ميامر القديس الأسقف

يعقوب السروجي

 

 

 

    كلمة تقديم (للمُعِدّ)

 

     تأملات بسيطة نافذة.. تلمس وتحفُر.. فتؤسس صداقة معزية وراسخة، مع الكتاب المقدس ومع كاتبها.. كأنّما الرب الذي أعطى كُتَّاب الأسفار المقدسة كلماتها أعطى كاتب هذه الميامر أسرار هذه الكلمات.. هذا مُلَخَّص شهادتي عن هذه الميامر.. وما زاد على ذلك فهو من تداعي الحديث المُحَبَّب لقائله، الذي يرغب أن يكون كذلك لسامعيه..

 

     حظيت بنسخة إلكترونية من هذه الميامر كهدية ثمينة.. لقد عاد بهذه الهديّة اسم الكاتب الكتابيّ القديم في ظهور جديد أمامي.. وبغير أن يقنعني الكاتب أو المتكلم بصداقته، على أي نوع كانت، فإن مطالعته تكون واجباً مدرسياً ثقيلاً إن لزمت.. ولم يكن الكاتب المتعلِّم المُعلِّم الأسقف يعقوب السَروجيّ واجباً ثقيلاً قطّ.. هل معنى هذا أنه أقنعني بصداقته؟ بل ألزمني بالتصاغر أمامه! لم تكن قراءته ثقيلة بل مخيفة!

 

     لقد بدأت صداقتي معه يتجربة شعوريّة غير مألوفة.. ذلك عندما كنت أثابر في التأمل في الفصول الأولى من التكوين، وعَرَضَ لي أن قرأت عدة تأملات منسوبة لاسمه في ذات الموضوع، وبعد عدة سطور صُدِمت.. إنني أقرأ لجبّار في الكتاب المقدس.. غوّاص يقيم دوماً في قلبه، ويخرج فجأةً ليقدِّم لآلئ وكنوز وفاكهة بحر، قبل أن يغيب فيه سريعاً ثانيةً!

     أدركت أن هذا الموضوع الذي ظننته من خصوصياتي (التأمّل في سفر التكوين) له صاحب من قبْلي لا قِبَل لي به.. عندها خفت أن أستكمل القراءة وأمرت نفسي بالتوقف فوراً لئلا يصادر هذا المتأمل على ذهني..

     ما معنى أن يصادِر مفكِّر على ذهن غيره؟ إن من يشرع في التفكير في موضوع يطمح ليفك غوامضه ويفهم علاقاته البينيّة حتى يصل إلى مقاصده البعيدة، ولا يكتمل عمله قبل البحث في أتقن طريقة وألطف أسلوب وأدلّ منطق يقدِّم به التفسير لمن سيسمعه جديداً غير مألوف لديه.. هذا العمل التفسيريّ بدون توفّر هذا الطموح لبلوغ كل هذا يكون عملاً غبيّاً، وفي أفضل الأحوال مُمِّلَّاً.. وأما عندما يتوفَّر أمام المفسِّر من يقدِّم العمل كله بأقصر طريق وأبدع أسلوب، بما يجعل أي محاولة تفسير تابعة لقرائته غير ذات جدوى، فإن هكذا تفسير وتأمّل ينقل أي مفسِّر آخر من مقعد المفسِّر لموضع المستمع..

     ومن وقت لآخر كنت أغافل نفسي وأعاود اختلاس سطر أو سطرين من كتاب صغير يحمل بعض تأملاته، وأُكمِل ميمر فلا أخاطر بقراءة غيره..

 

     وعندما أخاف هذا الخوف من كاتب، فهذا يعني أنني قد وجدت صديقاً..

     إن طاقـَتَي عمل في الإنسان لا تهدآن: طاقة ذهنه وطاقة مشاعره.. وأشهد أنه قلَّما وجدت من يقنع هاتين الطاقتين الإنسانيتين الثائرتين فيّ بالهدوء والارتكان لصداقة مريحة إلا سيرة وكلمات هذا الأسقف الكاتب الكتابيّ.. ولماذا كان ذلك؟ إن مُشتهَى كل كاتب حقيقيّ هو التوفيق بين أمرين: جمع كل الفكرة في ابسط كلمات ممكنة.. ولا يزال الصراع والمساومة بغير حلّ بين ثِقَل وزن الفكرة ومحاولة تبسيط العرض، فإما ينحاز الكاتب لسلاسة الأسلوب فيتنازل عن جزء من الفكرة، أو يخلّ بعرض معنى فيها، وإما أن ينحاز لتمام المعنى فيخرج في أسلوب ينفِّر أكثر القرَّاء، ولا حلّ عند أكثر الكُتَّاب.. أدرك هذه المشكلة ولذلك أُدرك تماماً عندما أجدها محلولة، وهكذا وجدتها عند هذا الكاتب، ولذلك فهو من أقنعني كما لم يُقنعني غيره، بالمتابعة الناعمة المتنعّمة دون أن تجري أشواك النقد الجارحة كعادتها المؤلمة، لا يردّني عن هذه المتابعة إلا بدء قلقي بأن ما سأقرؤه سيمنعني من العمل في النصّ الكتابيّ بعده..

 

 

      وإن كان هذا الكاتب عجيباً فائقاً في كتابته: معانيه وأسلوبه، فإنه عجيب في شخصيّته.. لم يُخرِج كل ما أخرج من كنزه الصالح جدداً وعُتَقاء في وقت مناسب وحقل لطيف، بل كان في زمن انقسام مُرّ، وكل انقسام في الكنيسة هو مُرّ، فكان هو معرضاً عن تماحيك الألفاظ وكثرة الكلام التي امتلأت معصية، وحدة الحنق الطائفي الذي امتلأ وملأ مرارةً وورَّث خصومات بلا داعٍ ولا طائل..

 

     ولعلّ هذا الأسقف العجيب هو صاحب الاسم الوحيد، فيما أعلم، الذي عاش في زمن الانقسام وبعده، ولم يُصَنَّف إلى مع أو ضد.. فهو في قائمة كل فريق حُسِبَ مع.. ومع مثل هذا الأسقف، وعلى مثل كلماته، وبرائحة مثل سيرته، يكون التلاقي والاجتماع لكل المحبين للمسيح..

     كان مثالاً نادراً لأسقف ومفسِّر نجا من كل نتائج التحزّب في ذلك الزمان، فلا هو تجزَّب، ولا المتحزِّبون رذلوه لعدم تجزِّبه معهم!!!

     وليست مصادفة أنه وُلِد في سنة انعقاد مجمع الانقسام الكئيب، مجمع خلكيدونيا سنة 451.. كأنما هو رسالة الرب الآتية في وقتها القائلة: بهذا تتّحِد، وبهذا يُشفَى الانقسام.. أي بالمعرفة الكتابيّة العميقة وبالمنطق الحيّ بالروح لا القتيل بسكاكين حروف غريبة عن الكتاب وعن الروح وعن المنطق جميعاً..

 

     وهو لذلك صاحب لاهوت نقيّ.. بكل معاني النقاء، نقيّ موضوعيّاً من الانحياز المُسبَق لصياغات جامدة محلّ صراع وخصومة، ونقيّ ضميريّاً من أغراض المحاباة أو حتى التملَّق، إذ كانت مواضيعه ولغته بعيدة عن كل ما يدعو لذلك.. وحتى وإن دخل بحقّ التأمّل في بعض الأسئلة التي تبدو مثيرة للاختلاف، مثل الميمر السابع الذي يناقش فيه إن كان آدم خُلِقَ مائتاً أم لا، إلا أنه تناولها بهدوء غير تارك فرصة للدخلاء أن يصطادوه بكلمة..

 

     والعجيب أنه بما له من ثيولوجي تأمليّ نقيّ سبق زمانه وتحدث عن قضايا تكرَّرَت في تاريخ الكنيسة، ولا تزال تزور كنيسة هنا وهناك من وقت لآخر.. ومع هذا فاسمه لا يزال غائباً عن ملفات هذه المعارك رغم أنه بكل المقاييس المُرَشَّح الأول للدخول في معامع الاقتباس في هذه القضايا بحكم زمنه ومنهجه والمواضيع التي بسطها للتأمل.. فكأنّ موهبته التي وسمه الرب بها ببقائه في السلام طيلة حياته على الأرض قد وسمت اسمه بسمة خالدة فبقي في الكتب وعلى الألسنة مثلما كان صاحبه في الجسد: اسم سلام لا يُذكَر إلا في محافل ذوي الولع بالتأملات النقية.. فإذا كان هذا هو تكريم الرب له فليس لي أن أفسد هذا بالتورط أبعد من هذا في بحث نظري، إذن فلأتوقف الآن..

 

 

     لكلّ ذلك حسبتُ كم هي ثمينة هذه الهدية التي تحمل لي عشرات المقالات المعروفة باسم ميامر، والتي أحب ترجمتها بكلمة "كلمات" مسترجعاً أصلها السرياني "ميمرا": النطق الرهيب الذي كان يستخدمه اليهود قبل المسيح للتعبير عن "كلمة" الرب.. كثير من الخَرَف يملأ مخازن الكنيسة ويُسمَّى ميامر، ولكن ميمرا بحق لفظها تتطلّب متكلِّماً بالرب يقول كلمة "ميمرا" تحمل الكلمة – اللوجوس نفسه.. وليس كل من كتب ميمرا فهو يعقوب السروجيّ..

 

 

     ولأن تقديماً لهذه المذكرات ليس موضعاً لاستطراد بالجملة، فإنني أعجِّل بالقول أن النسخة المهداة لي جاءت في صورة ثمانية ملفَّات Word Documemts    يحمل كل منها عشرات الصور لصفحات نسخة عربية قديمة من الميامر.. كان واضحاً فيها أن واحداً يُقدِّر قيمتها بادر بتصويرها وتحويلها لنسخة إلكترونية لحفظها.. فالتقط مركز الغيرة في الحسنى عندي الشرارة، ورأيت بِدَوْري أن أُحوِّل هذه الملفات إلى نسخة أسرع في التحميل، وأسهل في التصفّح، ولم أعهد في كسلي عملاً أسرع استجابة من هذا: قمت بكلّ العمل الفنيّ المطلوب فور أن خطَرَت الفكرة..

     وأشهد الآن بعد تمام صلب العمل أنه رافقتني نعمة لا يُنطَق بها..

 

     ثم أقل القليل أن يقول الواحد شكراً لمن يقدم له هدية ثمينة.. فأرجو أن يرقى هذا العمل المتواضع في عيني صاحب الهدية لمستوى كلمة الشكر،،،،،

 

بدأ إعداده

في منتصف الساعة الثانية من صباح الجمعة 22 ديسمبر 2006

 

وتم بنعمة الرب

قبل تمام الساعة السادسة من صباح نفس اليوم

ليكون باكورة مبشِّرة قبل يوم عمل طويل




الميامر




Site Gate   Main site table   History   Technicalities