Teen Stuff for Interview with Jesus




 

في البدء كان هذا الحوار

 

في البدء كان هذا الحوار!

 

In The Beginning

Was this Dialog!

 

 

 

كُتِبَ على ثلاث مرَّات.. كل مرَّة امتدت ساعة أو ساعتين..

لم يكن مُخَطَّطاً له.. لقد زارتني الفكرة وأنا أحضِّر لكلمة ثانية..

وأقنعتني أن أتوقف عن عملي لاقتناصها..

وتكفلت الفكرة بأسلوب كتابتها..

فجاءت مسترسلة من سطر لآخر لا تدع لي فرصة لصنعة، أو حتى لمراجعة..

 

اقرأ إن أردت وحَسَبْ..

 

واستمع له بصوت الكاتب في تسجيل خصوصيّ...

 

(أُضيفت إليه جملتان في ثالث صوم يونان 31 يناير ‏2007

بتأثير عزاء رباني، فللرب كل شكر على تعزيته)

 

 

 

     عادتي أن أعود لأمي مسرعاً لأنه دائماً يكون عندي ما أقصه عليها من انتصاراتي في مدرسة الراباي.. أي راباي من الذين ضمتهم قائمة من حظي بتعليمي عن رجليه.. وعندما تكون الانتصارات على زملائي فلا أعود بسرعة فائقة لأن هذا أمر اعتدته واعتادته أمي.. وهي تظهر لي اهتماماً عندما أكرر عليها هذه الأخبار ولكنه اهتمام في الظاهر فقط.. وأنا افهم هذا أنها تريد تشجيعي.. وهي تظن أنني أصدق درجة الاهتمام التي تبديها.. ولكن لو لم تتظاهر بالاهتمام وأتظاهر بالتصديق فماذا يسلينا؟ لاسيما بعد ذهاب أبي في طريق الأرض كلها؟.. ولكن أحياناً ما يحدث أن أعود بسرعة فائقة، وذلك عندما انتصر على الراباي نفسه.. وكم من مرَّة صححت للراباي أو ناقشته.. هنا أعود بسرعة ولا أقبل من أمي إلا الاهتمام الحقيقي..

 

     والحق أنه ليس دائماً ما تكون انتصاراتي هذه بحق.. فأحياناً ما أنتزع الإجابة من زميل قريب قالها بصوت منخفض، وأصيح أنا بها بصوت عالٍ، وألح في أنني أنا من قلتها، وأصمِّم على نوال الجائزة.. حتى لو كانت مجرد كلمة مديح.. هذا يتعب ضميري.. ولكنها لذة الانتصار.. لاسيما وأنا أرى نفسي الأحق بها حتى وإن أتت الإجابة على فم آخر.. فهي حتماً قد عَبرَتْ على ذهني أولاً، لكن لسانه سبق بها.. ولعله قالها متردداً، أو أنه لم يفهم تماماً ما قال، فلا يحق له إدعاء فضلها.... عموماً فإنني لا أُزعج أمي بهذه التفاصيل، بل أكتفي بأن أقص عليها المهم، وهو أنني صحتُ بالإجابة الصحيحة، وأتركها تفهم أنني صاحبها..

 

     وهي في المقابل تروي لي قصصاً كثيرة مسلية عن خروج بني إسرائيل من مصر، وعن سِيَر الأنبياء والقضاة وبطولاتهم.. وهي قصص لا تجد اهتماماً كافياً من الرابيين، وإن قصوها فإنما يفعلون ذلك لغرض إثبات رأي جدلي في معنى شاهد كتابي، ولا يحكونها بالتفاصيل الممتعة التي تتقنها أمي..

 

     وأمي، وأنا أيضاً، أصدقاء للدموع.. نحن فقراء، وأمي أرملة، وأنا اشعر بالخوف كثيراً من المستقبل.. وكثيراً ما أرى أمي تبكي بصمت فأنزوي في ركن وأبكي أنا أيضاً لأنه ليس لي ما أواسيها به إلا قصص انتصاراتي في المدرسة..

 

     وفي يوم استيقظت للذهاب لحيث اتفقت على الفرار يوماً من المدرسة للهو مع أصدقائي فوجدت أمي تئن متألمة.. كانت مريضة جداً.. جداً.. أكثر من المعتاد لها، فهي دائماً مرهقة ومريضة.. وكثيراً ما كانت تئن من الألم.. ولكني لم أسمعها تئن هكذا من قبل.. ولم أدر ماذا أفعل؟ الأمر خطير.. ماذا أفعل؟ الطبيب تكلفته مرتفعة واستدعاؤه خارج التصور.. خطفت بعض الأوراق وأنا أقول: أنا خارج للـمدرسة.. لقد تأخرت.. سأطلب من الراباي أن يصلي لكِ.. باركك الرب.. سأطلب من الراباي أن يصلي لك.. قلت هذا لتكون حجة لي لأهرب.. وانطلقت سريعاً.. نعم هربت.. فماذا أفعل؟ وكيف أحتمل؟

 

     ولكن في الطريق انهمرت في البكاء.. هذه المرة مختلفة.. وأنا دائماً اهرب.. وأعود لأجد أمي تتظاهر بأنها شُفِيَت.. وأنا أتظاهر بتصديقها.. ولكن هذه المرَّة مختلفة.. إلى متى هذا الألم الذي أهرب من أمامه دائماً خائفاً ومقهوراً؟

 

     وفي دموعي صدمني أولاد يفرُّون بسرعة.. هل ينقصني هذا؟ وصوت رجال يدفعونهم بعنف: اذهبوا بعيداً وتعلموا الأدب قبل أن تزحموا الراباي.. تنافر الأولاد أمام الرجال.. ولكن صوتاً لم أسمعه من قبل انتهر الرجال قائلاً:

 

+دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات..

 

     وتحولت غلظة الرجال لرقة وبدا في عيونهم وأصواتهم الخجل للتوبيخ الذي نالوه.. وبدأ بعضهم يجذب الأولاد الذين صدموني متلطفين، والبعض الآخر يفسح لهم الطريق.. وفي هذا الارتباك وجدت نفسي أمام صاحب الصوت.. كنت أقرب الأولاد له.. فإذا بهؤلاء المزعجين يدافعونني لينالوا مكاني الذي لم أطلبه.. وفي ألمي ودموعي شعرت بالظلم مضاعفاً فصرخت:

 

*ابتعدوا عني.. لا تتلفوا أوراقي.. ليس عندي غيرها..

 

     ومرة ثانية انفتح الطريق.. لقد بدأ الرجل الذي يدعونه راباي يزيح الأولاد برقة ولكن بسلطان نافذ حتى صرت أمامه مرَّة ثانية.. وانحنى لأسفل ليصل لي وقال:

 

+أنا أيضاً لم يكن عندي أوراق كثيرة وأنا في مثل عمرك.. هل لا تزال أثمانها ترتفع؟

 

     لم أجب إذ كانت الدموع والإحساس بالظلم يخنقاني.. فبدأ هذا الرجل صاحب الأمر النافذ على الرجال يمسح دموعي واحدة فواحدة.. ثم سألني:

 

+ما اسمك؟

 

*صموئيل..

 

+وأنا اسمي يسوع.. هل ضايقك أحد هؤلاء الرجال الطيبين؟ (وأشار لرفاقه)

 

*لا.. ولكن هؤلاء الأولاد غير الطيبين..

 

+بل هم طيبون.. ولا يقصدون إيذاءك..

 

*أنت لا تعرف الأولاد في هذا العمر.. يتشجعون في كثرتهم أو بإخوتهم الكبار.. وأنا وحدي وهم يعرفون أن ليس لي أخ كبير.. لذلك يهجمون دون اعتبار..

 

+وهل تحتاج لأخ كبير؟

 

*ليس دائماً.. ولكن عندما يتحداني أدهم بأخيه الأكبر.. وغير هذا فأنا سعيد بكوني الابن الوحيد..

 

     فمدّ يده ومسح دموعي وهو يقول:

 

+وهل رجل مثلك يبكي لأن أحداً يدفعه؟ فكيف ستسلك في طريق الحياة أيها الرجل الصغير؟

 

*أنا أبكي من الأول.. أمي..

 

     وأنا لا أعرفه.. وبطبعي فإني خجول.. ولكن رقته فتحت لساني.. وكأنني أشكو له كل الظلم والألم:

 

*أمي مريضة.. أنا متألم لأجلها.. وخائف عليها.. ليس لي غيرها..

 

+وأنت ذاهب بهذه الأوراق إلى المدرسة؟

 

*لا.. لا.. أنا ذاهب لاستدعاء الطبيب..

 

+هل هذا طريق الطبيب؟

 

*لا.. لأنني غيَّرت رأيي.. الطبيب غير كفء للشفاء.. أنا ذاهب لأبحث عن راباي يصلي لأمي..

 

+حسناً قلت أن الصلاة أفضل من الطبيب.. هذا قلت بالصدق.. فلماذا لا تصلي أنت؟

 

*لأنها مريضة جداً.. ولا يكفيها إلا صلاة الراباي..

 

+ليست مريضة..

 

*كانت تصرخ منذ قليل بصوت مرتفع..

 

+كانت تصلي وتسبح يا صغير.. لا تكن مجادلاً معي.. وفِّر هذا لدرس الراباي اليوم..

 

     تذكرت شيئاً سمعته منذ قليل فسألته:

 

*هل أنت نفسك راباي؟

 

+هكذا ينادونني..

 

*هل يمكنك أن تصلي لأمي؟ لقد وعدتها أن أطلب من الراباي الصلاة لأجلها..

 

+ما رأيك أن تصلِّي لها أنت؟

 

*أنا أصلِّي!.. ولكن صلاة الراباي أفضل..

 

+الرب يرسل هذا الضيق الخفيف لأنه يحب صلاتك أنت.. ولكي يظهر لك أنه يستجيب صلاتك لأنه يحبك.. فإذا صليت سيستجيب لك الرب وتُشفَى أمك.. هيا لتلحق بمدرستك..

 

     تحركت خطوتين ثم التفتُ له برجاء:

 

*لقد وَعدتَني أن مرض أمي سيزول..

 

+نعم وَعدتُّك..

 

*كيف عرفت ووثقت بهذا حتى تَعِد؟

 

+لأنني أعرف أن الرب يحبك وسيستجيب لصلاتك.. لهذا وعدتك..

 

*وأنا أعدك أن أصلِّي..

 

+بإيمان..

 

     وكأنَّ طاقة السماء قد انفتحت لتسكب في قلبي الخائف المتألم إيماناً لا يُنطَق به فأومأت برأسي وقلت:

 

*بإيمان يا راباي يسوع..

 

 

     كان يوماً رائعاً.. لقد كنت أكثر من أعطى أجوبةً على سؤال الراباي عن علامات المسيا.. وتلوت من المزامير ومن نبوة إشعياء عدة شواهد متفقة على أن المسيا سيشفي منكسري القلوب.. وأثبتُّ أن هذه الشواهد مسيانية تخص المسيا.. وعدت متهللاً عدواً لأبلغ أمي بانتصاراتي.. وفي لهفتي تذكرت كيف تركتها.. يا رب.. يا رب..

 

     وصلت المنزل لأجد أمي بخير.. فقلت في صوت واحد: لقد تلوت شواهد لا حصر لها عن المسيح.. ولم يجاريني في ذلك حتى الراباي نفسه.. حتى قال لي مبارك أنت من الرب ملك الكون يا صموئيل.. وقد صليتً لك كما قال لي راباي يُقال له يسوع.. لقد طلبت منه أن يصلي لك ولكنه قال لي إن صلاتي هي مثل صلاته وتستطيع شفائك.. إنه يختلف عن الباقين.. وقد شُفيِتِ بفضل صلاتي.. إن الراباي يسوع له نظرة صائبة في الناس وعرف قوة صلاتي..

 

     مفهوم أنه لم يقل لي هذا تماماً.. بل أنا وضعت بعض الكلمات على فمه.. ومنذ ذلك اليوم صار الراباي يسوع صديقي.. مرَّة سألته إن كان يحفظ قدراً من الشواهد عن المسيا مثلي وهو في مثل عمري.. وكان هذا السؤال بداية سمة جديدة لعلاقتي معه.. فكنت كثيراً فيما بعد أسابقه في تلاوتها.. وكان موضوعي المفضل في الحديث معه هو عن طفولته.. وهل كان ماهراً مثلي في حفظ المزامير.. وتفسير الشواهد المسيانية.. وهل كان يغلب الرابيين مثلي؟ وكنت أحب أيضاً ان امتحنه في الأسئلة التي أعرفها من المدرسة.. وكثيراً ما حاولت أن أغلبه بسؤال.. ولكن في كل مرَّة خاب رجائي.. ومن وقت لآخر كنت أطلب منه أن يؤكد لي أن أمي لن تمرض ثانيةً فيعاتبني ويقول لي: ليكن لك إيمان..

 

     وبدأت أخباره تلفت ذهني جداً.. وسمعتُ أن الناس يختلفون حوله.. هل هو المسيح أم لا؟ وأعجبتني فكرة أن يكون هو المسيح.. بهذا سيكون المسيح صديقي.. وكنت أتدخل أحياناً في الجدال فينتهرني الكبار ويأمرونني بألا أنطق باسم المسيح المقدس عبثاً.. فكنت أصر أنني أحفظ شواهد كثيرة وكلها تنطبق على الراباي يسوع.. وكنت أتفاخر بأنه وجهني للصلاة التي قبلها الرب وشفى أمي.. فكان الرجال الغلاظ يسبونني بأمي..

 

     لقد صارت هذه الجدالات كتسلية لي وفرصة لاستعراض مهارتي الكتابية.. بجانب أن نفسي تعلَّقت بالراباي يسوع وكنت أحب الدفاع عنه.. بل وكنت ادافع عنه متمثلاً طريقته في الخطاب محاولاً تقليده وهو يبكم خصومه.. ولكن للحق فإنني لم آخذ الفكرة بجدية.. ولم أتخيل أن يكون المسيح قريباً لهذا الحد..

 

     وعلى كل حال فقد صار الراباي يسوع صديقي.. وقلت له مرَّة أنني عندما اكبر أريد أن أصير مثله راباي وأعلِّم بطريقته.. وكنت أقلده في حضوره وأنا منتفخ من الزهو بنجاحي في تقليد فقرات كاملة فكان يقول لي: لا تفرح بهذا.. ومرَّة أيضاً قلت له أنني كنت أتمنى لو كان لي أخ أكبر مثله، فرد عليَّ بلهجة ذات مغزى لم ألتفت لها وقتها: ولم مثلي؟ فانطلقت في الإجابة: لأنني معجب بك وأريد أن أصير مثلك عندما أكبر وأكون في عمرك، ألم أقل لك؟.. أعاد السؤال: لم مثلي؟ ففكرت أن الإجابة التي قلتها ليست كافية فواصلت: ولأنني أشعر بالأمان معك، ولو كنت أخي الأكبر لعرفت كيف أرد المكيال مكاييل كثيرة لمن يتجرأ علي، هذا إذا تجرأ أحد أصلاً لو كنت أخي.. وقبل أن يسأل مرَّة ثالثة بادرت: ولسبب مهم جداً.. دعك من الآخرين ومني عندما أكبر.. المهم هو أنني الآن لا أحب مغادرتك، ولو كنت أخي الأكبر لقضيتُ معك وقتاً أطول.. كنت ستمكث معنا البيت دائماً، وكنتُ سأجد وقتاً طويلاً في الليل لأسألك وأتبادل معك الحكايات.. وكنت ستأكل معنا على المائدة، ولا تقلق فسيكون الأكل كافياً لنا جميعاًً، ونظرت إليه بابتسامة ذات مغزى.. ولكنه رغم كل إجاباتي أعاد السؤال ثالثةً: لم مثلي؟ وأعاد مع السؤال النظر إليّ بنظرته العذبة، وابتسم سريعاً ثم رفع عينيه للسماء ثم عاد ينظر إليّ.. لم أفهم مغزى سؤاله فنظرتُ إليه متحيراً.. لعلِّي فهمتُ الآن شيئاً..

 

 

 

     ولكن في يوم العيد.. وكنت مع أمي في الطريق، وجدت الراباي يسوع يسير حاملاً صليباً بشعاً ويسوقه الجنود الرومان.. ما هذا؟ صرختُ:

 

*يسوووع.. راباااااااي.. لم اهرب كعادتي.. بل انفلتُّ من يد أمي التي حاولت بكل قواها أن تمنعني، وراوغت الجموع والجنود وزغت بينهم حتى وصلت ليسوع.. وإذ وصلت إليه فكأنما كلمة قد اصطدمت بأذني كحجر رجمتني به امرأة شرسة.. صرخت تقول:

 

#خلَّص آخرين وأما نفسه فما قدر أن يخلِّصها..

 

     من تقصد هذه المرأة؟ يسوع؟ كنت قد وصلت للرب وأمسكت بيده، فالتفتً نحوها بوجهي ويدي ممسكة بيسوع وقلت حانقاً:

 

*أيتها الـ.. ألم يشف قريباً أو قريبة لكِ؟ ألم يستر على خطاياكِ؟ يا قبيحة اللسان والقلب..

 

     فربت الرب على وجهي ربتة بقوة العتاب وقال:

 

+هل أنت هنا وانفلتَّ من يد أمك  وناورت كل هؤلاء الجنود لتمشي معي؟ أم لتشتبك معها؟

 

     نظرت له.. كان يبتسم.. فشعرت بتفاهة هذه التي اشتبكتُ معها.. وحوَّلت عيني خجل.. ولكن صورة ابتسامته في ذاكرة عيني أعادتني نحوهما.. لا يزال يبتسم نظرت وتمليت حتى شعرت بتفاهتي أنا وخجلت من طفولة مشاعري الحادة..

 

     هنا لكزني جندي وقال:

 

#اهدأ أيها الأحمق الصغير وإلا ستتلف حنجرتك..

 

     فصرخت من الغضب ومن عنف اللكزة وقلت:

 

*أيها المتوحش هذا بدلاً من أن تنتهر هؤلاء الجبناء معي؟

 

     فعاد الرب يقول لي:

 

+هل تريدني أن أفنيه لك هذا المتوحش وقال كلمة المتوحش" بطريقتي..

 

     فقلت بحماس:

 

*لا يا رب لا تلطخ يدك به..

 

     ونظرت إلى يده فوجدتها بالفعل ملطخة بل غارقة بالدم الذي اختلط بالطين.. خفت أن أطيل النظر إليه فأرى ما يخيفني.. هربت من منظره.. هربت كعادتي.. ولكنني تشبثت بيده.. ولم أهرب من الموقف.. واستمررت في السير معه.. كنا قد قطعنا مسافة طويلة.. وكنت قد تعودت على هزء الهازئ وحجارة الحانق وشفقة غير الفاهم عندما قطع صمتنا وسألني:

 

+لماذا أنت تسير معي؟

 

     لم أحِر جواباً.. أصر على تكرار السؤال حتى أجبت:

 

*يا رب أنت تعرف كل شئ..

 

     وكانت هذه بداية حوار طويل عجيب رهيب أسجله كما هو.. وأضع قبل كلام الرب علامة صليب.. وقبل كلامي علامة نجمة.. وقبل كلام أي من المتداخلين علامة شبكة.. لترتيب التسجيل وسهولة المتابعة..

 

     وبعد إجابتي الموحية نظرت لعينيه خجِلاً مبتسماً ابتسامة إعجاب وثقة.. فوجدته يبتسم بلمحة خاطفة من عينيه فهمت منها أنه يقرُّني على إعجابي به.. حولت عيني خجلاً فعاد يحاصرني بالسؤال:

 

+لم تجب.. لماذا أنت لازلت تسير معي؟

 

*يا رب أنت تعلم كل شئ.. لأنني أحبك..

 

+أنظر كل هؤلاء النائحين.. أليسوا يحبونني؟

 

*نعم..

 

+فلماذا أنت الذي تسير معي؟

 

     شعرت أنه ليس من اللياقة أن أقول شيئاً أتباهى به دونهم أو كلمة تدينهم أو تقلل من شانهم فبحثت عن إجابة وسيطة وقلت:

 

*هم يسيرون أيضاً يا رب معك ولكن في مكانهم..

 

+كيف؟

 

     قلت وكأنني تحولت لمحامِ عنهم:

 

*ألا ترى هذا وتلك وهذه التي ترتدي الرداء الأسود كانوا هناك منذ البدء.. والآن هم لا يزالون يتابعون المسيرة.. هذا يعني انهم تحركوا معنا ولايزالون.. هذا ما قصدته عندما قلت أنهم يسيرون في مكانهم..

 

+وأنت؟

 

     قلت باعتداد:

 

*وأنا مثلهم في مكاني..

 

     دققت الأرض بقدمي وأنا انظر نحو الجموع:

 

*هنا..

 

+لماذا أنت تسير معي... (ودق الأرض بقدمه مقلداً إياي وأكمل بطريقتي المنفعلة:) هنا؟

 

     ابتسمتُ وصمتُ..

 

+لماذا أنت معي؟

 

*أنا هنا في مكاني يا رب..

 

     قالها بهدوء حنون:

 

+هنا!

 

     فجاوبت بصوت خافت متناغم مع كلمته:

 

*نعم..

 

+مكانك هنا؟.. بجانبي؟

 

*نعم..

 

+لماذا مكانك هنا؟

 

     قلت بخجل وقد زايلني الاعتداد:

 

*أنا في مكاني يا رب.. في المكان الذي أحب أن يكون مكاني..

 

+هل يعني هذا أنني لو تركت الصليب وارتفعت لأعلى ستظل واقفاً هنا؟

 

*لا

 

+لماذا؟ أليس هنا مكانك؟ هل تترك مكانك (مُقَلِّداَ إياي) هنا.. وتتراجع عن كلامك أيها الصغير؟

 

     هززت رأسي بضجر من لا يعرف كيف يشرح أمراً واضحاً لمن لا يفهم:

 

*أنت لا تفهمني يا رب..

 

     فابتسم الرب وقال مستسمحاً:

 

+اصبر عليّ قليلاً واشرح وسأحاول أن أفهم..

 

فغمغمت معتذراً:

 

*لا أقصد.. أقصد أن مكاني بجانبك يا رب.. أينما كان مكانك يكون مكاني..

 

     فأجاب الرب:

 

+الآن فهمت..

 

فأكملت متشجعاً ومواصلاً الشرح:

 

*هو هنا طالما أنت هنا.. إذا صعدت سأرتفع معك..

 

+هل ستعرف؟

 

*نعم..

 

+هل تقدر أن تطير؟

 

*لا..

 

+كيف ستصعد معي إذن؟

 

     ابتسمتَ متظاهراً بالمكر، فقال متظاهراً بالشغف:

 

+كيف ستفعلها يا صغير؟

 

*لي طريقتي..

 

+ما هي؟

 

*سأمسك بقدميك..

 

+عندي طريقة أفضل..

 

*لا لا.. أعرفها.. لقد فعلها إليشع من قبل وفشل..

 

+ماذا فعل؟ وماذا تعرف أنت عن إليشع؟

 

*أعرف كل شئ.. أمي التي رأيتني أنفلت منها كانت تحكي لي كل ليلة قصة.. وكنت أحب تحديداً قصة إليشع..

 

     وأخذت زمام المبادرة في الحديث فانطلقت لأدس بين كلماتي ما يُظهِر مدى سعة معرفتي:

 

*أحبها أكثر من قصة إيليا.. لأن إيليا صعد وفارقنا.. أما إليشع فرغم فشله في الصعود بقي معنا.. أنا لا أحب أن يفارقني أحد أحبه..

 

     قلت هذه الجملة الأخيرة التي أعادتني للمأساة التي أنسانيها الحديث.. ولكنه اعادني لمجرى الحديث وسأل:

 

+وماذا قالت لك أمك التي أنفلت منها؟

 

*قالت لي إن إليشع امسك بهدب ثوب إيليا ولكنه لم يصعد معه.. هذه طريقة فاشلة.. لعلك تريد خداعي وتريدني أن أمسك بهدب ثوبك.. ولكن أنا لا أريد ثوبك.. أريدك أنت.. هل ستفارقنا كما فارقنا إيليا؟ وتخدعني بحيلة الثوب؟

 

+لا أنا لست ماكراً مثلك ولا أفكر هكذا.. وبالمناسبة ربما تحتاج أن تتأكد من تفاصيل القصة مع أمك..

 

*لا أحب هذه القصة أياً كانت تفاصيلها طالما النهاية واحدة وهي الفراق..

 

+ولم تخشى الفراق وأنت لك طريقتك للصعود معي؟ على أي حال فطريقتي غير إيليا..

 

*فما هي الطريقة التي تقترحها أنت يا رب؟

 

+وما حاجتك بها؟ لا داعي لذكرها فأنت لك طريقتك..

 

*أريد أن أعرف طريقتك أنت!

 

+لا لا.. أنت أسأت الظن بي ..

 

*لن أفعلها ثانيةً.. فقط قل لي طريقتك في الصعود..

 

+طريقتك تكفيك..

 

     صمتُّ متضايقاّ.. فصمتَ هو بالمقابل.. ظل الصمتُ قائماً فخلت ساحة أُذنيّ لصياح الناقمين وعويل المشفقين فانزعجت وعدت محاولاً أن أقنعه بمواصلة الحديث:

 

*لعلك لست غاضباً بالحقيقة.. الحق أنني الأحق بالغضب..

 

+هل تظن انك تقدر بهذه الكلمات أن تقنعني بالكلام؟

 

     سكتُّ خجِلاً.. فأعاد السؤال دون ملل كعادته:

 

+هل تظن أنه بكلمات قليلة تقنعني أن انسى سوء ظنك بي وأعتذر أنا.. حسناً.. أنا كنت سأتكلم من تلقاء نفسي ولكن أخاف أن تظن أن طريقتك في استدراجي هي التي أقنعتني..

 

     فقلت مندفعا:

 

*أعدك بألا أظن هذا..

 

     وألححت عليه بيدي فارتج جسده مع هزاتي.. لقد التفت للمرة الأولى منذ أخذني الحديث لضعفه الظاهر عليه.. خجلت وفررت من خجلي سريعاً لمجرى الحديث فقلت:

 

*والآن قل لي ما هي طريقتك التي تقترحها لي للصعود معك؟

 

+ماذا كانت طريقتك أنت؟

 

*قلت لك.. سأمسك بقدميك..

 

+وهل تقدر أن تحمل يداك ثقل وزنك؟

 

*نعم.. أنا ألعب عقلة..

 

+كم من الزمن تستطيع التحمل؟

 

*عشر دقائق..

 

+اسمع.. الرحلة طويلة جداً من الأرض للسماء..

 

*ولكنك ستصعد سريعاً..

 

+السرعة ستصيبك بالدوار..

 

*هذه لم أفكر فيها..

 

+ستسقط يا صغيري..

 

*فما هي طريقتك يا رب؟

 

+أن أحملك على ذراعيَّ.. ما رأيك؟

 

*أوه.. هذا أريح..

 

+فقط؟

 

+وأضمن؟

 

فقط؟

 

     تحيرت.. وسألت:

 

*وماذا أيضاً؟

 

+بالنسبة لك فالراحة والضمان كل شئ ولكن بالنسبة لي هناك شئ..

 

*ماذا؟

 

+وما شأنك به.. إنه لي..

 

*ولكن أريد أن أعرف.. الست سائراً معك في طريق الصليب؟

 

     فقال لي بزجر لطيف:

 

+وهل أجبرتك على هذا؟

 

*لا لا.. لا تغضب منيِّ يا رب.. اقصد أريد أن أعرف.. أحب أن أعرف ما تفكر فيه..

 

+بالنسبة لي فحملك على الذراعين ليس أريح ولا أضمن فقط ولكن..

 

*ولكن ماذا؟

 

+ألذ وأحلى وألطف..

 

*ألطف؟ ولكن هذا سيكلفك عناء وزني رغم انه خفيف..

 

+ولكنك ستكون في مواجهتي وأرى ابتسامتك اللطيفة..

 

*هذا بالنسبة لي أيضاً..

 

     قلتها بطريقتي في المدرسة عندما أخطف كلمات الإجابة من أفواه الآخرين وأكررها بصوتٍ عالٍ مطالباً بالجائزة.. ولكنه قال بهدوء حزين:

 

+أنت قلت أريح وأضمن ولم تقل ألطف إلا بعد أن قلتها أنا..

 

*ولكني قلتها وهذا هو المهم..

 

+أنت متعب

 

*ولكني مسلٍ..

 

+يا فرحتي بتسليتك.. فل لي بالمناسبة ماذا كنت ستفعل لو لم أكن قد فكرت في حملك أثناء الصعود؟

 

*كنت سأفكر فيها أنا..

 

+فماذا لو لم تأتك الفكرة؟

 

*كنت سأطلب منك عدم الصعود قبل أن أصل.. اقصد أن نصل لفكرة..

 

+ولو لم تصل.. أقصد لو لم نصل لفكرة.. ما العمل؟

 

* لن أتركك تصعد دوني.. هذا كل ما في الأمر..    

 

+وترضى لي بمواجهة الصليب؟

 

*وترضى أنت أن تتركني؟

 

+والصليب؟

 

*على الأقل كنا سنمون معاً.. ألا تفكر فيّ؟

 

     أجابني بابتسامة ولمسة فارتعشت حباً.. ولكن فكرة الصعود أشبعتني بالطمانينة.. وبعد برهة طويلة من الصمت تشجعت وسألت:

 

*متى؟

 

+متى ماذا

 

*متى ستصعد يا رب؟

 

+ليس الآن..

 

*ستفاجئهم قبل الصليب مباشرةً.. أليس كذلك؟

 

+ولكن ماذا لو قررت عدم الصعود الآن والاستمرار في الطريق حتى الصليب؟

 

*...

 

+ماذا ستفعل؟

 

     قلت حزيناً:

 

*سأبقى معك.. ولكن لماذا وفكرة الصعود جيدة؟

 

+لأنه عند صعودي لن تقدر أن تدخل معي..

 

*لماذا؟

 

+لأنك لم تفعل شيئاً معي..

 

*لقد سرت في الطريق معك..

 

+ولكنك عندما وجدت طريقة للخلاص حزنت من إصراري على الصليب وبدأت تعيد التفكير..

 

*ولكنك لو لم تكن قلت لي عن الصعود كنت سأكمل معك.. هذه طريقة تفكير طبيعية.. إذا وثجشد طريق للنجاة فلننج.. هذا امر طبيعي.. ما الخطأ؟

 

+لأننا سنصعد لمكان فوق الطبيعة.. لا يدخله الذين لا زالوا مجرد طبيعيين..

 

*لا أفهم..

 

+إذن فانس الصعود الآن واستمر معي..

 

*لماذا والصعود ممكن؟

 

+ممكن لي وليس لك..

 

*لماذا؟

 

+ليس هناك مكان لك بحالتك هذه..

 

*لا تعقِّد الأمور يا رب.. ستقول لهم أنت يا رب أنني أصلح للدخول.. هل يملك أحد هناك معاندتك؟

 

+لا ولكن هل تريدني أكذب؟

 

*وهل تريد أنت أن تتركني في الخارج؟

 

+وهل تريد أن تدخل وأنت غير مؤهل؟ إذا ارتديت جلباباً متسخاً او مُرَقَّعاً هل تتمتع بحضور حفل؟

 

*كل جلابيبي تقريباً مُرَقَّعة.. هناك واحد فقط تحفظه لي أمي للمناسبات..

 

+هل تتمتع بالحفل في الجلابيب الأُخرى؟

 

*أنا أخجل منها ولا أظهر بها إلا عندما تجبرني أمي على ارتدائها للحفاظ على الثوب السليم..

 

+فكيف تتمتع بالبقاء معي هناك وأنت جلبابك ممزق؟

 

*ولكني لا اخجل منك هنا وأتمتع معك..

 

+ولكن هناك الإضاءة قوية وستكتشف بقعاً كثيرة لا تراها هنا..

 

*ماذا يعني هذا؟

 

+يعني انه حتى لو أدخلتك معي قهراً أو كذباً فأنت لن تتمتع بالدخول.. وأنت الذي ستتوارى منِّي.

 

     أطرقتُ بأسى:

 

*إذن فالصعود ليس ممكناً لي..

 

     تمتمت:

 

*ولا حتى أنت يا رب قادر أن تهبني ثوباً أبيض بلا بقع ولا رقع..

 

     رفعت نظري إليه وقلت:

 

*ولكن أنا راضٍ بالبقاء معك هنا.. لا تلزَمني الفراديس والملائكة وأنت بجانبي.. هذا يكفيني..

أليست هناك طريقة للخلاص من هذا الصليب، ونبقى معاً على الأرض هنا؟ في بيت أمي حجرة نظيفة للضيوف.. يمكنك أن تختبئ فيها..

 

     ابتسم:

 

+عندك لا يمكنني الاختباء.. سيعرفون مكاني..

 

*لا.. أنا بعيد عن الشبهات..

 

+بعد أن رآك الجميع معي؟

 

     تحيرت في الإجابة فاستمًرّ:

 

+هل تجبني؟

 

*جداً..

 

+إذن فسيعرفون.. الحب لا يمكن إخفاؤه..

 

     شعرت بالفخر لهذا.. ساكون علامة عليه.. سيعرفون أنه إذا اختبأ فسيكون عندي.. ولكن خاطراً مزعجاً خطر لي فقلت:

 

*لعلك لا تحب الاختباء عندي وتغير الإجابة لأنك لا تريد إحراجي؟

 

+بالعكس.. أنا مختبئ بالفعل عندك..

 

     قالها وقرع برقة على موضع قلبي.. رفعت نظري فوجدت هذه اللمسة كلفته الكثير.. لقد مال بكتفه اليسري ليحمل خشبة الصليب عليها وحدها حتى تكون يده اليمنى حرة الحركة.. يا إلهي.. إنها ليست هذه اللمسة.. إنه يمسكني ويربت عليّ بيمينه منذ البدء.. كيف لم أتنبه لذلك إلا الآن.. إذن فكل لمساته وربتاته وإمساكه بيدي كان له هذه الكلفة العالية.. الغالية.. من البداية.. على طول هذا الطريق.. قهرتني دموع صامتة فاستمر محرراً يده اليمنى ماسحاً بها دموعي وقال:

 

+أنا كنت فقط أشرح لك أن اختبائي لن يخفيني عن الآخرين طالما كان عندك.. أقول لك انه اختباء وليس اختفاء.. أفهمت؟..

 

 

     أعدتُ محرى الحديث لسؤالي المهم:

 

*إذن فليس هناك حل؟

 

+من قال؟ لهذا أنا ذاهب لحمل الصليب.. الحل هناك..

 

*كيف؟

 

+ستفهم فيما بعد..

 

     فعدت لحماستي:

 

*إذن فلنكمل الطريق يا رب..

 

+أتعرف أنك لم تجب السؤال بعد؟

 

*أي سؤال؟

 

+لماذا أنت سائر معي؟

 

*لأنه هكذا ينبغي..

 

+من جعله ينبغي؟

 

*لا أعرف ولكنه هكذا..

 

+ولماذا هو هكذا؟

 

     عاد لنبرته المداعبة فقلت:

 

*هكذا من اجل هكذا..

 

     فقال بصوت خفيض:

 

+هكذا ماذا يا صغير؟

 

     فقلت بخجل البنت الصغيرة في حبها:

 

*من اجل أنني أحبك ولا أستطيع أن أتركك..

 

+هناك صليب يا صغير ولن تستطيع حمله..

 

*ولماذا أحمله؟

 

+ماذا ستفعل إذن؟

 

*سأسير معك..

 

+سيوقفوننا لنحمل الصلبان..

 

*أقف وقتها..

 

+وكيف ستحمل الصليب وهو ثقيل؟

 

*ولماذا أحمله؟

 

+ماذا ستفعل إذن؟ تتركني وتعود؟

 

*لا.. سأبقى معك..

 

+كيف تبقى والشرط عندهم في آخر الطريق هو أن يبقى من يحمل الصليب فقط؟

 

*سأمسك به..

 

+لا يكفي.. ينبغي أن تحمله..

 

*ولماذا أحمله؟

 

     توقف الرب فكأن الكون قد توقف معه، ولم يجسر أحد ممن حولنا أن ينبس بكلمة ليتعجل المسير، بل لقد غاب الجميع عن وعيي إلا الرب، والإجابة التي جهزتها لسؤاله.. استدار الرب في وضع المواجهة معي وقال:

 

+أنت تقصد شيئاً.. ماذا تقصد؟

 

*أقصد أنني لن احتاج لحمل الصليب ولا أحتاج أن أتركك.. ولن يحتاج الحراس لإجباري على شئ..

 

+كيف؟

 

*ألست ستحملني أنت وقتها وأنا ممسكاً بالصليب؟

 

     ضحك من قلبه وعاد للسير وقد امسك بذراعي يدعوني للسير معه.. سرني فرحه بذكائي فأكملت:

 

*سيبدو وقتها أنني أنا أحمله.. تماماً مثلما سأصعد معك دون مجهود من جانبي عندما تحملني ونصعد معاً..

 

     تقدمنا أكثر في الطريق.. ويبدو أننا اقتربنا جداً من الصليب لأن تدافع الجمهور قد زاد وزاد معهم عدد الحراس الجائلين بينهم يصرخون ويقرعون السياط في الهواء أو حتى في بعض الأجساد.. كان المشهد مرعباً حزناً ومرعباً خوفاً ومرعبا فحسب.. ولكن الرعب زادني عنداً في حبي وتمسكي بالرب يسوع فأمسكت بيديه بكل قوتي التي كانت قد اقتربت من التلاشي.. وتحت فكرة تلاشي قوتي وسقوطي ميتاً وأنا ممسك بيده امتلكني هدوء وسلام نفس لا يوصف فأغمضت عيني وقلت بصوت مرتعش من الانبهار بكل ما مرَّ بنا:

 

*لا تنس يا رب أن توصيهم بدفني معك.. أرجوك.. لا تحتقر طلبتي المتواضعة..

 

     هنا قرقع صوت سوط في الهواء وصاح جندي من الخلف:

 

#سِر وأنت صامت.. هيا أسرع وإلا..

 

     فزعت وصرخت:

 

*لنصعد الآن يا رب بعيداً عن هؤلاء الأشرار.. دعك من الصليب أرجوك.. ولتتصرف أنت بعد صعودنا فيما يخص تأهيلي للبقاء معك في السماء..

 

     رفعت عيني للسماء على ذكرها فصدمتني من قريب قمة هضبة الجمجمة.. شكلها يشبه الجمجمة.. واسماها بالعبرانية والآرامية يعنيان الجمجمة.. والقصة المتوارثة تروي أن جمجمة آدم مدفونة بها.. كنا قد اقتربنا جداً من موضع الصلب وقد أخذني الحديث فلم أدر.. وشاهدت منظر خشبة قائمة الصليب تُعَد.. ستوضع الخشبة التي يحملها الرب عليها.. فكرة مرعبة.. ومع هذا الخاطر المرعب لمعت المسامير في ضوء الشمس.. ونظرت للرب فلمحت في عينيه نظرة إلى الآن لا أفهم أبعادها.. ولكني اتعرف عليها وسط ربوة من النظرات.. نظرة فريدة.. عدت مع نظراته فوجدت المسامير تلمع في ضوء الشمس.. كأنها تلمع في نور نظرته القوية المُثَبَّتة نحوها.. ماذا سيحدث؟ وصلنا لحيث الخشبة الأخرى والمسامير.. وتقدم أربعة جنود.. هل هم من كانوا يسيرون وراءنا؟ أم غيرهم؟ لا أدري.. أحاطوا بالرب وهو مستسلم وصامت.. لااااا.. صرحت بكل فزع الطفولة:

 

*اصعد يا رب.. أصعد أنت وحدك ودعك منِّي.. صدقني ساكون سعيداً طالما أنت بخير.. اصعد أرجوك ودعك منِّي..

 

     وكأنه أوقف الجميع وأوقف الزمن وأخلى المكان ليكلمني بدون عجلة:

 

+لا أستطيع أن أصعد للسماء..

 

     وقبل أن أصرخ وضع يده على فمي واستمر:

 

+أنت لا تستطيع بسبب ضعفك وعدم تأهلك..

 

     أومأت إليه مستفهماً ولم لا تقدر أنت فأكمل:

 

+وأنا لا أستطيع بسبب محبتي لك..

 

     دمعت عيناي كأنهما لم تكونا مليئتين بالدموع.. بينما الرب يستمر بهدوء:

 

+ولكني أستطيع أن أصعد لمكان آخر..

 

     قلت بهدوء أتاني من لهجته:

 

*إذن أسرع واصعد يا رب..

 

     فرفع رأسه وأومأ بها نحو الخشبة الأخرى القائمة.. فهززت رأسي حاثاً إياه دون فهم لمغزى إشارته:

 

*نعم أسرع واصعد يا رب..

 

+هذا ما أعتزم عمله يا صغيري.. لا تتعجل.. وقتي لم يحن بعد.. ليس قبل أن أستودعك ما أريد..

 

*أرى أن تصعد وتنجو من بشاعة هذا الشئ الذي تحمل جزءً منه على كتفك ويعدون لك بقيته..

 

+أنت تفزع من الخشب والمسامير.. يكفيك هذا الآن.. فيما بعد ستفهم ما هو اكثر إثارة للفزع في هذا الصليب..

 

*ماذا؟

 

+لن تحتمل فهم بشاعة الصليب قبل أن تفهم مقابله قوة الحب المخبوء في المصلوب.. لذلك سأؤجل الشرح الآن..

 

*إذن فما هو الذي تريد قوله لي قبل أن تتركني وتصعد بعيداً عن هذا الصليب؟

 

+لن أتركك..

 

     فأومأت للصليب سائلاً:

 

*وهذا يا رب؟

 

     فأجاب:

 

+بهذا أنا لن أتركك.. بهذا أنا أصنع لك ثوباً جديداً يؤهلك  للحياة الأبدية معي.. في السماء.. لهذا أنا الآن أصعد.. وفيما بعد ستفهم..

 

*وماذا عن الآن يا رب ولحين أن أفهم؟

 

+لن أتركك.. ألا يكفيك هذا؟

 

*ماذا تريد يا ربُ أن أفعل؟

 

+عد لأمك.. وارض بثيابك المرقعة.. ولا تحقد على من له ثوب جديد.. لأنني سأصنع لك ثوباً أعظم.. ادرس دراستك واعمل عملك بهدوء وثقة.. وبعد هذا المشهد المخيف لن تخاف إلى الأبد..

 

*ولن أبكي؟

 

     قلتها بصوت مختنق؟ وبكيت وأنا لم أفرغ منها بعد..

 

+هذه لن أعِدَك بها.. ستبكي بدموع كثيرة..

 

     بكيت اكثر فأكمل:

 

+دموع الفرح يا حبيبي.. ولن ينزع أحد فرحك منك.. ثم هو ذا سر أقوله لك..

 

     هززت رأسي مستفهماً فقال:

 

+أقول لك سر وأنت تطلب أن أذيع!.. قرِّب أذنك من فمي يا صغير..

 

     شببت على قدميَّ بأعلى ما أستطيع فلم أصل فاحتضنني ورفعني وبدأ يمسح دموعي.. فقلت متعجلاً له قبل أن يفيق الحراس:

 

*ما هو السر يا رب؟

 

+هذا..

 

*ما هو؟

 

+ألم تلحظ؟

 

*ماذا؟

 

     فرفع صوته فجأة وقال:

 

+مسحتُ دموعك.. واحدة واحدة.. وهذا هو السر.. سأمسح كل دمعة من عينيك.. كل دمعة على حدة.. كل قطرة من دموعك تأخذ نصيبها من العناية.. كل دمعة بلمسة.. هذا هو السر..

 

*اخفض صوتك يا رب.. إنه سر..

 

+هل يبدو على أحد أنه فهم شيئاً؟

 

     نظرت حولي فوجدت وجوهاً قاسية وغبية واختلط غباؤها بقسوتها فصارت قاسية الغباء وغبية القسوة.. لأول مرَّة أرى في هذه الوجوه ما يدعو للضحك.. فقلت ضاحكاً بصوت مرتفع:

 

*لا يبدو ذلك أبداً..

 

     فأجاب:

 

+إذن فهو لا يزال سرّاً.. والآن هل تريد دموعاً كثيرة أم قليلة؟ أم أعدك بألا تبكي ثانيةً كما طلبت؟

 

*لا لا.. غيرَّت رأيي.. اعطني يا رب ينابيع دموع كثيرة..

 

+لقد أصبحت شاعراً..

 

     وأعادني للأرض وهو يقول:

 

+فاملأ الأرض شعراً ودموعاً وفرحاً.. ولا يهمك شيئاً.. والآن لديّ عمل لأتمَّه.. اذهب يا صغير لأمك ولن أتركك يتيماً.. ستجد من تناقشه وتسأله..

 

*سأسأل عن كل شئ

 

+يا ليتك..

 

*ولن يخدعني أي من ترسله بإجابات فض مجالس..

 

+يحق لك..

 

*وسأفهم؟

 

+أنت ومهارتك..

 

     لا أدري لماذا قلت له:

 

*لقد مات أبي.. وكان قد صنع لي حصالة كلما صنعت شيئاً أعجبه وضع لي فيها مكافأة..

 

+أبوك حيّ لا يموت.. قلت ماذا صنع والدك لك؟

 

*حصَّالة

 

+باقية إلى الآن؟

 

*نعم ولكنها فارغة.. لقد احتجنا للمال فأفرغناها ولم يعد هناك من يملأها..

 

+سأملاها لك بكل فكرة تفكرها وكل كلمة تقولها.. فاحرص من الآن لحين عودتي على أن تكون أفكارك وكلماتك مما ينفع وقت اللزوم..

 

+حتماً.. إن لديّ خطة..

 

*ما هي؟ أسرع..

 

*سأفكر فيك وأتكلم عنك.. وبهذا سأقبض مكافأتي في ذات الوقت بينما أدخرها بالمرَّة لحين أن تُفتًح الحصالة..

 

+أنت شاعر ولاهوتي أيضاً..

 

*ما هو اللاهوتي؟

 

+هو من سيعود الآن ليتمم ما أعلمته به.. هيا..

 

*والصليب؟ سأتركك للصليب؟

 

+سأرسله لك إلى حتى حيث أنت سيكون معك الصليب..

 

*وماذا أعمل به بدونك؟

 

+سأرسل لك صليبي أنا.. وأنا معه.. ألا تحب الصليب الذي سيحملني ويحملك معاً؟

 

     بكيت فقال:

 

+لماذا تبكي بعد الآن؟

 

     فابتسمت بين دموعي وقلت:

 

*دموع الفرح..

 

     فابتسم.. ودمعت عيناه.. فاتسعت ابتسامتي وابتسامته وكأننا تفاهمنا معاً على سؤال مني وجواب منه بأن دموعه هي بالمثل دموع الفرح.. وصرفتني هذه الإجابة.. وعدت سعيداً.. لقد غلبت الرب بإجابتي.. لقد كان يغلبني دائماً من أول الطريق.. بل من بدء معرفتي به.. ولكني انتصرت في النهاية.. لقد تحققت اليوم كل أمنياتي معاً.. غلبت الرب.. وأخذت منه وعداً بالبقاء معي.. وبأنني لن أحزن بعد حتى ولو بكيت.. وبأنني سأسأل وأفهم في حينه.. كل شئ..  وعدت مسرعاً ضاحكاً طول الطريق لأمي لأحكي لها كيف أنني غلبت الرب.. وعندما عدت وجدت أمي حزينة وهي تعد مائدة الفصح.. ولكنني قلت لها كعادتي في قولٍٍ واحد:

 

*أمي أخبار سارة.. لقد صُلِبَ يسوع.. لقد كنت هناك.. وأشياء أُخرى.. لا تحزني سأحكي لك كل شئِ.. دعكِ من لحم هذا الخروف، فلا لزوم له الآن، وتنبهي لي.. عندي ما هو أهم وأروع..

 

 




Site Gate    Reopening Front Page    Table of Contents    Interview with Jesus    Teen Stuff    Sign Guest Book