كيرلس الأول ومصرع هيباشيا[i]

 

جريدة الأهالى

19 ديسمبر 1990

صورة ضوئية للمقال

نسخة آر تي إف للمقال

 

فى عدد الأهالى 5 ديسمبر جاء فى مقال للدكتور سمير حنا صادق تحت عنوان مكتبة الإسكندرية أن البابا "سيريل"  [ii](Cyril) حرض الدهماء على قتل الفيلسوفة "هيباشيا" وقد إتصلت بسيادته تليفونيا وعلمت أن مصدره هو الموسوعة البريطانية مما يفسر سبب ذكر اسم القديس بالصيغة اللاتينية (سيريل) بينما هو معروف بين الأقباط بالصيغة اليونانية الأصلية للاسم (كيرلس)[iii] وهو نفسه البابا كيرلس الأول الملقب بعمود الدين ومن المستبعد جدا أن يحرض على قتل تلك الفيلسوفة أو غيرها ممن يختلف معه فى الرأى فقد اشتهر بالحلم والتسامح تجاه أعدائه حتى أنه أنقذ اليهود من انتقام المسيحيين بسبب غدر اليهود بالمسيحيين وقتلهم لجمع منهم فى حادثة كنيسة الإسكندر .. ويؤثر عنه قوله فى القداس المعروف باسمه والذي لا يزال يصلى به للآن فى الكنيسة القبطية: "أعداءنا وأحباءنا اللهم ارحمهم"[iv] .. وهو رجل تفتخر به مصر على مر تاريخها فقد لعب الدور الرئيس فى توحيد كنائس العالم و كان للكنيسة المصرية بفضله مركز الصدارة فى التشريع المسيحى .. وأعداؤه كانوا من البيزنطيين الحاقدين على مصر ورجالها حتى قال أحدهم: "ضعوا على قبره حجراً عظيماً حتى لا يقلق الموتى فيعيدوه إلينا".. وبنفس روح الحقد هذه كتب المؤرخون البيزنطيون – وهم من كان بيدهم كتابة التاريخ فى تلك الفترة[v] - كتبوا تاريخ تلك الفترة المضطربة التي كثرت فيها الاعتداءات المتبادلة بين الفرقاء .. وعن هؤلاء أخذت الموسوعة البريطانية وغيرها .. فلا تشوهوا تاريخ مصر ورجالها فإن كانت الفيلسوفة هيباشيا مستنيرة[vi] فإن البابا كيرلس الأول – وقد اشتهر بلقب معلم المسكونة – كان – وبشهادة الخصوم أحيانا – أعظم استنارة.[vii]

 

باسل لمعى المطيعى

طالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة[viii]

 

 

 



[i]  هذا أول مقال يُنشّر بتوقيعي وكنت في بكور التخصص الجامعى !

عمدته فنيّاً هو مهارة استنتاج الكثير من القليل مع عدم الشطط، وقيمة هذه الميزة تزيد بزيادة قلة المعطيات وتثبت متى توفرت المعطيات الأكثر!! وفي هذه المرة فقد زادت وثبتت جميعاً بكل الشكر للرب،،،،،

 

[ii]  وردت في النسخة المنشورة هكذا:Ciryl ، وهو خطأ صحّحته هنا بهجائه الصحيح..

 

[iii]  إبراز التقابل مفهوم القصد!

 

[iv]  لا شك عندي أن طباع بابوات الإسكندريّة لاسيما من العائلة اليونانيّة الكبيرة التي منها البابا ثيوفيل والبابا كيرلس كانت تستجلب مزيد من الحنق والخصومة، ليس استثناءً من هكذا حال أمر البابا كيرلس الأول، يسبقني ويسبق الكل في اللوم والمراجعة مربيه الروحيّ وقريبه الراهب إيسيذيروس البيلوزيوميّ الذي طالما نبّهتُ لضرورة ترجمة رسائله للبابا كيرلس الأول بما في بعضها من توبيخ له على عنفوانه الشخصيّ في الخصومة التي تتداخل وتنساق في ركاب الخصومة الثيولوجيّة.. ولكن بالتعقل في نظر قضيتنا فإن الروح المسيحيّة قد تغيب عن عيني النفس بشأن بعض الغيرة في التنافس، وحتى كما حدث بالفعل قد يغيب صوتها عن أذني كثيرين فيترخّصوا في تلفيق تهم، وهي امور قبيحة ولكنها معقولة الحدوث من حيث واقع الأحوال، ولكن لا تصل بالاحد إلى همجيّة السحل والقتل، لاسيما مع وعيه لعبارة كهذه التي كتبها: "أعداءنا واحباؤنا الـلهم ارحمهم".. لو جاز افتراض أن حتى لهذه الدرجة تصل عوامل النفوس برؤساء الكنيسة فإن منطق علم النفس ذاته سيحتاج لإعادة صياغة..

 

[v]  لا يصل القصد لتعميم وصف المؤرخين بالحقد، فهذا شطط لا يجوز على الواحد، على أن جنوح الاتهام فيما بعد ضد البابا كيرلس بشأن جريمة مصرع هيباشيا هو بغير شك من اعتمالات الخصومة الشخصية والفكريّة والدينيّة حتى من جانب غير المؤمنين.. هذا شامل تقديراتي القائمة على طبائع الأمور، وإن كان ضيق سياق المقال وعدم توفر المصادر الداعمة وقتها لديّ لم يسمحا لي بالاستفاضة في دعم تخصيص المعنى الأول وتوثيق التقدير الثاني!!

والآن والفرصة متاحة أفيد بالسطور التالية شرحاً وتوثيقاً:

بديهي أن يؤخذ في الاعتبار الحساسيات بين الإسكندرية و بيزنطة، وقد ظهرت مسحة من معاداة الإسكندرية في بعض كتابات البيزنطيين، ولكن تعميم وصف المؤرخين البيزنطيين بالحقد به مبالغة واضحة.. ولقد أوردت في المقال العبارة مقيدة فقلت "البيزنطيين الحاقدين، ولم أعمم، وإن كان التعبير يحتمل لغوياً التقييد ويحتمل البدل، ولكنني قصدت التقييد للتحوط لحين توفر مصادر تسمح لي بالحكم الأشمل.. ولعلي، أحاول التذكر، كنت أميل وقتها في وعيي لقبول المبالغة دون تحوط جرياً وراء الأسماء، و سمة المبالغة في إطلاق الأحكام كانت قرينة عمر ما قبل العشرين، وعندى شواهد أننى تخلصت منها مبكرا جداً.. وثانياً فلو كانت المصادر متاحة لي لأضفت ما يؤيد وجهة نظري مشيراً أن المؤرخَ البيزنطيّ الأشهرَ سوكراتس Socrates كان معتدلاً ودقيقاً، فلم يسق التهمة ضد البابا كيرلس بل ضد بعض الحاقدين على الفيلسوفة بزعامة أغنسطس اسمه بطرس،  مع أنه أضاف تعليقاً  يفوح بنكهة الأسى لعبور البابا  كيرلس وكنيسة الإسكندرية من الجريمة دون أي "لوم". وهذه النبرة وإن لم تخلُ من ظلال الضيق والحنق على كنيسة الإسكندرية، ولكنها بحق لا تخلو أيضاً من دقة وموضوعية.. نعم الشعور بالمسئولية الجماعية كان غائباً للأسف، وبكل صدق أقول إنني أشعر بوجوب أن يشعر بالعار كل من لم يشعر به على عدم نبرّؤه من هذه الواقعة.. وفي ترجمتي لفصول دخول العرب مصر في حوليّات الأسقف بوحنا النقيوسيّ فصّلت في هامش 97 تحليل الموقف في ضوئ ما زاده هذا الأسقف في توصيفه لمجريات الجريمة الغوغائيّة، والتي ظهر منها لمن يفهم شيئاً في طبائع السياسة كيف أن الجمهور كان يضغط على البابا ليفرض كلمته عليه وان البابا كيرلس لم يكن محرضاً ولا مشتركاً في الجريمة بل كان أحد ضحاياها بالتهديد الضمنيّ، وهو على ذلك لم يتبرأ من خطأ عدم التبرّؤ منها لا أعذره بخوفه من ضغط الجمهور، على أن اشتراكه ولو بالتحريض في الجريمة مستبعد من واقع ما فعله جمهور الغوغاء بعدها..  وأخيراً فإن مؤرخ الإمبراطورية الرومانية الأشهر في العصر الحديث جيبون Gibbon فإنه لم يسق الاتهام ضد البابا  كيرلس، إطلاقاً، عندما تناول الموضوع في كتابه "اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانيةThe Decline and Fall of the Roman Empire "..  إذاً فبعد هذه الشواهد التأريخية، بجانب ما هو معروف من سيرة البابا كيرلس الشخصية مما ورد في المقال، فإن محرر الموسوعة البريطانية يكون إما قد غرس تقديره أو سجل شبهات اعتبرها سمير حنا صادق كاتب المقال المردود عليه حقيقة.. وللأسف ليس لدي الآن فرصة الاطلاع على الموسوعة البريطانية لمراجعتها.. ومع توفر بعض المصادر الآن، فإنني بعد الإضافات السابقة منها ملتزم بإضافة السطور التالية المهمة جداً: إنني أرحب بالمؤرخين البيزنطيين الشرفاء، ثم أعلن وجوب الاعتذار الكنسي الشرطي في حالة صحة تقدير خبر سوكراتس عن تورط الأغنسطس المذكور في قيادة الغوغاء لإتمام الجريمة، وإعلان انه لو كان بعض القتلة صدقاً قد حمل الرتب الكنسية فإنها تكون عليهم دينونة ومنهم بريئة، وإنما الاعتذار مشروط لأن التيقن من الخبر صار محالاً ويبقى خاضعاً لحكم الاحتمال القائم.. وثالثاً ومهماً أعلن بأعلى صوتي أنه بحسب حكم التاريخ المدروس فإن البابا كيرلس الكبير لم يكن قاتلاً ولم يتورط في هذه الجريمة بشئ، ولم يكن عليه من ثمّ َ أمام التاريخ إلا مسئولية التبرؤ الواجب وإبداء الأسف الذي للأسف لم نسمع به.. وأكتب ما على صاحب الاسم البارز بالخط البارز لأبرز ما كان ينبغي، ولا يزال، إبرازه.. إنني بمجرد تعرضي للموضوع بتوفر المصادر فإنني ألتزم بالتبرؤ الشخصي وها أنا لم أهمل لا حكم التاريخ ولا تعليقي اللازم بشيء، والرب الإله يحكم في الجميع بعلمه وعدله..

 

[vi]  لم أتردَّد بل فوق  هذا بادرت وحرصت على وصف هيباشيا، الفيلسوفة ذات السمعة العلمية المحترمة، بالاستنارة، رغم خصومتها لإيماني المسيحيّ.. ومع ذلك أضيف هنا ما لم يسمح به سياق المقال، فإنه مع وضوح الدلائل التاريخيّة من ذلك العصر أن كل الفرقاء مهما  كانت مكانتهم العلميّة كانت لهم مشاغباتهم ومؤامراتهم، فمع سهولة إثبات ذلك فإنني لم أشر بشئ منه حتى أبرِّئ المقال تماماً حتى من أدنى شبه تبرير لجريمة القتل.. ولكن في سياق الشرح هنا فإن الإشارة لازمة، لتفسير –لا لتبرير- الأحداث، مع الإشارة المقابلة الأهمّ  والأعمّ، وهي أن المبادئ المسيحية مسيحية، وأن الجريمة جريمة..

 

[vii]  لا أبالغ بحبة خرل إذا قلت إنني ببناء المقال هكذا ولاسيما بهذا الختام فقد عبّرتُ المقال إلى النشر من أفواه الأسود المتوحشة.. فأولئك الشيوعيون بحملون رفضاً للإيمان لا يبالون معه بأي مبادئ أو حقوق قانونيّة، ومنطقهم الوحيد فيه هو قناعتهم بحقهم في الدعاية المضادة ضده ما أمكنتهم الأحوال، ولقد احتطّتُ لذلك وأنا أرسل هذا الرد، فصدَّرت لهم وجه الوطنيّة، التي يتشدّقون بها، في ملامجه المجدية الثابتة التي لا يمكن إنكارها عن التاريخ المسيحيّ، وقيل لي بعد النشر إن رئيس التحرير وقتها "فيليب جلاب" قرأه وفهمه وأعجبه، وكانت هذه رسالة تفيد  أن نشر هكذا ردّ لم يكن سهلاً في معاييرهم..

   وبعد سنين تبيّنَتْ لي أدلّة قاطعة على صحة تقديري من واقع ما أدلى لي به نبيل زكي رئيس تحرير جريدة الأهالي وقتها، حين ناقشني بعنجهيّة ضمنيّة في لزوم "حذف" فصول الحرب في أسفار العهد القديم! وقلتُ ما قلتُ مما لم يجد ردّاً له إلا عبارة حانقة أفلتت منه حين قال لي إنهم في الجريدة عندما يتلقون ردودا ً يقصد مثل ردودي وقتها) على ادعاءاتهم هذه فهو يمنع نشرها! رويت له قصة هذا المقال وقلت له كان سلفك فيليب جلاب أقل شيوعية منك إذاً، أو لعلّي كنتُ أكثر حذقاً في تمرير المقال المتواضع!

 

[viii]  هذا أول مقال يُنشّر بتوقيعي حين كنتُ بعدُ في بكور التخصّص الجامعى..