جريدة الأخبار

في وسط أسفل الصفحة مع صورة[1]

16 مارس 1999

بقلم مهندس/ باسل لمعي

صورة ضوئية للمقال

 

 

الضوء الشارد[2]

 

   لأنني محروم من الذهاب للسينما لأسباب أخلاقية و من الذهاب للمسرح لأسباب اقتصادية علاوة على الأسباب الأخلاقية فإن أملي الوحيد في التمتع بالدراما كان في متابعة الدراما التليفزيونية.. و لخيبة أملى فإنني توقفت عن المتابعة.. لأسباب فنية هذه المرة.

     الأعمال المتاحة إما مملة أو سطحية أو مكررة أو جميع هذه.. حتى الأعمال التاريخية بها مغالطات و فتاوى[3] تجعل من يتصدى لنقدها بأمانة غير قادر على الإفلات من تهمتى السب و القذف.

     و لكن لفت أذني في الشهر الماضي لهجة صعيدية متقنة في مسلسل "الضوء الشارد" جعلتني أحرص على متابعة هذا العمل.. فأنا ضعيف أمام لهجة موطني الأصلي.. ثم من منا لا يشد انتباهه أجنبي يتحدث بلغته الأم بطلاقة؟ و قد عودنا عباقرة التمثيل لدينا – عندما يتصدون لأدوار صعيدية – على لهجة مضحكة هى خليط من اللهجات البدوية و البحيرية و الساحلية و أحيانا تشوبها لكنة خواجاتي من ممثلاتنا الشابات.

     و يتصورون أن إفراطهم في تحويل كل الحروف إلى جيم معطشة كاف للإيحاء بأنهم صعايدة جوي يا بوى.. مسلسل الشهر الماضي لم يكن هكذا.. كانت اللهجة متقنة فيه للدرجة التي أقنعتني بمتابعته.. و وجدت فيه عملا دراميا متقنا ليس في اللهجة فقط بل في أغلب جوانبه.. و العمل المتقن يستحق الإشادة و يستحق ما هو أفضل من الإشادة.. يستحق النقد الموضوعي.

***

   بداية فقد نجح المؤلف "بخبث" في أن يقلب أو بالأحرى أن يعدل صورة الصعايدة في أذهان الناس.. فتحت ستار عمل درامي يدور في الصعيد و تحت ستار شخصيات صعيدية تقليدية دس لنا المؤلف شخصيات صعيدية ذكية جدا و شخصيات ذات حسب و نسب وأصل عريق و شخصيات عاطفية.. و نجح في أن يجعل المتفرج يدور في فلك الصعايدة فيحترم هذه الشخصية و يتعاطف مع تلك و يحب شخصية و يكره أخرى.. فقدم في الشخصية الصعيدية "ذاتا" فاعلة في وجدان المشاهد لا "موضوعا" لإضحاكه أو إثارة رعبه.. و خطا بذلك خطوة هامة في معالجة الصورة الشائعة لشخصية الصعيدي الذي هو في العرف العام إما شخصية مثيرة للسخرية أو مثيرة للرعب.

   إذن فقد أقنعنا المؤلف دون إلحاح أو مباشرة أن الصعيدي ليس هو الذي اشترى الترماى و لا هو عتريس أيضا.

   بجانب هذا فإن الحوار كان عبقريا في صعيديته إذ رسم الشخصيات و كأنها أهل بلدي تفكيرا و طباعا و كلاما.

   و أمام الرسم العبقري للشخصيات على الورق فإن فريق التمثيل كان على نفس المستوى.. يوسف شعبان هو الصعيدي الباحث عن الثأر بعنجهيته و إحساسه بدونيته السابقة.

   سميحة أيوب هى الأم الصعيدية بنت الأصول باستثناء خطأ صغير و هو أن الأم الصعيدية لا تضحك أبدا بعد موت ولدها لاسيما الكبير.. و لا تبتسم إلا مجاملة.

   رشوان توفيق و د.سيد عبد الكريم و محمد ناجي و حنان سليمان رغم ثانوية أدوارهم فقد كانوا تقريبا هم فقط الذين لم يخطئوا في اللهجة و تمتعت منهم بلهجة صعيدية نقية و سلسة.

   هادي الجيار له أداء جذاب في شخصية الصعيدي الذي ليس له صفة في الحياة إلا الانتماء لعائلة كبيرة..

   محمد رياض كان جذابا أيضا في دور الصعيدي القاهري الذي تعود لهجته لأصلها عند عودته لبلده.

   رانيا فريد شوقي تستطيع التخفف الآن من اسمها الثلاثي فهى ممثلة من أولها لآخرها، و لا تحتاج لوضع تيكيت فريد شوقي على اسمها.

   حنان سليمان خسارة في دورها الصغير و تستحق التفاتا أكبر.

   منى زكي لا دخل لنا بها فهى من بنات بحري و الكلام هنا عن الصعايدية فقط.

   اختيار الكادرات و حركة الكاميرا كانت مريحة جدا للعين و موفقة لحد بعيد و أعطت انطباعا بأن العرض يدور على خشبة المسرح.

***

   نأتي للجانب اللي يزعل الناس من بعض.. أقصد النقد "البناء".. السيناريو كان أطول من اللازم و يمكن ضغطه للنصف بسهولة و العمل الكبير كما اتفقنا يكون كبيرا بإتقانه و ليس بحجمه.. أتمنى ألا يكون المتحكم في مدة العمل الدرامي عاملا اقتصاديا فآفة الإبداع هو تدخل الاقتصاد.

   اختيار الممثلين كان موفقا.. فقط ممدوح عبد العليم واجه مشاكل إذ كان عليه أن يحارب شكله و نغمة صوته الطبيعية حتى يقنعنا بأنه ليس فقط الصعيدي بل كبير العائلة الكبيرة أيضا.. و كممثل كان جيدا و المشكلة في اختياره للدور أساسا.. و رأيى أن نبيل الحلفاوي كان سيمتعنا كثيرا في هذا الدور.

   سميحة أيوب و يوسف شعبان فاتهما مرات كثيرة من اللهجة الصعيدية أن الصعايدة يتشددون في نطق المقاطع الساكنة في الكلمات و ليس المتحركة مثل أهل القاهرة.. يعني مثلا كلمة "حضرتك": في بحري يضعون ثقل الكلمة في حرف الراء بينما الصعايدة يضعون ثقل الكلمة في المقطع الساكن الأول و يخطفون الراء التالية.. كما أنهم دائما يفتحون الحرف الأول من الكلمات الموزونة على فعيل أو فعيلة و لا ينطقونه ساكنا.

   الموسيقى التصويرية كانت مفزعة و مُقبِضة.. و لا ينبغي الاحتجاج بأن الموسيقى موحية بالبيئة أو بالأحداث.. إذ يجب أن تكون مقبولة للأذن ايضا.. و بمناسبة الموسيقى فقد كان ينقص المقدمة و النهاية أغنية مناسبة..

   لن أتناول القصة ذاتها و لا النهاية فالمسلسل جو درامي أكثر منه رواية ذات أحداث و نهاية..

   يبقى استنتاج لي عن شخصية المؤلف: أراهن أنه صعيدي و من عائلة كبيرة في الصعيد.. صح؟

القصة و الحوار ينطقان بهذا.. حتى المشاهد الوحيدة التي وقعت منه هي مشاهد جماعة المتطرفين فالحوار الداخلي بينهم كان ركيكا و هو ما يعني أنه على الأقل لم يكن إرهابيا ذات يوم..

   و يبقى أيضا اعتذار للأخوة نقاد الدراما فأنا لا أقصد "التقطيع" عليهم و لكنها مرة من نفسي للإشادة بعمل يخص بلدياتي و هي مرة لن تتكرر كثيرا، فالأعمال التي تستحق الإشادة نادرة..

   انتهى كلامي عن المسلسل و الكلام الآتي لجهاز التليفزيون: ما الذي يبرر بتر مقدمة العمل الفني؟ التتر جزء من العمل نفسه بالإضافة إلى أنه من حق كل من ساهم في العمل أن يظهر اسمه في مقدمة العرض.. أعرف أنه لا صوت يعلو على صوت الإعلانات و لكن الإعلانات لا تأتي للتليفزيون إلا على حس الأعمال الفنية التي تجمع الناس أمام شاشته، لذلك فمن المجحف أن تجور هذه الإعلانات على الحقوق الأدبية للفنانين.

   عموما مبروك للصعايدة عمل راق يحترمهم و يحترم لهجتهم.. ومبروك للتليفزيون عمل متقن يستحق الكتابة عنه.

 



[1]  كنت أعلم أن طبيعة الموضوع الفنيّة الخفيفة، في هذه المرة الاستثنائية، ستحرم المقال بحسب العرف من الموضِع الأبرز في الصفحة (أعلى منفرداً أو أعلى يمين)، وهو الموضع الذي اعتادت مقالاتي الظهور فيه.. ولكن كانت التضحية محسوبة وذات رؤية.. وشرح ذلك في موضعه في الهامش التالي..

 

[2]  بحسب الظاهر فهذا مقال خارج الخط السياسي-اجتماعي الحاكم لمجموعة مقالاتي وقتها.. والواقع أنني كنت أرقُب خطاً زاحفاً ببطء في الأعمال التمثيلية في التليفزيون المصري بتخطيط القواد صفوت غير الشريف وأذياله.. وعندما كان أولئك يدافعون عن أي عمل "فني" مما يرتكبونه كانوا يكررون تكراراً متنطّعاً أن المعترضين لا يفهمون دراما.. فبحدس تلقائي وددت إثبات سابق أهليتي للنقد الدرامي، وتحيَّنْتُ فرصة هذا العمل النظيف وكتبت هذا المقال الفنيّ النقديّ ليحظى بجواز مرور من كبار المتخصصين في المهنة، بجانب بروز أسماء موضوع النقد فيه.. وقد حدث التطور المعروف بحسب ما توقعت بعدها بقليل على يد "المخرئ سمير سيف الإسلام" و"الزنارست وحيد حامد"..

 

 [3] مررّت هذه الملاحظة من ثقب إبرة! فكما هو معروف لكن من يتذكر هذه الحقبة، فإن الأعمال "التاريخية" لم تكن في أكثريتها إلا مجرد أعمال دعائية للدين الإسلامي تمتلئ بالسخافة والفجاجة وتتعدى مجرد الانتقائية ونزع الأحداث من السياق إلى الافتكاس الوقح، بل ولتصل لأعماق اللامعقول لا أقول لحدوده.. خذ عندك أسلمة الفراعنة مثلاً في عمل استمر عرضه ست سنين فيما أتذكر وكل سنة بكام فرعون.. وعندك كمان في رمضان السابق على هذا العمل عرض التليفزيون مسلسل عن الحملة الفرنسية كان ينقص كاتبه أن يقفز من الورق ليظهر مع الممثلين ويقول: "أنا متعصب وموتور وأقرأ التاريخ بعين واحدة وليست هي التي في وجهي بالمناسبة".. فكان لا أقل من انتهاز الفرصة وتسجيل موقفي أنني لم أتوان عن النقد بقدر المتاح، ولذلك حرصت على إثبات كلمة "فتاوى" للتلميح القوي بأن الأعمال التاريخية هي ذاتها تلك الدينية الدعائية.. وحرصت بعدها على إثبات أشد عبارة نقد ساخرة ممكنة لتعويض القصور عن التصريح، والتوقف عند حد التلميح غير المتاح لي أكثر منه.. هذا أقصى ما كان يمكن نشره، بل وحتى هذا احتاج لما لا يخفى عن الأريب في النص من الإجهاد الفائق في تصنيع العبارة لتمريرها من ثقب الإبرة هذا لتمر حاملةً ما يجعل الفاهم يفهمها، والرقيب يغفل عنها، والمتربص لا يملك المحاسبة عليها، والطيب يتسلى بها وهو لا يدري شيئاً، فتصيب كل أهدافها رغم كل شئ، وكله مكسب وعلى حساب ذهن صاحب المحل.. كانت أيام أكرمني فيها الرب بنجاح الكلمة المكتوبة J