهج الأب مَتّى في التفسير مع مراوحات بعضها عبر مراحله، ومع التجاوزات المصاحبة لها أو النابعة منها:
    المبالغة هي السمة الطبيعية الأبرز والأكثر اتساقاً مع منهج الأب مَتَّى ومع تعمقه وطول عشرته مع المعاني الروحية.. والمبالغة ليست دائماً ضارة كما هو متصور للوهلة الأولى.. ولمن يحب أن يفهم من الأدب اللغوي شيئاً فالمبالغة هي أداة أدبية لا تخلو لغة من مفردات تعبر عنها، وهي نافعة للتعبير عن عجز المتكلم عن إيجاد ما يكفي للمعنى، وهي آخر ما يملكه صاحب المعنى العالي لإيفاء معناه الفائق ما يملك الإيفاء، ولقد اعترف الأب مَتَّى مرةً على الأقل عَرَضَت لي بعجز اللغو عن معانيه الروحية العالية، وعلى ذلك فطبيعي إذ يفوق المعنى عنده اللغة المتوفرة أنه يستخدم المبالغات، وقد استخدمها بحلوها وبمرها وأبدع بها أحياناً وجار حيناً.. ومشكلة المبالغة هي عندما تخرج من طور الكم إلى الكيف، لأنها هكذا تكون قد جارت على المعنى.. ومن أمثلة مبالغاته المقبولة عندما قال مرَّة إن الـله ليس آخر بالنسبة للمؤمن، وهذه اثارت ضده زوبعة من أكبر ناقديه وكان يكفي هنا وضعها في سياقها والحكم عليها باعتبارها الصحيح كتعبير أدب روحي بليغ.. ومن الأمثلة السالبة للمبالغة التي تجور على المعنى وتحوله نوعاً لا مجرد درجةً هو من عظة قديمة للجمعة الكبيرة تعود للسبعينيات تكلم فيها الأب متى عن المسيح المصلوب فادياً، وكان وقتها لا يزال فيما يبدو يتبع الفكر الأنسلمي السائد فقال: "ماتقولوش يا آباء المسيح برئ.. لأ مش برئ لانه كان واخد مكان الخطاة"، وهذا من اخطر وأسوأ المواضع التي يحدث فيها مبالغة تخرج المعنى وتقلبه..
    والسمة التي تحتل مكانة الأول مكرر في منهج التفسير لدى الأب مَتَّى هي طغيان الروح (المستيكية) التي تقود الأب مَتّى لتعدي حدود تعايشه مع الشخصية الكتابية، وحدود الاندماج في المعنى الروحي العلوي، إلى الجور على النص.. وأما تعايش الكاتب مع الشخصية الكتابية التي يفسرها أو يفسر لها، واندماجه في المعنى الروحي كليةً فهو جيد جداً وكريم ومن المواهب التي امتاز بها الأب مَتّى دون جدال مقنع، ولكن المبالغة والتجاوز المتكرر للنص والمنطق أمر لا يمتاز بجودة الدافع..
    وهو في جوره يلجأ أحياناً إلى لغة النص وقوانين المنطق اللغوي فيستطرد ويشرح ويدلل لينتهي للنتيجة التي أرادها أولاً.. وأحياناً أخرى، على العكس، يعاجل بتقرير فهمه للنص كبديهية لا يكلف نفسه عناء إثباتها، ويستطرد من فوره إلى التأمل المبني على ما قرره.. وقد رأينا هاتين النزعتين المتفاوتتين في تحليله للشخصيات عبر الامثلة السابقة، وقد ملأت النزعة الأولى نحو التدليل والتحليل كتبه الكبرى الباكرة نسبياً، أما نزعة المبادرة والمصادرة فقد جاءت متأخرة عنده.. ويبدو أن معالجته لشرح النصوص لم يختلف عن حال الشخصيات معه، فكتب التفسير الباكرة نسبياً في حياته، مثل الأناجيل والرسائل، مليئة بالاستدلال اللغوي المُطًوَّل، وعرض كثير من الآراء اللاهوتية الآبائية، والغربية، ونقد كل مالا يجد استحساناً عنده، بينما الكتب الأخيرة والمقالات المتاخرة نسبياً، تنحاز للتأمل على حساب التدليل، فتنحو للتقرير العاجل غير التابع للشرح والإحاطة بالآراء البديلة أو النقيضة، بدافع واضح من اللهفة للدخول مباشرة في التأمل، وكأنه يوفر جهده وجهد القارئ ومساحة الورق للاستطراد في تأملاته.. ولعل كتاب تفسير المزامير كان بداية هذه المرحلة من نفاد الصبر والانحياز للتأمل فوق التدليل والمنطَقة، والذي ظهر فيه حتى عدم رغبته في إيراد وتقرير رأيه هو، فاكتفى بتفسير المزمور بطريق إيراد الشواهد المماثلة لكل مزمور من أسفار العهد القدي، تاركاً عبء التأمل على القارئ!..
    وسواء الأب مَتّى في أناته في التحليل، أو في لهفته على التأمل، فليس في هاتين النزعتين من حيث المبدأ أي وجه لرصد أي خطأ.. بل أن الأب مَتّى لم يخالف طبائع الأمور وتدرجت وسائل خطابه التدرج الطبيعي لكل مفكر وكاتب.. ولكن المشكلة الواجبة المواجهة والاستيقاف بالنقد هي سمة التجاوز والاستهانة بالمنطق وبالنص ولو أفرط في تحليلات لغوية ساهمت في التعمية لا التوثيق كما مر في بعض الامثلة..
    أما وجه الانتقاد الأكثر إلحاحاً عندي فهو عمل الأب مَتّى من البداية في بعض الأحيان لحساب المعنى الذي تقرر سلفاً (مستيكياً) في عقله (اللاواعي)..
    وأخيراً وبشأن اللغة فإن لغته كثيراً ما تأتي غامضة تحتمل معان متباينة.. ومع تسليمي بأن علو الفكر الذي يقدمه له لغته الخاصة، ولكن حتى هذه اللغة يمكن أن تعطي معنىً واضحاً على رقيه، ولكن يبدو أن قلم الأب مَتّى لم يكن يتراجع ويسير في اتجاه واحد، هو اتجاه خط الكتابة، دائماً.. وليس لخط المراجعة والتنقيح نصيب من قلمه.. وكم كانت نتائج سوء الفهم ستقل لو حاول الأب مَتّى أو حاول شارحو منتجاته ترجمة الأفكار للغة الخصوم، لكان الجنى عظيماً فيما أحسب، ولكنها اللغة.. وأكاد أسمع من ينظر لتلك العبارات الثقيلة التي اكتب بها ويبتسم، وأبتسم معه، وأذكره بأنني اصلاً اكتب لنفسي لتسجيل الأفكار، ثم أنني اكتب في موضوعات متلاحقة لمحاولة الإحاطة بشخص موسويّ اللاهوت والعمل الكتابيّ، بينما كتب هو في نصوص بعينها للتفسير، ثم أنني انتقد نفسي وأرى لها الحق في انتقاد الغير بالمثل..

    وقد قال الأب مَتّى في موضع أنه ما كان يقتبس من الكتاب والآباء إلا لإقناع القارئ بأن ما يقوله حق.. وكفاني بقول الأب مَتّى نفسه عن نفسه شاهداً على صحة رؤيتي لمنهجه التفسيري، وفي كلمته الخالصة الوصف المحكم للثقة المتعدية لحدود الالتزام بالتأني الذهني، والاكتفاء بالاستلهامات الروحية..


    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book انتهى اطول فصل وأعقدهمخ في مقالي المتواضع عن الاب متى المكتوب بعد انتقاله بشهر او
    مثل ذلك

    بصوا الحقّ حقّ .. انا نفسي خفت أراجعه لئلا أعقّد نفسي
    ربنا يكون في عونه من يقرأه
    وما ياتي بعده أعد بأنه لذيذ وسهل وبيجيب

    الوقت اتأخر عليّ .. بكرة أكمّل للي يعيش، بس الأضمن مايقراش .. علشان يعيش :)
    about 5 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book لو انتظرت لمراجعة هذا المقال الطويل فلن انتهي منه ولن انشر شيئاً
    يكفيه ، للضرورة، الكتابة الأولى والمراجعة السريعة اللاحقة
    ولضيق الوقت احكام
    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book الروح والذهن أيضاً (3)

    هامش (3)
    من المعروف لدارسي تاريخ اللاهوت أنه تقدم وتراجع، ويبدو أنه عاد ليتقدم ثانية في جيلنا، نحو احتضان الذهن ومصالحته مع الحقائق الإيمانية.. ويجوز في سياق هذا الفصل أن أُلخِّص سريعاً تاريخاً طويلاً: فأقول أن الفكر اللاهوتي بدأ يلتحم بالفلسفة مع بولس الرسول في أريوس باغوس، وكان في استنجاد الرجل المقدوني به في الرؤيا إشارة ضمنية لاستنجاد العقل بالإيمان، وهو ما سبق تقريره في هذا الفصل، ثم ختم يوحنا في العهد الجديد على هذا المنهج باستعارته المقابل اليوناني لحكمة العهد القديم بوضعه لكلمة "لوجوس" اليونانية مقابلاً لكلمة "حكمة"العبرية، ومن ثم صار لنا أن ندعو الابن المتجسد معاً: حكمة الـله، وعقله القادر على التعبير عن ذاته بالظهور، ونرى في (يوحنا 1:1) تقريراً لما سبق الإشارة له نبوياً في (أمثال7)، وأشار إليه بولس الرسول في (كورنثوس الأولى1: 24).. ثم في عصر الرسوليين والذين كان بينهم كثيرون من الفلاسفة، حين كان الأمم قد فبلوا الإيمان وصاروا في غيرة لتبشير أقربائهم حسب الذهن، وكانت لغة الفلسفة وقتها هي الأفلاطونية التي قرَّت مبادؤها كمسلمات في ذلك العصر، ومن هنا استقرت لغة الشروحات للإيمان على مسلمات أفلاطون حتى صار القول أن الفلسفة هي للمسيحية كذَهَب المصريين الذي سلبه العبرانيون عند خروجهم من مصر.. وربما ظل هذا هو الغالب على حال الكنيسة الشرقية، أما في الغرب فقد تمازجت الأفلاطونية بالخطابة على يد إمبروسيوس ومن بعده أساقفة شمال أفريقيا.. وفي كل ما سبق لم تحتقر شروحات الإيمان الذهن، ولكنها سقطت في بعض الأخطاء الطبيعية باعتبارها شروح دفاعية apologetic لا نقية pure بالدرجة الأولى.. وفي عصر لاحق بدأ العمل الذهني يأخذ مسلمات أرسطو بديلاً لأفلاطون على يد السكولاستيين scholastic وأبرزهم توما الإكويني.. وتورطت موجات الشروح التالية للعصر الرسولي في كثير من الأخطاء، والسبب في أخطرها في عصر توما الإكويني هو خطأ عكسي لما أناقشه هنا، وهو تقديم العقل على الروح واعتباره مصدراً قادراً على الإحاطة بحقائق الإيمان، لا مجرد فحصها كموحى بها للتحقق من عدم زيفها وفهم سياقها، وهو العصر الذي دُفِع فيه في المقدمة فكرة إثبات وجود الـله بالعقل، وهي فكرة سخيفة وبها تناقض في أساسها، وأبرز ما وصل إليه هؤلاء هي ما يسمونه العلة الغائية، وهي حجة تنقض نفسها لأنها تفترض لكل صنيعة صانع ولكنها تنكر نفسها عندما نصل لـله وتفترض أنه بلا صانع.. وليس هنا مجالاً لفحص هذه الأخطاء بالتفصيل، ولكن وجبت الإشارة إلى أن الخطأ الأكبر هو أن تُحسَب هذه الأخطاء على مبدأ إعمال الذهن في فهم الإيمان، لأن ذات الذهن هو الذي كشف هذه الأخطاء وضبطها.. ثم ظهر البروتستانت، وإن كانت المدرسة البروتستانتية رفعت في بدايتها شعار "الكتاب فقط" كبديل للتقليد، فإن هذا الشعار يحمل في كلماته معناً آخر وهو الكتاب كبديل للعقل.. والفهم السليم للقصة لا يرى تنافياً أو بدلية بين العقل والكتاب المقدس، فالكتاب هو المبدأ الذي فحصه العقل واطمئن لسموه ولصحته من الناحية العقلية وسموه من الناحية الروحية عن حدود العقل فسلم العقل بصحته وسلم له، وصار ملازماً مع الروح لدراسته والخضوع له.. ولكن المفسرون والعلماء البروتستانت سرعان ما لحقوا بالآخرين وتبادلوا معهم استعمال نفس المناهج، وصار شعار "الكتاب فقط" هو ذاته محل إثباتات نظرية.. وملخص تاريخ النقد الذهني لشروحات الإيمان في الغرب هو أن مدرستي الغرب الكبريين الرومانية والبروتستانتية تفاوتتا خطوات تتراجعهم واحدة فتسبقها الأخرى والعكس، ولكن كلتاهما، في العموم، سارتا في نفس الطريق وتبادلتا نفس المناهج.. وقد وصل الغربيون مع بدء القرن العشرين لمرحلة التشبع من المنهج العقلي بسبب أنه وصل لحدوده وحاول تجاوزها حتى عَقمَ.. ولذلك، في تقديري، بدأت موجات تنحاز للمنهج الروحي، وظهرت في اسوأ صورها في الكنائس الخمسينية، وفي أفضل صورها في موجة استكشاف الأرثوذكسية بل والتحول لها.. وفي الأرثوذكسية اكتشف الغربيون المنهج السري mystical في الشرح العقيدي، حتى أن قساً إنجليزياً (Timothy Ware) تحول للأرثوذكسية في القرن العشرين، وصار أسقفاً باسم (Kalistos Ware) يفتخر في كتابه "الكنيسة الارثوذكسية" أن الأرثوذكسي يكتفي في شرحه لمعاني الإيمان بقوله: هذا سر أؤمن به، بديلاً للتحليلات العقيمة للغربيين.. ولكن وللأسف كانت بعض المبادئ السكولاستية، مع موجة اللتننة Latinization في القرن الرابع عشر، قد سبقت وغزت الكنائس الأرثوذكسية الشرقية واحتلت مكانها لظروف سياسية معروفة للتاريخ.. فكانت النتيجة أنها لوثت بأخطائها بساطة الأرثوذكسية، فكان نتيجة هذا التهجين أن واقع الشرح الأرثوذكسي تضرر من عقم الأخطاء ولم يستفد من جوهر المبدأ.. أما في كنيستنا القبطية فقد دخلت هذه الموجة في عنفوانها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عندما لم يجد الآباء وقتها مصدراً للتنوير ومادة لمواجهة البروتستانت الغزاة إلا المراجع الكاثوليكية أو الرومية، السابق ليتنتها في موجة سابقة.. والواقع المسكوني الآن أن الكنائس الارثوذكسية الشرقية EOC يلتفت لاهتيوها لمراجعة مرحلة الليتنة وكل ما تسرب فيها، أما في كنيستنا الغالية فمن سيء لأسوأ، ويزيد على ذلك أنه تحت ضغوط نظريات النقد الكتابي تعاني الكنيسة من ردتها الأخيرة عن العقل برفض مبدأ النقد والتفكير أصلاً، وتضع مقابل له مقولات مجردة من المنطق وبعضها مخالف له، وبعضها مبني على مبادئ الأخلاق الشرقية، والموضوع كله يسير مدفوعاً أساساً بالنظر لتربص الآخرين، دون فهم عميق للعقيدة، ولا للنص الكتابي، ولا لِذات العبارات التي يقررونها ويسمُّونها ردوداً إيمانية وتفنيدات.. ففي كل ما سبق من موجات ومحاولات هناك أخطاء نظرية كثيرة، ولكن الخطأ الأكبر هو تحميل هذه الأخطاء على الذهن كمبدأ، بل لو كان الذهن يقظاً قائماً بدوره ما كان لهذه الأخطاء أن تظهر، بل لا ينبغي أخيراً إهمال الإشارة إلى أن الروح العامة السائدة في هذه العصور كانت شريكاً فاعلاً أصيلاً في هذه الأخطاء.. فأين الحل كمبدأ؟ في الذهن الحر إلا من اتضاعه وخضوعه لحقائق الوحي.. حر من أفلاطون وأرسطو ولزوم الخطابة، والخوف من قيم المجتمع.. الذهن الحر كما خلقه الرب على صورته وكما أراد له أن يبقى حراً متفاعلاً مع الحق.. وسمات هذا الذهن هي ما احاول تقديمه في هذا المقال كما في مقالات أخرى اكثر تخصصاً واتساعاً للسياق..
    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book الروح والذهن أيضاً
    (متن الفصل)
    ولكن من المفارقات لذلك أنه هو نفسه صاحب الفضل على إطلاق أقوى عملية عصف ذهني brainstorming في جيلنا.. ومن أراد شهادة الحق، وأنا أريد، فهو صاحب اكبر فضل في التنشيط الذهني للشرح اللاهوتي، وفتح أبواب كانت مستعصية قبله على الضمير قبل الذهن.. ورغم رؤيتي لتأخر دور المنطق في منهجه فأرى بوضوح أنه رغم كل شئ، وبفضل تفوق المكون الروحي ذاته في منهجه، فإنه اقتنى الشجاعة اللازمة ليفتح الأبواب المغلقة منذ دهور أمام الذهن وغير الذهن، وهي الشجاعة الروحية التي كسرت مصاريع جَبُن ويجبن أمامها كثيرون من أصحاب العقول والتعصب للمنهج العقلي.. ولكن من له هذه الشجاعة فلا أظنه إلا جديراً بتحمل أول نتائجها: أُعني تحمله لانتقاد منهجه هو نفسه.. وإذ أعترف بهذا الفضل لصاحبه، أتقدم أبعد بأكثر راحة ضمير إلى نقد منهجه..
    وفي تصوري المجتهد لخريطة عملية التفكير عند الأب مَتّى أن التأثر الروحي يقوم بدور الجاذب واللاقط لمفردات الاستقراء، حتى إذا عبرت تلقاها الانفعال الروحي بالنظارة التي تصبغها باللون المطلوب.. ولا يخلو الأمر أخيراً من عمل للذهن الذي يقوم بدور الغربال الذي يمرر ما يجوز له المرور للوصول لمعنى معد مسبقاً للوصول إليه.. وهكذا تطغى النزعة المستيكية استقراءً واستدلالاً واستنتاجاً، فيفرض الروح المجرد معطياته ونتائجه، وجيد للروح ان يفعل ولكن ليس جيداً أن يكون مجرداً أو قاهراً أو مقيداً لرفيقه الذهن.. وجيد للروح أن تكون له القيادة (لا التقييد)، ولكن ليس جيداً أن يعمل بمنطق (مستيكي) صرف متجاهلاً دور المنطق ولو حتى في حقه في الاعتراض على الصياغة اللغوية التي هي صميم عمله دون منازع.. وهذا، في تصوري وتصويري، يصل المنهج الروحي عادةً مع الأب مَتّى إلى تقرير ما بدأ بالانفعال روحياً به..

    وقد قرأت لاحقاً قوله: "أحسست أثناء القراءة أنه يحدث اتصال حقيقي سرِّي بالحوادث داخل قلبي. فكان قلبي يتأثر، وبدأ التأثر يكون على المستوى الحسِّي، ... كانت نبضات قلبي تزداد إزاء حدث روحي ... قليلاً قليلاً حدث شئ غريب، وهو أن قلبي بدأ يضرب بشدة ... وجسدي كله ينمِّل" (مجلة مرقس أكتوبر 2006، ص6، باحث علمي يحضر رسالة دكتوراه عنه، كُتِبَت عام 1978).. هذا كلام مقبول جداً عندي وأصغر دونه.. ولكني أتساءل: هل يجوز أن يجور هذا الانجراف الروحاني على دور المنطق الذهني؟ وللأسف يبدو أن هذا يجوز عند الأب مَتّى لأنه لا يتكلم، عندما تأتي له الفرصة، على الضوابط المنطقية للتفسير والشرح ودور اللغة وما إلى هذا..
    إذا كانت الصلاة، وهي عمل روحي في المقام الأول ينبغي أن تُصَلَّى بالروح والذهن أيضاً، فكم بالأولى أعمال التفسير والشرح لا تتخلى عن تمام دور الذهن ونطقه وأصوله؟.. فماذا؟ هل المنطق لا يخطئ؟ المنطق قد يخطئ وقد يعجز، ولكن الخطأ المنطقي يضبطه ويصلحه المنطق ذاته.. والعجز يقرره المنطق السليم.. الذهن السليم يعرف حدوده ويعرف متى لا يتعدى.. وأين تتخم كبرياء لججه.. وهذه هي النعمة اغلهية العجيبة التي أودعها في اللوجيك الذي اودعه في الإنسان ليصير على صورة اللوجوس، ألا وهي ميزة أن المنطق ذاته يكشف أخطاء ذاته لو أًتيح له أن يعمل صحيحاً.. وإذا فيل اعتراضاً: فماذا عن الذهن غير السليم؟ وما أكثر الأذهان غير السليمة! يقال رداً: يُصلَح الذهن ولا يُستُعاض عنه بغيره، وإلا فماذا عن الروح غير السليم أيضاً؟ والضمان للروح السليم أن يكون في معية الذهن السليم والعكس، والرب يروم ان تكون أذهاننا سليمة كما ان أرواحنا سليمة، وأن نعمل بالروح وبالذهن أيضاً..

    ثم أذكر هنا أن الأب مَتّى قال في مذكراته إنه لم يعرف الـله في المعمل الذي تعلَّم وعمل فيه كصيدلي.. وأما أنا فأقول إني عرفت الرب في كتب الفيزياء والرياضيَّات.. ليست معرفة المنشأ، ولكن معرفة التذوُّق.. تذوَّقت كثير من جوانب جمال أعمال الرب، وشعرت بوجوده.. أتفق مع الأب مَتّى أن معرفة الرب الإله غير ممكنة بالمعمل لوحده، و ممكنة بدون المعمل على أي حال، ولكن لا أتفق إن ذهب إلى إصدار الحكم على الإطلاق، وصادر على دور المعمل في تعريفه للمؤمن العامل بمزيد من المعرفة عن الرب، فالمعمل والعلم المادِّيّ يُظهِر للذهن الروحاني معرفة جوانب من الرب الإله بحسب قدرته كذهن على الفهم والتذوُّق.. وأظن أن الأب وغيره من المؤمنين بالرب يتفقون مع هذا اتفاقهم مع قول الرسول إن أمور الرب الإله غير المنظورة مُدرَكة بالمصنوعات الظاهرة (رومية1: 20)..
    ومشكلة الذهن في حيلنا أن هناك فريقاً أغلق جدول الذهن تماماً من الجريان، فصار الوارد إليه غذاءً غير مكتمل وصار هذا النفص سبباً لأمراض كيانية قبل كونها روحية.. أمراض جيل كامل، عموم الروحانيين فيه ليسوا استثناءً.. والأخطر من هؤلاء الفريق الذي يجد في الروحانية كفاية وعدم احتياج للذهن..
    والأكثر خطراً هم من يضع الذهن كنقيض للروح.. وهؤلاء الأخيرون غرباء عن كنيستنا يرون في العقل عدواً للإيمان، ولكن مناهجهم تتسرب للأسف.. هؤلاء يضعون الذهن أمام الإيمان كوضع الروح نقيض للجسد.. وهذا أمر خطير جداً، لان الجسد الموضوع كنقيض للروح في الكتاب المقدس يحمل معه كل أعمال الجسد ليست الميتة فقط بل المميتة أيضاً التي هي زنا وعهارة وعبادة اوثان وسحر وكل ما ورد في (غلاطية5: 19-21).. وتفكير هؤلاء يرسخ في الأذهان غير المدققة، على سبيل الخلط، أن الذهن أمام الروح يقوم بمثابة الجسد.. وينبغي هنا ضبط هذا الخطأ والإقرار بأن الذهن قد يكون ذهناً جسدياً أو روحياً بحسب انحيازه..

    وفي قول الذهن الروحي خلاصة من خلاصات المنهج المتزن: أن الذهن روحي تعني أنه يتسم بالروح وليس فقط يجتمع معها، وأن الروح بالمقابل روح ذهنية مفكرة.. أي أن العلاقة بين الذهن والروح لا تكون علاقة جمع بعلامة زائد الرياضيَّة، لأن الجمع يكون بين الهُوِيَّات المنفصلة، بل العلاقة علاقة تكامل كياني واحد لا يُعَبَّر عنها رياضياً، وإنما هي كائنة ملموسة في كل إنسان، التي هي نعمة الرب الإله في خلق الإنسان على صورته..
    ولعل من الفقرة السابقة يلتفت القارئ النبيه إلى أصل الفكرة المشروحة فيها، أن الروح السليم والذهن السليم هما تحقيق لصورة اتحاد الابن والروح القدس، وأن اتحادهما العجيب في ذات الإنسان الواحد يعطينا صورة عن الثالوث وطبيعة اتحاده الفائقة الإحاطة بها.. وجيد ان اصل في نهاية الفصل لهذه الفكرة القيمة عن صورة اتحاد اللوجوس بالروح القدس في شكل الإنسان ذي الذهن الروحي او الروح العاقل!



    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book


    إذن ما هو نفع المنهج الروحاني؟

    كثير على كل وجه.. فأما أولاً فلأن العلاقة بين الذهن والروح هي علاقة كيان واحد، وتسليم وتسلُّم.. تمتحن الروح الأرواح (يوحنا الأولى4: 1) إيمانياً وضميرياً، وما تقبله تسلمه للذهن، فيفحصه منطقياً، ويرده لها وقد اكتمل فحصه.. وعندما تأتي الشهادة، تسكب الروح ذاتها على الكلام فيكون روحاً وحياة للسامعين.. ولكن الكلام عينه يخرج من عقل مدقق يقدمه لسامعين ذوي عقول ستقوم بدورها في الفحص فيما يخصها..

    ثم أن الذهن يجنح وينجذب للتيه والافتخار بالذات، ولكن تكامله مع الروح، وعمله في خدمتها يسلبه الافتخار الباطل الذي تصادره الروح وتحوله لافتخار بالرب اللوجوس معطي موهبة الذهن.. فيبقى للذهن بهجة ومسرات التمتع بأنوار معرفة أمور الرب.. ويرد للروح هذه المكاسب، وكيف لا وهما معاً واحد..

    أخلُص إلى أن الإيمان السليم يقود ويستقر في روح سليم له ذهن سليم.. والذهن السليم يتبع ويخضع لإيمان سليم ويُسلِّم به في شركة تسليم إيماني مع شريكه في النفس الإنسانية الروح السليم.. ولو حدث أي نوع من احتقار الروح للذهن لفسد كيان الإنسان وصار هذا من أعدى وأعتى الأمراض ضد الإيمان السليم.. وأقر وأتمسك وأتشدد لهذه المقولة التي تلخص الشرح: إن الإيمان هو السيد وأن الذهن هو الخادم، وأن الرب الإله عرفوه بالوحي لا العقل حسب المقولة الشائعة الخاطئة، ولكن الروح شريك للذهن في الخضوع لسيادة الوحي، ولا يفضله في ذلك، إذ الوحي يُذاق بالروح ويُفحَص بالذهن ويُخضع ويُسَلَّم له من الجميع.. فقط تُضاف هذه البديهية للتحفظ من زلل الفهم أن الذهن عرف الرب الإله تالياً وقابلاً لنعمته، لا أنه تقدم وسبق وعرفه من ذاته..
    وهذا تلخيص آخر لنفس المعنى: الذهن السليم يعرف حدوده، ويفتح نافذة مدخلاته للإيمان قبل المُدرَكات المادية.. ويعمل بالشك ليصل لليقين، ويعمل بالشك واليقين معاً ليصل ليقين أعمق وأغنى.. والشك عند الذهن ليس موجَّهاَ ضد الإيمان، بل بدافع منه، لأن الإيمان الثمين يلزمه تدقيق يليق بقيمته وهذا هو الشك بمعنى الفحص بغرض التدقيق..

    ولعل ما أقرره هنا بديهيات لا يقول الأب مَتّى بغيرها، ويراها من البداهة حتى أنه لا يُلتَفَت إليها.. ولكنه فيما أرى يتجاوزها مراراً تحت الانجراف الروحي العملاق الذي لا قِبَل لي به.. ولكني فيما أرى أنَّ ما صار فيه الأب مَتّى عملاقاً، لو مرَّ دون توقف ومراجعة لدهس في طريقه كثيرين من هذا الجيل الذي يعجبه إنتاج الأب مَتّى، وهو يستحق، ولا تعوزه حجّة لتعطيل ووأد البقية المتبقية من الذهن، وهو لا يستحق.. وهنا ملاحظة بشأن الصحة الذهنية للمعجبين بالأب مَتّى: فقد لاحظتُ أنه بينما نجحتُ بسهولة نسبية مراراً في إقناع أتباع خصومه بصحة بعض أفكاره وخطأ خصومه في نقدهم، وكان الإقناع في دقائق وعن طريق التعبير عن ذات الأفكار بلغة مألوفة لهم، كانت عملية ترجمة بسيطة بين لغتين لا أكثر، أقول بينما نجحت في هذا فلم يكن الحال هكذا في الاتجاه العكسي، ولم أجد من أكثر هواة الأب مَتّى من قبل رداً على خطأ واضح له، إلا الدعابة من العقلاء، والغيبة المستيكية من الأقل عقلاً، والتهجم المتوتر من الصغار.. إنه تأثير منهج قد يحى به عملاق فتُغفَر له نقائصه لقاء ميزاته، ولكن يتحول لما لا تعالجه المغفرة متى تلقفه ذوو القامات المحدودة.. فلماذا؟ وهناك منهج صحيح، وهناك نقد؟!.. لهذا وجب النقد والاستيقاف ومقابلة الناقص بمحاولة الاستكمال، ومقابلة المنهج بالمنهج..
    وهذا المنهج المتزن، كما أراه، كفيل بجمع غلاة الروحانية والعقلانية معاً لو أنصفوا.. فالعقلانيون الصرف يقولون: لا ينبغي للعقل أن يصل لليقين، لأن عمله مؤسس على الشك، وبلوغه لليقين يعني توقفه عن العمل، ويصل بعضهم لحد القول، ولعل العراقي من هذا البعض، أن العقل إذا وصل لليقين صار قلباً.. والروحانيون الصرف يقولون: لا ينبغي للعقل أن يعمل لئلا يتعطل عمل الإيمان.. ولكن مع هذا المنهج الذي يضع الإيمان والذهن في موضعيهما السليمين يمكن التحقق بأنه لا الانطلاق من قاعدة الإيمان ولا الوصول لليقين يعطِّل عمل الذهن، ولا عمل الذهن يعطل الوصول والاستقرار في باحة الإيمان.. فالانطلاق من الإيمان الصحيح يدعو الذهن للمشاركة في العمل، والوصول لليقين يمد الذهن بمادة جديدة ليعمل بها، اليقين لا يحول الذهن قلباً، بل يوحِّده مع القلب في كيان واحد متزن له قلب سليم وذهن سليم، وضمير سليم وكلهم يعمل عمله لسلامة الكيان الإنساني.. ومن الناحية المقابلة فعمل الذهن يجعل الإنسان مستقراً دون نقص او تقلقل في موقعه من بيت الإيمان الصحيح، والذهن لا يحوّل الروح جاحداً، بل يكمل له استقراره وسيادته الهادئة على الكيان الإنسانيّ كله..
    وإيمانياً أقول: هكذا خلق روح الرب الإله الإنسان ولو أراد لأحد مكوناته أن يأخذ دور الآخر لكان صانعاً فاشلاً حاشا له ثم حاشا..
    أرجو بوصولي لهذا السطر أن أكون جعلتُ الاثنين، الروح والذهن، واحداً في ضمير القارئ.. وأن يكون فيما سبق ما يعين هواة الأب مَتّى على استكمال اقترابهم من خصومهم بلغة أجدى شرحاً للمعنى واكفأ إقناعاً، وأن يكون فيه ما يعين على تبديد ظلمات حياة د. عاطف العراقي التي بدأ المقالُ بها..
    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book

    الأب مَتّى باحثاً

    أما عن الأب مَتّى كباحث مادي، تاريخي ولغوي وما أشبه من ذهنيات، فليس هذا أفضل ما قدمه الأب مَتّى.. لقد أفاض كثيراً وأظهر استعداداً قوياً وصبراً بعيد الأمد، في كتب مثل الإفخارستيا، والرهبنة القبطية، و المعمودية، وفي مقدمات كتبه التفسيرية، لاسيما إنجيل يوحنا، والمزامير، فلازلت أصر أن العمل البحثي المنهجي، وإن أظهر طول باعه وقدراته الذهنية وصبره، ليس أفضل ما قدمه.. فأغلب هذه المواد لا إبداع فيها ويمكن استقاؤها من المراجع المعروفة على كل حال.. وهناك شعور يراودني وأنا أتابع بعض فصوله البحثية المطوّلة أنه يسجلها منقاداً بروح طفولية غير شريرة في استعراض مصادره كأنه ليقول: انظروا، لقد قرات كل هذا وفهرسته وانتقيت منه وهذا بعض ما عندنا.. ولو لم يكن تفسير حاله باحثاً هو هذا، فكيف نفسر مثلاً موقفه من تحديد كاتب إنجيل مرقس، وإصراره على تكذيب أي إشارة لبطرس الرسول بهذا الشأن، وجمعه لكل المصادر وافتراضه بدون دليل بالضرورة في كل مرة إلى أحادية مصدر الجميع وهو بابياس، حتى إذا تمكن من توحيد المصدر سهل عليه بالتخلص منه بخبطة واحدة ليست (مستيكية) هذه المرة بقوله: "ليس هناك من مصدر سوى هذا البابياس"!!! لغة غريبة على (مستيكية) الأب مَتَّى وروحانيته المميزة إلا أنها نزعته الطفولية في البحث..
    وعلى أي حال فإن هذا النوع من الأبحاث التفصيلية، في اللغة والتواريخ، التي اضطلع بها الأب مَتَّى من حين لآخر، لم تخل للأسف من أخطاء منطقية أقرر للحق أنها غريبة على إمكانيات الأب مَتّى كباحث طويل الأناة واسع الاطلاع، وإن لم تكن غريبة على نزعته الروحانية العنيدة التي أظهرت عندها حيث لا يؤدي العند لشئ إلا تعطيل الباحث وفقدانه حياديته اللازمة..

    إن بعضاً من منهجه التفسيري السالف مناقشته ظهرت أعراضه على الأب مَتَّى الباحث، ومثال على أنه في بحثه المشهور الإفخارستيا، وهو بحث منهجي دقيق، آمن في أحد فصوله بفكرة أن يوم خميس العهد لم يكن يوم الفصح بل السابق عليه، فبدأ باعتبار ظاهر إنجيل يوحنا، ثم سعى لتوفيق الاناجيل الثلاثة الأولى معه، فاستطرد في حشد الأدلة التقليدية المؤيدة، وانتهى الأب مَتَّى الباحث إلى النتيجة المقرة سلفاً وهي غير الصحيحة! والمشكلة ليست في النتيجة ولكن في طريقة وصوله إليها.. لقد سقط في نهمه لحشد الأدلة في أخطاء مثل غيراد غير اللازم والاستدلال بغير الدال، ثم الأسوأ وهو التوسل لأدلة متعسفة، واعجب ما ظهر في رحلته لإثبات نتيجته هي استشهاده بكتاب الاسرار السبعة لحبيب جرجس.. ولقد توقفت عند هذه النقطة طويلاً بالتعجب، فما أبعد الهوة الفكرية التي قد اُثبِتَت بين الرجلين.. وبعض المؤاخذات على استدلالات الأب مَتَّى باحثاً عن يوم الفصح هو للأسف مما يقع فيه الباحثون المبتدئون.. لماذا حشد الأب متى كل قدراته البحثية لامّاً في طريقه أخطاءً لا ينبغي لمثله الاستعانة بها؟ كان كعادته لديه رأي مسبق أراد إثباته، وإن لم تتوفر إشارة قاطعة لعلة تضبثه بهذا الرأي، ويجوز أنه كان يغرض لقطع الطريق على طقس التقديس على الفطير.. وعلى أي حال فإن كان هذا غرضه، وهو غرض حبيب جرجس وغيره، فإن انعدام الدليل لا يدل في حالتنا على عكس المطلوب، ويبقى التقديس الكنسي على الخمير ثابتاً وجائزاً بأدلة أُخرى، وإن كان الرب قد قدس على فطير!
    الطريف جداً مع الأب مَتَّى أنه عاد عن بعض رأيه في تفسيره لإنجيل يوحنا، ليخرج على قارئه بالجملة برأي معقد غريب، فبينما ظل مصراً أن يوم الجمعة كان هو الفصح معتبراً ظاهر نص إنجيل يوحنا، فإنه تنازل عن سابق توفيقه لنص الأناجيل الثلاثة الأولى معه، مقرراً أن النص فيها يتكلم فعلاً عن يوم الخميس أنه يوم الفصح.. وعلى هذا تكون حصيلة رأيه بين "الإفخارستيا" و"تفسير إنجيل يوحنا" أن هناك تناقضاً في تحديد يوم الفصح، وما زاد الموقف طرافةً أنه اعتبر الأمر ليس تناقضاً بل "اختلاف وعي" بين الإنجيليين.. وما زاد الطرافة طرافة أنه لم يشر بشئ إلى سابق تقديمه لتفسير مخالف للأناجيل المتوافقة بين إنجيل يوحنا والأناجيل المتوافقة، ولا هو حتى راجع الكتاب السابق وعدّله، ولا هو أوقف نشره، بل ترك الرأيين والكتابين يُنشران معاً مقطوعي الإشارة في أحدهما للآخر.. وهذه النقطة تعنينا بشدة في النظر في أمر الأب مَتَّى كباحث، فهو لا يكترث بقواعد الاكاديميا والقاضية بضرورة إشارة الباحث لتراجعه عن رأي سابق حتى لا يرتبك متابعوه معه، وحتى لا تختلط الإشارات المنقولة عنه.. الأب مَتَّى الباحث يعلمنا هنا درساً أنه كباحث يقول ويتراجع عن رأيه وينشر كلا العملين إذ هما في عرفه قد خرجا كما هما وصارا بمثابة كائن حي لا يجوز قتله أو بتر عضو منه ولو به عاهة! ولا عجب فنحن لسنا أمام باحث اكاديمي ولكن باحث روحاني مستيكي تغفر له نقاوته الروحية وغوصه في مواطن الكتاب المقدس لامبالاته بتلك الأصول الواجبة لا عليه بل على غيره ممن يحفلون بها ويلتزمون..
    وكم آسف انه لا يتوفر لديّ فسحة الوقت والجهد لتفصيل الحديث عن ليلة الفصح – ولقد ناقشتُ بالتفصيل المؤاخذات على هذا الفصل من كتاب "الإفخارستيا" بين ما نوقش في مراجعة نقد البابا لكتاب الإفخارستيا، وفي ورقة محدودة الحجم عرضت مواقف الفرقاء لأنتهي لإثبات أن يوم الخميس كان هو يوم الفصح، وأن المسيح قدس على فطير، ومع ذلك فإن الفطير لم يكن مقصوداً لذاته في التقديس بل لانه كان هو المتوفر من أنواع الخبز، وإن التقديس الكنسي على الخمير هو الصحيح)..

    ومن أعجب ورطاته البحثية غير ذات اللزوم لعمله اللاهوتيّ، ورطة لا يقع فيها إلا باحث بطبيعة وتهوّر الأب مَتَّى، وأعني بها تصوره أن الإنجيليّ متىَّ أخطأ في فهم نبوة زكريا عن دخول المسيح أورشليم راكباً على أتان وجحش ابن أتان، عندما ظن أن الـ"واو" في النبوة هي للعطف، بينما هي للتفسير والاسترسال البلاغي بحسب العادة اللغوية في الأدب الشرقي.. ومن ثم أعاد الإنجيليّ صياغة الأحداث لتتفق مع النبوة بحسب فهِمَه الخاطئ لها! إنتهى إيرادي لورطته ويبدأ هنا تعليفي: فأما أن الـ"واو" في النبوة هي "واو" للتفسير لا للعطف، فهي قضية لا يحق له، من المبدأ، تقريرها بحسم دون دليل قوي من السياق، فالعبارة المعنية من النبوة هي من التعبيرات اللغوية مزدوجة المعنى، والواقع أن الدليل القوي من السياق حاضر، وأن فهم الأب مَتَّى لها هو أقرب لاستقامة المعنى، علاوة على أنه لم يبتدع هذا الفهم ولا أتى بجدبد بل هو ترجيح مقرر من كبار المفسرين مثل روبرتسون صاحب "صورة الكلمات Robertson's Word Picture"، وعلى هذا فالأب مَتَّى لو يتورط من فراغ وله مدخل قوي، وشرح ذلك أن تكرار الحديث عن الجحش وتأكيده هو الأوقع في سياق مقابلة التباين بين الملك الوديع المسيح مخلص صهيون (زك9: 9) وبين الأرضيّ السابق وصفه المخضع لفلسطين ودمشق (زك9: 1-8)، وهو أوقع بالأكثر لإبراز الإشارة إلى ما في الركوب على الجحش البكر تحديداً وليس على أية أتان من قصص محفوظة في التقليد اليهودي عن سابق ركوب إسحق على ابن أتان وغير ذلك من القصص، فكان لتلك الاعتبارات وبطبيعة اللغة التوزوية (من التوزايات والتأكيد بالتكرار مع الإضافة) أن النبيّ قال إن الملك سيدخل على أتان وتحديداً جحش ابن أتان، ويأتي ختام التأكيدات من تركيز روايتيّ الإنجيليَّيْن مرقس ولوقا على الجحش البكر.. فلغويّاً وفي حدود النبوّة يجوز النظر بالتفسير الذي استحسنه الأب متّى.. ولكن أن ينتقل بالسؤال إلى تصوّر أن متىَّ الإنجيلي أعاد تصوير الحدث ليتفق مع فهمه للنبوة فهنا خطؤه الحقيقيّ، إذ هو اتهام للإنجيلي بالتلفيق-- حاشا.. ولا يمكن لأي حيلة (مستيكية) أن تُغيِّر توصيف ما اعتقده وكتبه الأب مَتّى؛ فكلامه هو عريضة اتهام، لا مناص من الإقرار بقصدها، للإنجيلي بتلفيق روايته!! حاشا.. فلم تكن ثمَّة غرابة أن هذه النقطة هي ما بقيت لخصوم الأب مَتّى ليكرروها ضده دون غيرها، ولقد سبق وتوقّعتُ أنهم لو تجاسروا على عقد محاكمة له فإنها ستُختَصَر على هذه النقطة.. فال لي واحد مرّةً: لقد تكلّم الأب متى على نهاية إنجيل مرقس مخطوطيّاً وورّط نفسه فالآن يسهل عليهم محاكمته دون أدنى قلق ولقد أعلنوا ذلك فعلاً، فقلتُ له: لا لأنهم ليسوا كفئاً لتناول هذه القضيّة المخطوطيّة، ولعلهم يلوحون فقط ولكن التهديد سيكون بالمحاكمة على تكراره للتفسير الغبيّ عن آتان أحد الشعانين، وأظنه لن يتجاوز مرحلة التهديد ولكنه سيكون تهديداً واضحاً إن كان، وقد صار ما توقعته أنهم أعلنوا صراحةً أنهم ينوون محاكمته على هذه النقطة ولم يذكروا غيرها في تهديدهم بالمحاكمة، وإن لم يتجاسروا على إنفاذ تهديدهم.. فبعد أن تمادوا في هجوم مخجل المضمون ومتواضع الكفاءة ضد الأب مَتّى، في قضايا كثيرة، يبدو أنهم عندما أرادوا تقديمه للمحاكمة واجهوا أخيراً حقيقة هزال وتهرؤ مادتهم في مواجهته، فلم يجدوا سوى هذه الورطة للتهديد بمحاكمته عليها، تاركين في تهديدهم ذاك اعترافهم الضمني الواضح بقصور بقية اتهاماتهم عن القيام في محاكمة.. ..
    ثم يخرج عن الموضوع ما تورطوا فيه من اختطاف ردود مريعة الخطأ ببرهان جديد على عدم أهليّنهم لعملهم بأكثر كثيراً من قصور الأب متَّى عن عمل التفسير.. على أنني أعفي الفصل من تعيينه إذ ليس منهج خصوم الأب متى هو موضوع المقال..
    المهم عودة للأب مَتَّى، فماذا أقول بضمير مستريح؟ أقول لعل فكرة اتهام الإنجيليّ بالتلفيق لم تخطر بباله، ولم يدرك أن وصفه للموقف يقود حتماً لتهمة التلفيق، وهذا هو عين العيب في ترفعه عن المنطق البسيط، ويبقى في هذه الحالة افتراضه لعدم فهم الإنجيليّ للنبوة غير ملائم وعلى عكس الطبيعي مع مَتَّى الإنجيليّ تحديداً صاحب الثقافة العبرية الناصعة، وإن كان مجرد عدم فهم الإنجيليّ – أيّ إنجيليّ- لدقائق النبوة – أي نبوة- محتملاً وغير مخالف لأي ثابت.. هذا احتمال أول لتصوره.. أم لعله خلط نتيجته التفسيرية بفكرة إنسانية كُتَّاب الوحي ظاناً هذا "التوفيق" من جانب الإنجيليّ من المباح في ساحة إنسانيتهم، ولو كان قصده هو هذا فلا دفاع عن هذا من أي نحوٍ عندي، صحيح من المباح لغةً حذف شئ لا يغير جوهر الرواية، أو تغيير ترتيب السرد عن ترتيب الحدث حين لا يكون في تغيير ترتيب الحدث ما يزوّر المعنى لبنما يكون في ترتيب السرد ما يوافق غرض الكاتب، كل هذا ومثله من المباح، بل وأكثر من ذلك فمن المباح عندي والمقبول دون توتر أن ينسى الكاتب شيئاً فلا يورده، أو حتى يختلط عليه أمران لا يؤثر الخلط فيهما على عنصر ذي قيمة في الحدث، ولكن أن يضيف الكاتب شيئاً من لاشئ، ويكون غرضه إظهار صحة النبوة بحسب فهمه الخاطئ أصلاً، فهذا تلفيق فوق كونه عدم فهم.. لقد استحق الموضوع البحث نعم وأقررت للأب مَتَّى بهذا، ولكن لا يستحق ولا يجوز فيه التهور الذي أظهره..
    والآن إذا عزلنا الاقتراح الجائر للأب مَتَّى تبقى النقطة الملغزة: كيف يمكن التوفيق بين رواية الإنجيليّ متى، وبين أن النبوة تُعني بالأرجح أن هناك أتان واحدة لا اثنتين؟ هل نجور على الترجيح في النص النبويّ لصالح رواية الإنجيل؟ أم ما العمل؟ أظن أن الحل أبسط من جسارة الاب مَتَّى في الافتراض، فإن النبوة معناها بحسب الفهم المستقيم مع السياق والمقبول جداً من اللغة أن المسيح سيدخل أورشليم راكباً على أتان وليس أتاناً كبيراً بل جحش ابن أتان ليكون بكراً لم يركبه أحد قبله فيتفق مع الرموز الملائمة للمسيح الملاحقة لكل سيرته كرحم العذراء البكر والقبر البكر.. وهذا الاتان البكر هو الذي ذكره الإنجيليان مرقس ولوقا، وأما ما حدث فعلاً أن هذا الأتان البكر كان بحسب طبيعة الامور مربوطاً بجوار أمه على الأرجح، فكان أن أُرسِل للمسيح الأتان مع أمه، فسجل متى الحدث بتفاصيله والذي توافق شكله ليحقق كل المعاني المحتملة من نبوة زكريا بصرف النظر عن الترجيحات بينها، وإذ تتفق الأحداث مع طبائع الامور فلم يكن من داعي للتهور في اتهام الإنجيليّ بالتلفيق.. ولا أزيد وأتزود فأقول إن المقصود كان تحقيق النبوة بكل معانيها، وإنما هذا ما حدث وحسب، وهكذا كان وهكذا سجّل الإنجيليّ..
    وماذا أقول أخيراً أيضاً؟ أقول إن مَتىَّ الإنجيليّ لم يُلًفِّق، وإنما مَتَّى المسكين قد شطت به (مستيكيته)..

    وإشارة أخيرة لعيب ظهر طفيفاً في اللغة البحثية للأب مَتَّى وهو عدم الوضوح الكافي.. وقضية الأبحاث تحتاج، أهم ما تحتاج، لوضوح اللغة، وفي الكثير من أعماله كانت لغة الأب مَتّى في المادة البحثية متواضعة (من فضيلة التواضع)، أعني واضحة سهلة لا تترفع وتصل للجميع، وهذا فضل له حقيق بالذكر.. ولكنه أحياناً وعندما تتداخل المعاني الروحية واللاهوتية مع مادته البحثية يتعقد الوضوح منه لاسيما مع الجنوح للإطناب في إيراد التفاصيل الفنية، وتكون النتيجة على حساب الوضوح، وأظن سبب ذلك ضجر الأب متى بالعقليات وميله الطبيعي للروحيات، فلا يطق صبراً إذ يجد نفسه قد تورط في إيراد شرح بياني رقمي أو حرفي أو ما شابه.. وقد صادفتُ معه هذا مرتين أو ثلاثة.. وهذا مثال: تعجبت مرة على الإنترنت في غرفة مسيحية للتأمل والصلاة، وأنا أسمع خطبة عصماء عن أفضال حرف الجر "إك ek" في اليونانية، والذي يعني ببساطة "من from"، ولكنه عند المتحدث يحمل جُلّ معاني اللاهوت العميقة في الثالوث، وأطال الأخ المديح للحرف حتى انتظرت أن يقود الإخوة خلفه في مظاهرة للهتاف بطول حياة الحرف "إك" الذي يعني عنده أن الروح القدس واحد مع الآب في الجوهر، وأنه في عمق الآب، وأنه أزليّ، وكل هذا وأكثر متوفر فقط في الحرف "إك".. ولأضبط هذا الهوس بالحرف (العجيب) "إك"، عدت سريعاً لبعض مواضع الحرف في الكتاب لأجد أنه، كما توقعت، كان هو المستخدم للتعبير عن خروج المخلوقات من لدن الخالق: "الذي منه وبه وله كل الأشياء"، فقلت للأخ إن شرحه لو قُبِل، لكان معنى هذا أزلية كل الأشياء، وسألت عن مصدره فكان كتاب للأب مَتَّى ، ولا يقال هنا إنه خطأ قارئ لم يستوعب فلا يًؤاخَذ به الكاتب، حقاً كان الأخ غير مؤهل للاستيعاب الكافي، ولكن بالرجوع لما كتب الأب مَتّى وجدت أنه لم يوضح بالفعل، بين ثنايا شرح طويل، لعبارة "الذي من عند الآب ينبثق"، الفرق بين أن حرف الجر يتسع لمعنى أرحب يفسح للمعنى اللاهوتي مكاناً، وبين أن الحرف لا يحمل إلا هذا المعنى على وجه القطع.. وبهذا القصور في التوضيحات البسيطة ترك الأب متى أحد المساكين فريسة لتمجيد الحرف "إك" الذي يحمل أعماق اللاهوت في ثناياه.. واجتماع عدم الوضوح مع عدم الاستيعاب من القارئ، وما أكثره في قرائنا، يستحق المراجعة، ويستحق تسجيل فقرة جديدة في المقال كانت هي هذه الفقرة..

    ثم لا يصح أن يفوتني مع الأب مَتَّى الباحث أن أذكر بكل التقدير عمله الاستثنائي الفلتة عن قداس الرسل، وهو بحث غاص بين ما كتبه، ولم يُذكَر عنه الكثير، وأظن أنه لم يحظ بحقه من التناول الجاد والاستطراد في خطه..

    وأختم بملخص حكمي المتواضع أن الأب مَتّى، كباحث، قد استفاض في أبحاث نظرية طويلة، تاريخية، ولغوية، لم تكن أفضل ما قدمه، وإن لزم هنا تسجيل الفضل له أنه قدم لأغلب قرائه مادة قريبة من مراجع بعيدة المنال عنهم..



    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book بين الأب مَتّى ومنتقديه...
    وحيداً وحيداً بين الجميع – أعني نفسي في مواقفي

    ...وقفت أولاً اللغة، وثانياً المرجعية، وثالثاً يقول خصومه وقفت العوامل الشخصية، ومقتضى الظاهر ومقتضى الحال يقضيان بتوجيه تهمة العوامل الشخصية واعتمالات النفوس لهم هم قبله، فالرجل بقى نبيلاً أو مترفعاً أو متجاهلاً لا أتطوّع هذه المرة ولا أقتحم عليه ضميره لأقرر، فقط أثبت الثابت الذي هو أنه لم يضبط في ذات فعل الرد والمجادلة أبداً.. على كل حال فقد وقفت عوامل كثيرة بينه وبين خصومه، وأما بالنسبة لي، وإذ كان بولس لي وابلوس لي وصفا والأشياء الحاضرة والمستقبلة الكل لي، فكذلك فإن الأب مَتَّى وخصومه هما معاً لي، وبينهما أرى ما لعلهم لم يرونه هم أنفسهم..
    وهذا هو ما بين الفريقين من تشابه صميم لم يدركاه.. فكلاهما صاحب فكر لا يقبل المناقشة.. ولا التخطئة.. وكلاهما يصدّر لزبائنه قوالب تؤخَذ كما هي أو تُترَك.. وإن اختلف شكل القالب بينهما بطبيعة الحال.. وقالب عوضاً عن قالب، وإن كان قالب الأب مَتَّى مغيظاً لأنه يربك الطريق لقيمة، بينما قالب خصومه طبيعي ولا تصلح مصانعهم بغير صبه وإنتاجه بل واستخدامه في قلب الماكينة المصنعة.. وإذاً فإن قالب الأب مَتَّى يوجضد ملوماً بالأكثر بمقدار ما إنه يضيّق على قيمةَ أعظم..
    ومن الشواهد ما يتوفر بقوة على هذه الآفة.. فأما عن خصوم الأب مَتَّى فالشواهد لا يمكن حصرها لحديثهم العصموي عن أنفسهم (بالفعل لا القول)، وحديث تابعيهم التأليهيّ عنهم (ويُلاحظ انهم يحاربون ما يسمونه بدعة التأله!)، وإن كل حدود التسامح الممكنة معهم فهي في نطاق الإساءة الشخصية، إذ لا تسامح في أمور العقيدة (بحسب تفسيرهم)، ولا الكنيسة (بحسب تقديرهم)، وحتى الاختلاف الشخصي يمكن تفسيره وقت اللزوم على أنه إساءة للكنيسة باعتبار الرئيس يمثل الكنيسة..
    قولبة تامة على جانب خصومه، وأما على جانب الأب مَتَّى، ومهما زاد مريدوه وعادوا في المرجعية الآبائية الأثيرة فإنه كتبها مرةً أنه لم يستشهد بشئ من الآباء ولا حتى الكتاب المقدس إلا ليقنع القارئ أن ما يقوله هو حق وأما بالنسبة إليه فالحق واضح ولم يكن بحاجة للشوهدة (العبارة جيدة المبدأ مع عدم خلوها من مبالغة ومع عدم توافقها مع حقيقة تراجع الأب مَتَّى عن بعض أفكاره)، على أنني على كل حال أسوقها للتدليل على حقيقة إصابة آفة القالب الجامد الملزم غير القابل للتراجع في القليل قبل الكثير..
    هذه هي إذاً القوالب الصارخة المتوفرة العصية عند أصحابها على الفك والانتقاء، وأما أنا فمن هواة فك القوالب والمزج بينها والانتفاع بكل الجيد، أشارك في هذا كليمندس السكندري صاحب هذا الشعار الأثير أن الحق هو في النظر في كل الجوانب وتجميع الحقائق منها.. ولو تنازل أحد الفريقين عن ذلك المتشابه بينهما لأمكن له عبور الجسر والوصول للآخر، بافتراض اللاوجود للعوامل الشخصية..

    وأبرز ما وقف بين الفريقين وحال بينهما ولم يبصروه، أو لم يبذلوا جهداً لتوفيره إن أبصروا، هو الاحتياج لعملية الترجمة، والتي لو كانت قد توفرت لألزمتهم بالصمت طويلاً، ولأجبرتهم على فهم ما لم يفهموه أو ما لم يريدوا فهمه.. إنني للآن أراقب بعض محاولات من يسيرون على خط الأب مَتَّى على نحوٍ او آخر، وأشفق واحزن لاستمرار غياب عملية الترجمة اللازمة، فالفريقان يتكلمان لغتين متباينتين: فريق الأب مَتَّى الذي هو أصلاً يستعمل لغة صعبة يعترف بعجز اللغة في العموم، وفي حيز ما قبل عجزها يخطئ لاشك ولكن لا يتوفر له من ينتقد أخطاءه لصعوبة لغته، وهو بعد كل ذلك يتسم بالعند ولا يقبل مراجعة، وأما الفريق الرسمي المخاصم فهو يستخدم لغة بسيطة ولكن يفوته المران المنطقي والقدرة على فهم ما يقول اصلاً على بساطة لغته، ولذلك فأكثر ما سيقع فيه هو التناقض.. لغة الأول لا أقول مراوغة ولا مائعة، ولكنها رخوية متعبة الإمساك، ولغة الثاني مقولبة وجافة وجيدة البناء بها لولا أن مستخدميها قد أخلوها من المنطق واكتفوا بحفظ بعض من محفوظاتها الأثيرة دون فهمه..
    ومن بين ما يفوتهم للتواصل محاولة ترميم الفجوة بين البنيتين والعوائد في التفكير.. فكر الأب مَتَّى متكامل ذو سعي ونزوع طبيعي من مبدئه نحو الفكر الوحدوي المتكامل، وإن افتقر لما سبق مناقشته لا أكرر.. وأما الشكل الفكري للناحية المقابلة فهو تشكيلة الجزر المنعزلة التي تفتقر للشكل الفلسفي أو المنطقي أصلاًً، والتي تقود لمزيد من التناقض، وفي أقل الاحوال سوءً لتكدس الأشتات دون رابط له شكل نظري محترم، وأما الشكل الواحد الجامع لكل تلك الأشتات فهو البنية السلطوية العارمة، التي تجثم في كل المستويات، في الواقع كما في الفكر، كما في التفسير، كما في الضمير..
    ومن الخلافات الرئيسة اختلاف المرجعية التي لها الولاء، فالأب مَتَّى فتح المرجعية الآبائية وجلب معها صداقات كانت بعيدة عن واقع الكنيسة القبطية ولها رائحة قريبة ولكن غريبة.. وأما خصومه فقد بقوا مخلصين لفترة الاضطهاد العربي العاصف الذي ألجأ القبط للاكتفاء بموقف الدفاع، ومساومة المضطهد في بعض عقائدهم والتضحية ببعض العناصر الإيمانية إن استفزت الخصم او غن أتعبتهم في الشرح، وإذ ذهبت ألسنتهم القديمة غرقوا في الخرافات في الجانب التقويّ من حياتهم، وغرقوا في سماجات المنتوج السرياني الوسيط (يحي ابن عثديّ هو الأبرز هنا) في شرح الإيمان المسيحي، وإذا قامت اصول ذلك الفريق بمحاولة غصلاحية فقد اضافوا للفكر الموروث من المنتسبين لعلم الكلام السريان ما استحسنوه من انتاج البروتستانت والكاثوليك والأروام مما ترجموه في نهاية المئة التاسعة عشرة وبداية المئة العشرين، فبقوا بمرجعية مختلطة غير متسقة زادت تشكيلتهم الفكرية تشتيتاً وخلطاً.. ومع هذا الموقف المتباين المرجعية فإن كلام الآباء صار غريباً بل ومخيفاً، وفي اكثره اقرب للبدع ومثير للهرطقة.. ولا ينتهي هذا الأمر إلا باحتقار أتباع الأب مَتَّى لمرجعية الخصوم وللخصوم بالتبعية، وبغضب الفريق الرسمي وعصفه بأولئك المبعدين الجدد المنتسبين للقدامى الذين لم يسمعوا بكلامهم من قبل وإن حفظوا أسماءهم وبنوا حيثيتهم وقانونيتهم عليها..

    وكثير من نقاط التباين والتي كان يمكن التوصيل بينها رغم كل شئ وانتفاع كل فريق بالآخر، ينفع الواحد صاحبه للكثير الناقص فيرد الآخر بالقليل اللازم.. إن لغة الأب مَتَّى تحتاج لبعض التماسك والذي كانت ستقتني منه ما يلائمها دون إخراجها عن طابعها ومذاقها الفريد لو كان صاحبها قد اجتاز خبرة محاولة ترجمة بعضها للغة السائدة، ومقابل ذلك فإن خواء خطاب الفريق الرسمي وبروده يحتاج لما يبعث فيه الحرارة والرطوبة المتوفران بغنى في لغة الأب متى..
    وأما عن الفكر فإنني مضطر ألا أوازن وأقرر بكل حق أن تلك الجزر المنعزلة في فكر الفريق الرسمي تحتاج إذ يفتضح عوارها وعسف تجوميعها ومابينها من تناقض، تحتاج لبديل يحل محلها إذ تئول لما تستحقه وهو الإزاحة إلى غير رجعة.. وأما قضية المرجعية فها هنا المشكل الحساس والذي يحتاج لتعاون دقيق..
    والآن مع قضية تباين المرجعيات، والتي هي أكثر القضايا حساسية، والتي أخسر فيها صداقة الجميع إذ أقرر وأدلل أن كلتي المرجعيتين ليستا معصومتين.. ولكتيهما ليستا على كل الخطأ.. وما كان أحرى، ولا يزال حرياً وممكن التنفيذ، لقاعدة كليمندس السكندري بالتوقيع، والتي هي أخذ الحق المتوفر في كل الأركان لاقتناء الحق الكامل.. لقد بذل كل أصحاب الشروح أفضل ما لديهم وفي حدود منطق عصورهم، ونحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور يحق ويجب لنا أن ننتقد كل الموروث، الآباء أولاً، واللاحق في عصور الاضطهاد ثانياً، ثم الوافد الغربي أخيراً، ولا نكتفي بالأحكام على الهوية أو العنوان، كان يُوصَم الفكر الأنسلمي بالتجديف جملةً وتفصيلاً هكذا، أو يُقال على رافضي تخاريف الكاثوليك اللومباردية أنهم معاندين للكنيسة بهذه الغشومية، أو يقال حتى على من يدعون لمراجعة أقوال الآباء في ضوء الكتاب المقدس إنهم بروتستانت (وأنا من هؤلاء القائلين وإن كنت لا أعلم أن لي رفاقاً في الرأي إلا من سمع مني وصدّق).. إن ذلك الفكر المقولب هو الآفة التي يشترك فيها الفريقان، سبق لي قول هذا فميا أظن، وإن اختلفا في شكل القالب!

    وإنني بين خصوم الأب مَتّى وبينه في موقف طريف، وإنني على كل حال أعمل عمل الرابط المشترك:
    أجِدْنِي أولاًقائماً مقام الوسيط بين لغتهم ومضمونه.. فلغتي غالباً هي لغتهم، أما مبادئي وغاياتي فهي غالباً مبادؤه وغاياته.. (اللغة هي المنطق وطريقة الاستدلال بحسب استعمالي للكلمة في معناها الأعمق).. ومشروعي القديم الدائم هو التعبير باللغة السائدة المباشرة المنطقية أفضل التعبير الممكن عن المعاني والأغراض المسيحية التي لا يسوغ للغة من ألفاظ أن تحدها.. ومع تسليمي بما قاله الأب مَتّى مرات أن عجز اللفظ كثيراً ما يحدّه فيتوقف عن الكلام، فإنني أظن أن في اللغة الفقيرة لازال هناك قليل من خير، وفي ضيقها بعض المتسع لكي تعبر عن المعنى، وأقل القليل ففي إمكان لغة المنطق أن تحدد أين يحق لها التوسع، وأين يجوز لها الامتداد، وأين ينبغي أن تقف.. في مقدور لغة المنطق، في يقيني، وعن تجربة، أن تسمع صوت المتكلم، وتخضع له، القائل: إلى هنا تأتي ولا تتعدين، وهنا تُتخَم كبرياء لججك.. أظن أن الكنيسة تحتاج الآن لوسطاء بين اللغة والمضمون.. إنني لا أملك مصادرة الأب مَتّى على لغته، إنما كل ما أدعيه أنني لم أيئس بعد من اللغة الشائعة المفهومة عند منتقديه، وعندي، وعند الجمهور، خلا أن أولئك الخصوم يتكلمون لغة لا يفهمونها على بساطتها ويستعملون منطقاً لا طاقة لهم به ولا صبر عليه.. لغة المنطق المباشر لايزال بها بعض الخير، والمضمون الروحي كمال بلا منتهى وواسع جداً، ويرحب بكل وعاء ينهل منه، ووعاء الذهن الذي هو منطقه ولغته يحتاج للامتلاء من مياه المعاني الروحية حتى لا يمتلأ بالماء الآسن الذي يسمونه عقيدة، وعلم لاهوت! ورغم ذلك من ناحية تدهور إنتاج خصوم الأب مَتَّى، ومهما كان من أمر التعالي (المستيكي) من الأب مَتَّى على اللغة (الديالكتيكية) بحسب قوله، فلا مناص من الخروج منها وهي اللغة التي خلق الرب الإنسان عليها، وأقول في هذا المعنى أيضاً: لا تأخذوا اللغة بذنب المتحدثين بها، فإن كان إنتاج خصوم الأب مَتَّى معيباً في كثير من جوانبه، فإن اللغة ذاتها البسيطة الخالية من التيه والغرق في (مستيكيته) قادرة على التعبير عن صميم غرض الأب مَتَّى ذاته لو حسنت وبذل الكاتب بها مجهوداً أفضل في إتقان التعامل معها..
    ثم أجدني عاملاً مشتركاً لتلقي غضب الجميع عندما أرفض عصمة مرجعيته.. وأنا لا أرفض العصمة فحسب، وكلهم لا يدعي العصمة قولاً وإن ادعاها مضموناً، بل أنا أرفض في مرجعيياتهم الحيثية المرجعية أصلاً.. مرجعيتي هي الكتاب المقدس القانوني، مدروساً بالذهن المخلوق على صورة اللوجوس مُتَأمَّلاًَ فيه بالروح والحق.. هذه هي مرجعيتي، وبها افحص كل شئ.. إذن فبينما يرفض فريق الأب مضتَّى مرجعيات الفريق الرسمي جملةً، ويرفض الفريق الرسمي مرجعية الأب مَتَّى الآبائية فعلاً وغربةً وجهلاً وإن قبلها اسماً، بينما يبقى هذا الرفض الشامل من الفريق الواحد لمرجعية الآخر فإنني لا أرفض شيئءاً جملةً ولا أقبل شيئاً جملةً وادعو وأتمسك بالمرجعية السالف تبيان عناصرها، والتي يمكن لها أن تنتقي الخير من الجميع وتستبعد الدخيل..
    وفي كل الأحوال، وأياً كان المشترك بيني وبين أي آخر، لا أقبل بعصمة آباء (وإن قدرتهم وأحببتهم ودرستهم وانتفعت بالنافع الكثير منهم) ولا بتسليم كليات إكليريكية حالها يحزن (وإن تمنيت لها غير حالها)..
    ولعلي الآن قد سئمت من التزود في هذا الفصل الكئيب كآبة الانقسام ولعلي اكون قد بلغت نهايته ولكن ليس قبل أن أضع خطاً فاصلاً أخيراً للتنبيه أنني في كل ما عرضته في الفقرات السابقة من انتقاد نظري وتعليمي لإنتاج الأب مَتّى، لم ألتق في شئ يُذكَر بالموافقة مع خصومه المعروفين في هجومهم عليه رغم ظاهر أن كلينا، أنا وخصوم الأب مَتَّى، نتشارك في انتقاده.. إذ أن انتقادي كان انتقاداً له، وانتقاداتهم كانت انتقادات عليه.. وانتقادي فيما يستحق الانتقاد وبعد بذل الجهد في التماس أسباب الفهم والعذر إن لزم، وأما هم فيكيلون في الفارغة والفارغة ولا ملآنة..

    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book روحانية في غير محلها

    لم أملك عدم تسجيل الفقرة الآتية،
    ولم أجد بين محبي الأب مَتّى من يدافع عنه هنا إلا بالنكات والمزاح أو التجاهل،
    ولم أجد بين خصومه من لامه على أغلب ما جاء بها،
    باستثناء نقد كتاب الكنيسة والدولة، وليس حتى على أهم ما يستدعي النقد،
    ولم أجد أية غضاضة في الوقوف وحيداً في الميدان بين خصومه وتلاميذه
    بل كنت سأجدها إن لم أقف

    وأعود فأذكر بمناسبة هذا الفصل آسفاً أن أول ما قرأته للأب متى في بكور مراهقتي كتاب الكنيسة والدولة، فكانت هي البداية الخاطئة لي معه، إذ نتج عنها عزوفي عن الكتب التي تحمل اسمه حتى عدت لها محمولاً على الضرورة التي أوجدتها هجمات خصومه.. وللأسف على ذات نهج أرائه في "الكنيسة والدولة" سارت كل مواقفه السياسية لاحقاً..
    وها المقال يأت أخيراً لثمرة حتمية من ثمار طغيان النزعة الروحية (الطوباوية) على غيرها، فقد طغت روحانية الأب مَتّى على وجدانه وذهنه حتى ميدان السياسة والاجتماع، فصار كطفل في برائته وسذاجته معاً وهو بصدد تلك الساحة الوعرة، وإن كنت استثني تحديداً من بين آرائه في هذا الصدد هجومه على الاتجاه القسطنطيني في تاريخ الكنيسة، والذي وافقته فيه قبل أن اقرأ له، والذي أذهبُ فيه لأبعد مما ذهب هو، فإنني بعد أن أستثني هذا الرأي تحديداً، أُسَلِّط علامات التعجب باطمئنان لكل ما وصل إليّ مما ذهب إليه الأب مَتّى من آراء في السياسة:

    في حديث سنة 1978 للأب متى مع باحث يعد رسالة دكتوراه عنه، يصرح:"فكرت جدياً أن التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية لأعمل في صفوفها في فرقة الإنقاذ كصيدلي"،كان هذا (ربما 1962) بحسب تصريحه.. لماذا؟ يقرِّر:" لقد كنت طول حياتي أنحاز للمظلوم وأكون على استعداد تام لتحمل مسئولية الدفاع عنه مهما كلفني ذلك"..
    !.. بسبب تعاطفه مع الفلسطينيين المظلومين يفكر في التطوع في فرقة إنقاذ مقاتلي منظمة التحرير، مؤيداً للعنف بفكره هذا، وأي عنف؟ عنف جماعات مسلحة لا دولة منظمة لها قانون يمكن مراجعتها به لأسوأ الظروف.. وجماعات لا تخلو من المتعصِّبين والمجرمين القتلة.. وجماعات قامت بقتل ابرياء لا شك في برائتهم؟
    ويستمر: "ثم في حرب 1967 ... كتبتُ أول كتاب نزل من المطابع بعد الهزيمة باسم "ما وراء خط النار".. وهناك الأهم من ذلك بحسب قوله: "ولكن الأهم من ذلك كله فإني منذ قيام الثورة وأنا أنادي بضرورة الانضمام إلى ركب العمل الوطني وعدم التخلف عن المناداة بالاشتراكية (التي كانت سائدة آنذاك)"وما بين القوسين في الاقتباس من تعليق محرر المجلة فيما يبدو، والذي تنبه لأن دعوة الأب مَتّى لعدم التخلف عن الاشتراكية لصارت هي نفسها دعوة متخلفة بعد تخلف الاشتراكية ذاتها..
    ألطف تعليق على هذه الدعوة هو أنها احتاجت من محرر "مجلة مرقس" التدخل بالتعليق أن الاشراكية كانت هي السائدة جينذاك.. وكأنه يقول بطريقة المخالفة أنه لو لم تكن سائدة لما كان قد دعا إليها، أو كأن تعليق المحرر يقول بمنهج الاسترسال: لو كان غيرها سائداً لدعا الأقباط لعدم التخلف عن "غيرها"..

    ثم هل هي كانت تنقص الأب مَتّى؟ ألم يحُصِ خوارس كهنة (الحتمية الاشتراكية)؟ ورهبان (الدفع الثوري)؟ بل ألم يفكر في كمّ فساد (إكليروس الثورة)؟ حتى يزج بنفسه بينهم؟ لعله كان من القلائل من أصحاب (النقاء الثوري) في ذلك الزمان.. ولكن حتى هؤلاء الأنقياء، حقيقةً أو بين الاقواس، جاز عليهم لاحقاً، وبحق، الانتقاد على ما عملوه، فبالأولى يجوز على الأب مَتّى.. ثم هو يعطي الفرصة، بآرائه المتسرعة، للتشكيك في مصداقيته الاشتراكية، عندما توقف عن (الدفع الاشتراكي) في مرحلة السبعينات وصار صديقاً لبلدياته الرئيس الانفتاحي.. أما عن دخوله خلف خط النار، وهو في قلايته في وادي الريان، ليطبع أول كتاب عن الحرب يقوم بإهدائه للرئيس عبد الناصر، فهو عمل فيه تجاوز للتقليد الكنسي باتصال رجال الإكليروس دون علم أساقفتهم بالحاكم، وقد كان للكنيسة موقف وطني واضح لا مزايدة عليه، فما الذي اوجب عمله؟ وبأي شئ يوحي؟ وبقية التعليق متروك لاستساغة القارئ..
    وبعد ذلك عمد الأب مَتّى للحديث عن فضل الأقباط في الحركة الوطنية متمثلة في حزب الوفد حتى سرد قصة محاولة اغتيال سعد زغلول بعدة أخطاء: "فارس جبان ... رشق السونكي ليصيب جانب سعد زغلول، فتلقاه سينوت حنا بصدره".. والأب مَتّى لا يُظهِر هنا معرفة دقيقة، ولاإلمام بالتفاصيل، فالذي حاول اغتيال زغلول لم يكن فارساً، بل كان خصماً سياسياً، ولم يحاول طعنه بسونكي، وإنما أطلق عليه الرصاص في محطة مصر، وقد وقع هذا في يوم التشريفات، ولعل ذلك سبب الالتباس وافتراض ان الجاني فارساً.. على أن الخطأ الأبرز هو حشر اسم سينوت حنا خلطاً بين محاولة اغتيال سعد زغلول تلك في سنة 1924، وإحدى محاولات اغتيال خليفته النحاس، وهذه الاخيرة هي التي تدخل فيها سينوت حنا ليفتدي النحاس وليس سعد..

    ولكن الأسوأ في هذه الأحلام السياسية (المستيكية الأبوية) هو تورطه، وهو يشيد بنشاط دير أنبا مقار الوطني، في التصريح التالي: "الدير يصدر مجلة ... وكتب... ويصدر أحياناً مقالات في الشئون الوطنية ليُعًبِّر عن رأي الأقباط في المواقف الخطيرة للوطن" .. المتوقع من الأب مَتّى المفكر المتحرر أن يكون بعد الأخير في طابور من يختزل رأى الأقباط في رأي فرد أو مؤسسة.. ولكنه يقولها للأسف: "الدير... يعبِّر عن رأي الأقباط في المواقف الخطيرة للوطن" .. وقد يكون رأيه أو رأي الدير أو غيره متفقاً مع رأي الأقباط في هذه القضية أو تلك، ولكن لا هو ولا الدير يُعَبرِّ من حيث المبدأ، عن رأي الأقباط.. أنا مثلاً من الأقباط ولم أوكِل أحداً للتعبير عن رأيي..
    ويستطرد في ذات الحديث مشيداً بمجهود دير أنبا مقار الوطني: "هذا فضلاً عن استقبال الزائرين والحديث معهم أقباطاً ومسلمين وأجانب ... وخرج عن الدير سمعة... أن دير أنبا مقار لا يعرف التعصب وأنهم يحبون المسلمين!! وقد زارنا رئيس الإخوان المسلمين مرتين" (!!) هذه المرة علامتي التعجب من عندي.. والتعجب من سذاجة الكلام، فهل استقبال الدير للناس يُعبِّر عن عدم التعصب؟ ثم ألا يوحي هذا بمنطق المخالفة بأن الأديرة التي لا تستقبل الناس متعصبة؟
    (الاقتباسات السابقة من مجلة مرقس سبتمبر 2006 صفحات 10 – 14)

    وفي حديث عارض مع أحد مريدي الأب مَتّى، ذكرتُ متندِّراً، وللحق مُغِيظاً، بعض هذه الآراء المذكورة في هذا الفصل، فأجابني ضاحكاً: "غالباً كانت يد الإدارة الكنسية ثقيلة عليه وقتها"، فواصلت: "ولكن الأب مَتّى بقي يذكر هذه الآراء طالما واتته فرصة، ولازال منتجي تراثه يعرضونها (حتى عام 2006)"، فواجهني بلا اكتراث، والنتيجة أنه أغاظني هو لا أنا أغظته.. ما علينا.. وإنما على من يقبل هذا الإفراط اللاعقلاني، الذي صار من فرط إفراطه لاعاطفي، ولامقبول، ولامردود عليه بأي حجة وجيهة..
    وبالمناسبة فأنا لا أقبل شعورياً فكرة أن تكون من بين مبررات الأب متى دوافع شخصية كما قال لي بعض مريديه لا خصومه.. لا اقبل هذا ولا أستسيغه، وحتى لو قبلتُ، فتبقى كل أفكاره السياسية متآلفة مع نزعته المفرطة في الطوباوية وتبرير الجميع.. ولو لم تكن عليه حروب وخصومات، فما كنت أظنه قد ذهب لغير عين تلك الآراء والمواقف..

    ثم طالما فتحت باب آراء الأب في السياسة، فلا يمكنني ألا أعود لبدء تعارفي به في كتاب الكنيسة والدولة.. وفي هذا الكتاب تبدو بكل وضوح العيب الأكبر في الأب مَتّى وهو التفكير المبرمج للوصول للنتيجة السابق تحديدها.. وهذا العيب يظهر فنياً في صورة الاستقراء الناقص كعادته.. مثلاً ولكي يعبر عن صورة المسيحي الناضج غير المصاب بعقدة الاضطهاد يصنف الاضطهاد لأسباب كثيرة لادينية وهو بهذا يبرِّئ المُضطهِد من التعصب.. ثم يأتي في النهاية وبعد أن يُنسى القارئ أن مُضطَهِده متعصباً ليقول إن الاضطهاد الناشئ من التعصب الديني هو موروث أزمنة الجهل، أما العصر الحالي فهو "عصر جديد بلا شك فالحكومة آلت أيد أمينة وعقول نزيهة مستنيرة وقلوب رحيمة وضمائر حرة غير مستعبدة للمطامع، ودخلت السياسة في عصر من أزهى العصور التي مرت عليها البشرية من فجر قيامها حتى الآن إذ يتحكم فيها الضمير والعقل الإنساني وتوجهها أهداف ثابتة كريمة خالية من التعصب والتحيز ......".. ومكان النقط استطراد في الوصف (المستيكي) للواقع، بل هو مستيكي بحق ودون أقواس لأنه يصف أموراً سرية غير ظاهرة في الواقع وغير مرئية إلا للأب متَّى، الذي حتى لا يظن قارئه أنه يشير لمكان آخر أو زمان آخر، وإذ شعر هو نفسه بصعوبة تعرف القارئ على أي زمان ومكان يتكلم، يقول في الهامش: "يتضح ذلك من روح الميثاق".. وبعد هذا الوصف المستيكي، وأسوقها بأريحية بدون أقواس الآن، يقدم رسالة إنجيلية للقارئ بأن يواجه الاضطهاد بشكر..
    (الاقتباس من كتاب الكنيسة والدولة، يونية 1963، رسالة بيت التكريس بحلوان – 6 -، صفحة 62)
    والرسالة من المتفق عليه بلا شك، ولكن عرض الأب للموقف كله مغالطات وفساد استقراء واقعياً وروحياً معاً.. أما واقعياً فليس مجرد أنه لم يستقرئ الواقع، بل أنه لم يقرأه أصلاً، وقرأ لنا بدلاً صورة موجودة في خياله فقط.. فأغلب الجوانب التي وصفها مضحكة ضحك مداراة الخجل، وفيما يخص قضية الاضطهاد تحديداً يكفي التذكير بأمر بكتاب كان مقرراً على الطلبة في المدارس، في ذات (العصر السعيد) وقبل تاريخ كتابه بسنتين أو ثلاث.. هذا تجاهله الأب تماماً.. أكتفي بالتذكير بهذا وأترك وصفه المستيكي لنزاهة و و و و وماذا؟ وروعة الواقع وتفوق الحكومة عن حكومات كل العصور والأماكن "كما هو مكتوب" (في الميثاق أعني)، أتركه لألف ليلة سوداء وليلة، وبالمناسبة كتاب الميثاق في مكتبني لمن يود التعرف على روعة الواقع وقتها.. عيب هذا الكلام.. عيب بجد.. أفهم أنه لم يكن في المقدور نشر الحقيقة، ولكن الصمت عنها كان في المقدور.. هذه شهادة زور مضحكة للخصوم، ومخجلة، ينبغي أن تكون، للمحبين، ومزعجة للذين يعرفون قيمة كاتبها ويبحثون عن تراجع له عنها كان واجباً فلا يجدون فلا يملكون إلا تسجيلها عليه.. ولكن ما يُعنيني جداً هنا هو فساد الاستقراء الروحي..
    من الجيد أن يصنف المعلم الروحي أنواع الاضطهاد بإتقان كما فعل الأب.. ثم من الجيد جداً أن يحذر في متن الرسالة من إصابة المُضطَهَد بعقدة.. ثم من الامتياز أن يختم الرسالة بالتشجيع على احتمال الاضطهاد بشكر.. ولكن من غير المقبول ولا حتى بدرجة ضعيف أن يفوته أن يشجع المُضطَهَد على الوقوف موقفاً إيجابياً تجاه اضطهاده.. لقد فاته أن يجيب سؤال المضطَهَد: "حسناً أنني من الداخل امتلئ بالشكر والاحتمال بالإيمان، ولكن ماذا أفعل خارجياً؟ كيف أسلك تجاه المُضطَهِد؟" فاتته الإجابة التي كانت تحتاج لاستقراء كل أنواع الواقعين تحت الاضطهاد على تباين خبراتهم الروحية والعملية والبيئية.. ما كان له أن يتورط في تقديم النصيحة في هذا الموضوع الخطير إلا وهو قد قام بواجبه الخطير في استقراء جمهوره المضطَهضد وتوجيه سلوكهم العملي الذي يتنوع بحسب ظروف كل واحد تجاه هذا الاضطهاد.. آه.. لقد فعل شيئاً من هذا: نصح الذي يشعر بالاضطهاد أن يهتم بحسن هندامه (بجد وليس هزراً – المرجع السابق)..

    وبجانب هذا المثال من الكتاب المذكور أمثلة، ومع كل هذا أعود وأقرر أنني لا أصدق ولأسباب تحليلية موضوعية من واقع سمات شخصية الأب مَتّى، أن الأب مَتّى المسكين كان يقصد نفاق الحكومة، أو أنه كان ينفث غضبه ضد الغدارة الكنسية، ورغماً عن إقرار بعض أشد مريديه لي بأنه كان هكذا فعلاً، ولكن أرى أن سبب أخطائه الواضحة التي تتقدمه أنه انجرف وراء صورة جميلة في خياله أسقطها على الواقع، فاكتفى في استقرائه بالمعطيات التي تتفق مع الصورة المطلوبة، وأسرع بتقريرها.. نفس المشكلة التي استمرت معه للنهاية، والتي استمرت مع المقال من البداية.. مشكلته الدائمة كمفسر والآن كشاهد سياسي وموجه اجتماعي!
    والخلاصة أن هذه الحزمة من الآراء السياسية تدفعها حماسة مسيحية وضعها الأب في غير مكانها، ومعرفة سطحية فيما تكلَّم فيه، وانجراف دون تروٍ ودون تبصر للنتائج التعليمية في آرائه، والتورط في اعترافات تقوم ضده بالزيادة طالما لم يعلنها إعلان دينونة النفس ومراجعة الأخطاء.. حصيلة الأب مَتّى السياسية والاجتماعية غير مريحة، وغير فطنة، وليست في مكانها.. كان يمكنه أن يظل وطنياً دون أن يراسل عبد الناصر ويسير في زفته الاشتراكية ويكتب لها الكنيسة والدولة، القبيح بين أعماله الجميلة، وكان يمكنه أن يظل كارهاً للظلم دون التفكير في التطوع في حركة فتح أو الحركات الشيوعية، وهي الحركات التي تكون منظمة التحرير الفلسطينية، وكان يمكنه أن يظل متسامحاً وأن يستقبل رموز الأديان الأُخرى دون أن يعتبر هذا الاستقبال هو دليل التسامح مُخرِجاً بإيحاء المخالفة من لم يستقبل أحداً من دائرة المتسامحين، وكان يمكنه أن يظل منفتحاً دون استقبال أُناساً بأعينهم سيأتي الحديث عنهم حالاً:

    وأظن أن ألطف تعليق خاتم لتلك الفقرة هو من تعابير المتكلم البارع الأب مَتَّى صاحب أجملها، إذ قال في موضع من مذكراته إن جيله قد ضاع باتباعه لتافهين أصحاب دعوات تافهة، وقد ضاع بالمرة من الأب مَتَّى بعضاَ من رصيده الوافر مع ما ضاع من جيله..


    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book O Sancta Simplicitas

    ثم هذا الآتي هو الأسوأ عندي على الإطلاق، والذي أظن أن كل من يمتلك حساً سليماً يراه الأسوأ كذلك، أن استقبالات الأب مَتّى تعدت حدود (الطيبة) و(عدم التعصب) والشهادة لمحبة المسيح، لتدخل في ساحة مُوجِبات الغضب وما هو أقوى من الغضب.. وليس عندي أمثلة كثيرة، ولكن عندي مثال معين يترتب عليه حكم عام، فهو يستقبل في صومعته صحفياُ سيئ السمعة، وهو غير المسيحي متزوج من امرأة تحمل اسم المسيح، ويتاجر بزواجه بها، وهو بذلك شريك لمجرمة في جريمتها في حق اسم المسيح، وقصتها وقصته لا شأن لها هنا، ولكن الشأن كل الشأن لاستقبال الاب مَتَّى له.. ويصطحب هذا الصحفي في زيارته للأب مَتَّى (رَجُل) وزوجته يحملان اسم المسيح، والزوجة ليس عندها مشكلة أن تُزوِّج ابنتها لإنسان غير مسيحي، وتقول هذا في تصريح عام قرأه (رَجُلها) بالتأكيد.. وأما الـ(رجل) فقد أعلن وتحذلق في الإعلان وكتب تحت صورته القبيحة مفتخراً وممثلاً بمعيشة واحدة تحمل اسم المسيح تحت إنسان غير مسيحيّ، وبالغ الـ(رجل) في إطناب المديح واعتبار المثل لدرجة تنصيب بيت هذا الزوج من البشر كمثال أعلى للوَحدة الوطنية! وله من قبيل ذلك العار أقوال أخرى ولا ألتفت لتشكيل الكلمة..
    !
    علامة واحدة للتعجب تكفي، وهي من نصيب الأب مَتّى، وليست لأولئك "المتسامحين المستنيرين" الذين استقبلهم، إذ لا مجال للتعجب معهم، ومن أمثالهم يأتي ما هو أقبح.. أما وجه العجب والغضب فهو من (سماحية) الأب مَتّى (المستيكية) التي سمحت له باستقبال هؤلاء المجرمين في العرف المسيحي..

    لعل أسقفاً يعيش بين الناس لا تجوز مراجعته في استقبالاته، وإن ليس على الإطلاق، ولكنّ أباً راهباً منعزلاً، كيف يُبيح اسَمه لهؤلاء الذين سيخرجون بصورة معه كوثيقة اعتماد لحيثيتهم في عالم (التسامح)، وكيف لا وقد استقبلهم أحد أساطينه؟.. ولست من مهملي الأعذار، بل وألتمسها حين لا توجد، وقد حاولت ذلك مع موقف استقبال الاب مَتَّى لأولئك الواجب رفضهم، فقلتً اولاً لعل الأب مَتَّى أراد أن يكون واسطة شهادة للمسيح، ولكنه لو أراد ذلك ما انبغى له أن يهمل إعلان أن ذلك هو غرضه، وأن يظهر للناس كيف قام بالشهادة للمسيح وتوبيخ الخطية المهينة، وأوجه اللزوم لذلك الإعلان كثيرة على كل وجه:
    لزوم ذلك الإعلان يقضي به الواقع المر الذي يتمثل في أغلبية قبطية بليدة الحس نحو القيم المسيحية الأسرية، وأصول التعامل مع الآخرين، لو لم يوازن الأب مَتَّى عمله بإعلانه غرضه منه لاعطاهم مخدراً مضافاً لحالة التلامة في الإحساس بالشرف..
    لزوم إعلان الأب متى أنه يستقبل أولئك المهينين ليشهد عليهم بإهانتهم ورفضها هو لزوم عدم إعطاء الذئاب الخاطفة مادة جديدة لتحلية وترويق وتذويق أعمال اختطافهم ونجاساتهم،
    لزوم ألا يكون الأب مَتّى من بين من تُستَخدم أسماؤهم واستقبالاتهم طعماً للبلهاوات،
    لزوم ترضية أمثالي وهم حقيقون بالترضية،
    لزوم تشريف اسم الكهنوت والرهبنة..
    كل هذا وأكثر هو لزوم إعلان شهادة معمدانية جسور ضد قباحات من استقبلهم، شهادة تحفظ وضوح المحبة وشفافيتها، ولكنها تعلن مع المحبة كلمة الحق ضد شر وضربة هذا الزمان، شر الاختلاط القبيح والتفريط الغبي في الهوية المسيحية التي لا يحق وصف التمسك بها بالتعصب، بل هو عين المحبة والتسامح، ولكن الأب مَتّى للأسف لم يعلن شيئاً من هذا، واكتفي بالرفرفة في (مستيكيته)، وحلَّق في أعالي شهادة الحب الصاف، الذي هو لأسفي وأسف الشرفاء صافي من شهادة يحتاجها الواقع ويُلزِمها الشرف، وترك لسيء السمعة مبادرة الإعلان عن المقابلة ورسْمّها بحسب أجندته، وترك لزوج المفرِّطَينْ في بناتهما، اللواتي هن بناتنا وبنات الأب مَتّى بالأولى، فرصة الابتسامة الواسعة أمام الكاميرا..
    قلتُ قبل أن يقول هواة الدفاع والتوثين، لعله رأى ما هو أبعد من المواقف المعلنة، ونفد ببصره المستيكي لرؤية ما لا يُرى، وعزم، متشبهاً بسيده، على إعطائهم فرصة الرب لزكا العشار أو للمرأة التائبة (لا اسميها الخاطئة)، ولكن النتيجة مخيبة للآمال، فأين تلك الاستقبالات المخجلة من زيارة المسيح المخلّصة لبيت زكا الذي وقف موقفاً مشرِّفاَ وممجِّداً لدخول المسيح بيته، معترفاً بخطيته معلناً رده للمُغتَصَب مع أربعة أضعاف.. والمسيح لم يكن ليدخل بيته وهو صامت عن توبيخه إلا لمعرفته لهذه النفس واستعداداتها، فأراد أن يمنحها فرصة أن تًظهِر قوة التوبة التي تعلن نفسها إعلاناً ليس مدفوعاً بتوبيخ ولا طمعاً في كلمة رضا من الآخرين، بل بدافع الشهامة الروحيِّة للدفاع عن اسم وكرامة المسيح.. ومن لا يصدِّق هذا التحليل لقصة زكَّا فليسمع الرب وهو في بيت سمعان الفرِّيسيّ يوبخه علانيةً.. بلطف نعم، ولكن بإعلان.. ومن استحق التوبيخ لم يجامله المسيح ولم يحل في بيته او يستقبله ليسمعه كلمات لطيفة.. وعودة لمقصة المرأة التائبة، فهذه قد أتت اصلاً تائبة، ولينظر من يريد المقاوحة للفرق الدالّ بين مباركة المسيح للتائبةن وبين قوله للمرأة المضبوطة في ذات الفعل "اذهبي ولا تخطئي".. هل يستطيع أحد هؤلاء أنصار البلاهة المُقَدَّسة أن يقسم الجملة التي قالها المسيح للمضبوطة في فعل خطيتها: ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي؟ أو للمفلوج: ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشرّ؟ إن استطاع تقسيم إعلانات المسيح هذه فليلتمس عذراً للأب المخطئ في نظري الضعيف.. لعلي لم أسمع القالب المحفوظ غير المفهوم: "لا تدينوا كي لا تدانوا" فلعل ما فات كان كافياً لإيقاف القالب في أفواه المرددين، وعلى كل حال فليس المقال موضع لإفراد وحشد كل التفسيرات..
    حاولت التماس كل الأعذار للأب مَتَّى في هذا الاستقبال فقلت لعله لا يعمل من استقبل، ولا يبقى إلا هذا العذر أنه لا يعلم، لو كان..
    آخر ما بقي من الأعذار ليس أنه هو لا يعلم، بل أنا الذي لعلي لستُ أعلم شيئاً ما ألزمه بهذا الاستقبال، ولكن حتى هذا العذر الافتراضي لا يعني أن أقصر دون النقد، ولا يعني أن يتحجج هواة الدفاع به ضدي، فعندما يقوم صاحب الاسم والصورة بعمل يعيب في ظاهره لسبب يبرر في خفائه، فهو يقبل ويلتزم باحتمال النقد، وإلا فماذا يكون فضله؟ ولو كانت الأسباب الخفية مبرراً لعدم النقد لما جاز توبيخ أي خطأ ولما صار أي مانع لأي مخطئ ان يرفع هذه الحجة الفاشلة دفاعاً عن نفسه وعةن خطئه.. منكقي، أليس كذلك؟!
    وبالجملة وبالإجماع فمثل هؤلاء (المتسامحين) يكون الموقف تجاههم غضباً من حادَّي الطبع، واستياءً من هادئيه، وتعليماً وتحذيراً من المعلِّمين.. وشفقة من الروحيين ذوي القامات العالية، ولم تظهر أعراض أي رد من الردود الواجبة على أنواعها، حين لزم أن تظهر، من الأب مَتّى..

    المهم أن هذه العَمْلة السوداء، بجانب عماها عن ظروفنا الحالية، تعمى عن استشراف المستقبل القريب المظلم الآتي، وتعمى عن النظر في ماضي خبرات كنيسة أُخرى تبيح الزيجات المختلطة ويختلف (علماؤها) إن كانت جائزة مستوجبة البركة الكنسية أم جائزة فقط دون بركة.. ومن لغة تلك الكنيسة استوحيت العنوان الساخر غصياً عني، وما أحببت ولا اردت أن أصل في موضع من مراجعتي ورصدي للأب مَتَّى إلى حيث التهكم عليه إطلاقاً.. هل عمِي الأب عن كل هذا؟ عن ماضي وحاضر ومستقبل حتى أنه لا يجد بين مريديه الكثيرين من يستقبله إلا هؤلاء، فيستقبلهم بابتسامة واسعة أوسع من قدرتي على الغضب؟ ومكتوب أغضبوا ولا تخطئوا، وانا غضبت ولا زلتُ غاضباً، ولم أخطئ..
    ولا أخطئ أن أضيف أن استقبال هؤلاء يتعدَّى طاقة الغضب عندي، ولا يبقى له إلا ما هو أسوأ من الغضب والاستياء: حجب التعاطف تماماً.. وهذا اللاتعاطف هو عقاب ليس هيناً، وتستحقه عن جدارة عَمْلَة في غير مكانها من الأب.. هذا اللاتعاطف، الذي لا أسمح له بسلب الموضوعية التي صارت بعَمْلَة الأب موضوعية حزينة محبطة، هو ما وصل له وجداني تجاه الأب مَتَّى في مراجعتي القصيرة لحياته الطويلة، أقول للأسف ولا حيلة لي مع أصول الشرف.. لعله لا يعلم؟ ولعله لو كان يعلم ما ورَّط نفسه مع تعاطفي؟ من يعلم؟
    نتيجة هذه الفقرة نتيجة شخصية: لقد ذهب تعاطفي، الذي كنت أحب أن أتعاطفه معه، وإن كانت موضوعيتي باقية، وأمانتي لم تذهب، والتي بها أسجل هذا المقال..



    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book مع المسيح

    لا أظن أن المقال عادت به طاقة لعرض مادة هذه السلسلة ونقدها،
    لاسيما أن ما بها هو خلاصة ما سبق للأب متَّى كتابته،
    وما سبق عرضه بالنقد السريع في هذا المقال المتواضع..
    غير أن هذه الفقرة تعرض الدلالة الحقيقية الواضحة لهذه السلسلة:

    ذاك أفضل جداً.. وبهذا العنوان، مع المسيح، ختم الأب مَتّى إنتاجه، وجعل عنوان مسيرة حياته على الأرض عنوان آخر سلسلة مقالات، كتبَ كل منها كتعليق على شاهد كتابي، كُتِبَت بتواريخ متعاقبة يومياً على الأغلب، وجاء آخر مقال بتاريخ شهور قبل انتقاله!!!.. ولمن أراد أن يشهد شهادة حق، فهنا دليله على شهادة الحق: أن إنساناً في منتصف العقد التاسع من عمره في الجسد الضعيف، يكتب يومياً تفسيراً وتعليقاً على آيات عسرة الفهم.. فيخرج تعليقه كلاماً له معنى ورأي ويحمل مادة تفتح آفاق تفكير روحي وكتابي ولاهوتي لاشك في قوته.. فهذا الإنسان: بأي قوة يفكر؟ ويكتب؟ بانتظام وإصرار؟ الفقرة لهواة شهادة الحق..



    مع العذراء

    أما مع العذراء، الذي هو آخر عنوان صدر باسم الأب مَتّى على الإطلاق، فقد ابتسمت وأنا أُقلِّبه، إذ لم يكن إلا كِتاب صغير الحجم، به بعض التراتيل الواردة في كتاب الإبصلمودية الكيهكية وتسبحة نصف الليل.. كأن الكِتاب يهمس بأن هذا العملاق الذي خاض أهوال البريِّة وذاق مرارة خصومة الرئاسات، وقلَّب مراجع الجبابرة، وكتب المجلدات الضخمة، وتبنى الرهبان، وأدار أضخم مؤسسة رهبانية في كنيسته، هذا الرجل يختم حياته وهو في آخر رمق شيخوخته بتجميع تراتيل بسيطة للعذراء يتلذذ بها عوام الشعب القبطي، ولا تخلو من سذاجة كلمات ومعانٍ.. كأنه يعود لطفولته القبطية، ويختم على كل ما عمل بختم الماركة القبطية التي لا تحتاج لتسجيل: محبة العذراء والتلذذ والاحتماء في الترتيل لها.. وكأنه يردد مع الأجبية قطع العذراء التي استكثر الصلاة بها في وقت عنفوانه فيقول "وفي ساعة موتي احضري عندي ولمؤامرة الأعداء اهزمي ولأبواب الجحيم اغلقي..."



    كلمة ختام

    في فقرات تعددت وبعضها طال، حاولت رصد أهم ما في سمات الأب متى: متكلماً ومتأملاً ومفسراً وباحثاً وصاحب بعض المواقف، وفي كل مرة كنت ما بين المختصِر والمطنب حسبما اقتضى الحال وسمحت الطاقة، ولكن ماذا يبقى للختام؟
    مع كل ختام، لتأبين كل راحل، لا يبق في الذهن، مع الاحترام للمتون المكتوبة، إلا عناوين الفضل: ماذا صنع؟ ماذا بقي منه؟ ما هي بصماته علينا؟ أي أفضال للراحل نذكره بها؟ وأحب في الختام أن أقدم ذلك الذي يبقى دائماً من وبعد سطور طويلة مستطيلة، أحب أن أقدم شهادتي في عناوين عن أفضال الأب مَتّى المسكين في حدود ما لمسته وعرفته: فضلاً عاماً على جيله، وخاصاً بشخصي المتواضع..

    في نطاق فضله العام على جيله، أذكر أولاً رعاية الأب مَتّى للجيل الأول من حركات التكريس الجماعية.. وفي كل مرة أجيب فيها السائلين عن معنى المكرس ووظيفته، وقبل أن استفيض بمفهومي عن التكريس ورؤيتي لمستقبله ومقارنته بحركة الرهبنة، أبادر بذكر إرهاصات التكريس الأولى المتمثلة في مجموعة القمص مينا المتوحد الذي كان الأب مَتّى أحدهم، ثم أؤكد أن المجموعة الأولى للتكريس، بشكله الناضج، أو الجيل الأول كما أعتبره، كانت بيت التكريس لخدمة الكرازة المتتلمذ لإشراف الأب مَتّى المسكين.. وأعرف مكرسين جادين ومشرفين يقرون لهذا الرجل بالفضل على الترتيب الذي احتضنهم، وهذا فضل ملموس على الكنيسة كلها وظاهر الآن، وأظن أنه سيصبح حاجة ملحة للكنيسة القبطية في المقبل من السنين، وفيه، كما أرى، دواءً شافياً لأمراض الرهبنة، مثلما سبقت الرهبنة وقت ظهورها فكانت دواءً لأمراض الرئاسات الدينية في القرن الرابع، وهذا حديث شرحه يطول وخارج سياق المقال..

    ومن فضله العام على التعليم الكنسي اللاهوتي كله أنه طرق مواضيع كانت مغلقة أو مجهولة، ففتحها، وأعطى فرصة ذهبية للكنيسة أن تواجهها وتراجعها، وأوحى بالشجاعة الضميرية للباحثين، إن كان ثمة واعين شرفاء منهم، أن يتناولوها.. وقبله كان سلطان الضمير المريض لحد بعيد عنيفاً يحمل شعارات ممنوع التفكير ممنوع اللمس ممنوع الهمس..

    إنها شجاعته أنه قدم فكره رغماً عن السلطة، وفضله أنه قدمه خلواً من السلطة.. وفضل الرب الإله علينا أنه وقف للرجل بالمرصاد في كل مرة اقترب فيها من ارتقاء كرسيّ.. فإن أفضل ما في تراث الأب مَتّى المسكين أنه أنجز دون سلطة، قدم فكره وتأمله دون أن يتسربل بلقب أو يعتلي كرسياً يكون كحجر ختم ثقيل كئيب يجثم على ما قدمه، ويحول شرحه لعقيدة صماء، ويعرقل الباحثين المنتفعين بعمله عن البحث فيه وعلاجه تطويراً وتعديلاً..

    وإذ أختم في هذه الفقرة شهادتي بما للأب مَتَّى وما عليه عندي، لا أريد أن يبدو من زيادة حجم المؤاخذات على حجم نقاط القيمة أنني متحامل عليه، فالقيمة لا تُقاس بالعدد، وأيضاً طبيعة القضايا الخلافية أنها تقتضي الشرح والتفصيل، بينما القيمة يكفيها أحياناً، وهذا الحين منها، مجرد عرض المادة والتعليق بكلمة واحدة فيها ما يكفي، وإن كلمة واحدة أقول فيها: هذا الأفضل، أو الأروع، فأي مزيد ينقص ولا يزيد! ثم أن الإنتاج الجيد يستحق ما هو أفضل من ضجيج كلمات الإعجاب.. يستحق النقد الأمين.. وهذه هي المكافأة التي تريح ضميري تجاه أعمال الأب مَتّى المسكين..
    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book وما بعد الختام: مأساة تراث

    فأسوأ ما يمكن أن يتحصل بعد ختام كل هذا، هو تحويل الرجل الذي عاش حُرَّاً من، ورغماً عن، الأشكال والأسماء والرُتَب، إلى اسم لحزب، أو قِبْلة لشيعة، ويكون سبباً للتحزب.. والأسوأ أن يصير الرجل الحُرّ سجناً، زيادة على ما لدينا من سجون، كيف؟ بأن يصير شخصُه رغماً عنه لهواة اسمه محبساً لفكرهم ويحولون نصوصه لأرشيف المحفوظات..

    وقد يصير حزباً وقد يصير سجناً، فأنزعج أنا، ولكن ما سينزعج له خصومه، وهو ما لم يدركونه في وقته، أن وجوده كان المانع الوحيد لتطاول المنشقين عليهم.. لأنه كبير.. وفي وجود الكبير يتراجع الأقزام، وفي غيابه يستسهلون ادعاء كونهم تلاميذاً وسدنةً وحماة تراث.. ونسمع الآن بعد موته أن تافهي المنشقين، وكلُّهم تافه، يتمحكون به، ويقتبسون أقواله بصوت عالٍ، وفي وجوده ما كانوا يستطيعون.. لقد كان كبيراً فكان من ثمَّ صمام أمان للكنيسة من عبث المنشقين.. نعم كانوا موجودين ولكن أصواتهم المزعجة كانت خفيضة، ولم يفهم خصومه أنه كان سر حمايتهم من إزعاج التافهين الذين انتجوهم بانفسهم ضد أنفسهم فحماهم منهم من اتخذوه خصماً لهم، والآن غاب، فلينعموا بغيابه وبإزعاج من صنعوهم..

    وفي سطر واحد: إن مأساة تراث الأب مَتّى المسكين أن المستتلمذين عليه (لا التلاميذ له) لا يفهمون جيده، وليست عندهم الشجاعة للاعتراف بأخطائه ونقدها، وأن خصومه سيعانون من أولئك ويسببون للكنيسة المعاناة معهم مما حماهم الأب مَتّى منه فتبطروا.. هذان هما شقَّا مأساة تراثه، وإنها بحق لمأساة تراث "متعوب فيه" حتى الدم ولا يخلو محتواه من القيمة على غير وجه..

    ولا أختم بأنني متفائل، ولا حتى بكلمات رجاء زائف في التفاؤل أن الأسوأ لن يحصل، بل بالحريّ سأقرر حتى النهاية ما أراه حقاً، وليس التفاؤل في زمننا الردئ من الحق..



    السطر الأخير

    وهذا ما أعددته للسطر الأخير لكل هذه السطور، أنني سجلت رؤيتي المحدودة والضعيفة لجوانب من الأب مَتّى المسكين ومما تداعى إليها من أفكار عندي.. فهذا هو الأب مَتّى في فضله علىّ وعلى جيل وأجيال تالية، وفي تفوقه وفي مواهبه، وفيما أبدعه من تأمل وتفسير وصياغة، وفيما ارتكبه من عمايل سوداء كانت لتعبر دون التفات لولا أن سُلِّطَت عليها عدسة حجمه الكبير فكبرت معه، ولولا أنها وردت في سياق ناصع فظهر تباين لونها.. ويبقى له أنه يبقى، ففيما سكن جيله في قلايات من الطوب اللبن والطمي، حفر هو قلايته في الصخر، ومكافأته العادلة أنها ستبقى حين تزول قلالي الآخرين عند هبوب الريح ونزول المطر..

    August 2006,
    Partially Reviewed June 2010,
    C. Mark
    about 4 months ago · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book رغم التعجل في كتابة هذا المقال، والتعجل في نشره، فإنني كتبته بدمي
    ويحتاج بالمقابل لقارئ عنده دم
    وأعتذر،فقط لصاحب الدم، على الأسلوب المزدحم وطريقة التعبير المكثفة المرهقة، رغم ما بها من رقيّ بلاغة وصفه البعض بما أخجلني
    :)


    بهذا المقال أكون قد وضعت ستة مقالات عن الأب متى، هذا الطويل المنافس لليل الشتاء في طوله، ومعه واحد لا يقل طولاً مراجعة ونقد للهجوم على كتاب الإفخارستيا، ومعهم كتاب ترجمته وعلقت عليه لأحد الغربيين (ترجمت الكتاب كله وفي ليلتين كمان وفوقيه تعليق)
    ومعهم ثلاثة موضوعات قصيرة

    كفاية هأقطّع نفسي -- محدش بقى يجحيب لي سيرة الأب متى تاني
    about 4 months ago · Delete Post
  • Hany Samir Samuel مجهود رائع وممتاز لكن صعب القراءة , هل من الممكن وضعه في ملف وورد أو بي دي اف مثلا؟
    :)
    about 4 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book صحيح معك حق
    وانا بانسخه قلبْت بعض الفقرات دون قصد والهوامش تداخلت مع المتن،

    ممكن ارسله لحضرتك بشكل شخصي على أن يكون للاستعمال الشخصي
    انا باستعمل شكلين لكتابتي المتواضعة من عشر سنين: ريتش تكست واتش تي ام ال
    فأيهما تفضل؟ أظن مع طول المقال واسلوبه المتعجل لكن لو قُرئ في ملفه وفهرسه وروابطه هيكون أسهل واوضح

    وأشكرك للتعليق والطلب
    about 4 months ago · Delete Post
  • Hany Samir Samuel it would be highly appreciated if you sent it to me as html, my email: hanysamir30@hotmail.com

    Thanks in advance for your care... God bless you
    about 4 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post
  • Coptic Youth 4 Holy Book أرجو يكون وصل
    وأتعبك معايا ماتنساش تديهم نسخة في الكنيسة علشان يحرقوها مع بقية المحروقات أهو ينفع في فرن القربان
    بدل ماهو مالوش لزمة

    :)
    about 3 months ago · Delete Post
  • Hany Samir Samuel ???????
    about 3 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post
  • Hany Samir Samuel اها اعتقد ان انت مينا منير مش كدة؟ صدقني لو كنت اعرف مكنتش رديت التوبيك ده اساسا
    about 3 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post
  • Hany Samir Samuel كويس انك قلتلي عشان احذف الملف من عندي, معلهش اصل ميحصش واحد من الأقباط الرعاع الغوغاء يقرى كلام واحد من اليونانيين العظماء أمثالك
    about 3 months ago · Mark as Irrelevant · Report · Delete Post