ألقاب .. هذا الزمان

 

جريدة الأخبار

6 مارس 1995

صورة ضوئية للمقال

نسخة آر تي إف للمقال

 

 

لم تعد الألقاب فى بر مصر تدل على مستحقيها كالدعم تماما (هل تذكرونه؟) .. ال (باشا) الآن ليس من يرفض زواج ابنته من صعلوك يفحم الباشا بإجابته الشهيرة: لا يا باشا .. أنت فهمتنى غلط .. إلخ (هو مسألة رياضة).

الباشا الآن إما رتبة عالية إن كان المتحدث من الرتب التى (ليست الأعلى) أو جراحا رأسماليا إن كان المتحدث تمورجي، بل ربما بائع بطاطا يعارك رفيق المهنة.

ال (بيه) (بك سابقا) عزيز قوم ذل و لم يجد من يرحمه فأصبح موظفا رقيق الحال ينعم الباعة باللقب عليه: يفتح الله يا بيه .. غيرك يشترى.

فإن كان ذاك هو عزتلو بك زماننا فمن هو (الأفندى)؟ هو نفس الموظف فى موقف آخر .. يخلع عليه رئيسه لقبا أكثر دلالة يفتتح به الحوار: أنت يا (أفندى) تعال هنا .. و سرعان ما يفسر مدلول اللقب لسكرتيرته (كالعادة): مش عاوز أشوف ال .. (كائن حى بمعنى أفندى) هنا تانى.

إذن فمن حق بائع الكبدة أن يكتب على عربته كبدة الباشا أمام مدخل عمر أفندى كملخص بليغ لتاريخنا الحديث.

ليست الألقاب التاريخية فقط ضحية الابتذال، فالقادرون الآن يقتبسون الألقاب المهنية من مستحقيها ولا يدفعون حق الأداء العلنى.

و الأمثلة تتفاضل فهذا المستشار (الفنى) يتواضع و يقدم نفسه أنه (مستشار) فحسب، و ذلك المثقف الجاد الذى هو (أفضل) من أى دكتور يتنازل (مشكورا) عن أفضليته و يضع قبل اسمه الكريم ( د. ). أما بعضهم ممن تركوا الخدمة العسكرية لأسباب يعلمها الله ويخمنها بعض الخبثاء ويتسلقون السلم الإدارى و مؤهلاتهم غالبا هى نفسها التى أدت بهم لترك الخدمة.

حتى الألقاب المهنية وقعت فريسة لعقد النقص و هذا أسوأ ما فى الأمر على الصعيد الشخصى ..

دعونى أصارحكم بالغرض من المقال فأنا للأسف من حملة الألقاب المعتدى عليها. نعم أنا مهندس .. و يدعونى الشامتون (باشمهندز) (فى قول آخر هندزة) و الفرق بين المهندس و الباشمهندز هو نفس الفرق بين الكاتب و الباشكاتب .. ابتذل هذا اللقب و انتهك حرمته وصار مثارا للشك فى هوية أصحابه ..

حدثنى صديق لدود متخابثا: دخلت مصنعا يتعاطى فيه الجميع هذا اللقب فظننته البروتوكول التخاطبى فتوجهت لأحدهم: لو سمحت يا باشمهندس .. انتهرنى الرجل: أنا مؤهل عالى ..

قلت معه حق .. وهذا يدعونى للتعجب من حملة المؤهلات العليا الذين يتخلون عن ألقابهم المحترمة ويتمحكون فى لقبنا المهنى ذى اللقب الكبير.

فأغلب الكليات تخرج الآن مهندسين ربما باستثناء كليات الهندسة، فالعبد الفقير يحمل لقب مهندس كمبيوتر وأبان تخرجى كنت أعتقد أنه عفريت من الجن.

باختصار هذا لب المأساة أن تتوقف كليات الهندسة عن تخريج المهندسين تماما كما تقف الجهات المعنية سلبية أمام التجاسر من صغار النفوس و الدفاع عن الألقاب ليس بملاحقة المقتبسين بل فقط بالأكثر بمنحها لأهلها. انعكست الفوضى على الذوق المصرى فى المخاطبة وبتنا نعانى مجتمعا باهتا لا وضوح لهوية أفراده. وأدعو لإصدار تشريع حاسم ينظم استخدام الألقاب.

 

 

مهندس باسل لمعى[i]

 

 



[i]  بدأت مقالاتى بهذا التوقيع المُنتَقَى بعناية، منذ المقال الثانى لى على الصفحة بعد تخرّجي، بعدما ظهر أنها محل ترحجاب وطلب دائم على الصفحة!! وأما قاعدة اختياره فكانت لإظهار ان الكاتب له مهنة فنيّة ليسه هى الكتابة، لكيما أحفظ صورة الكاتب الهاوى الذى لا يرتزق بكتابته، وفيها إبعاد لمظنة التبعية لمصدر الرزق وفيها قيمة مضافة لكفاءة الأسلوب من حيث ان الكاتب له عمله غير الهين وليس له قواعد حرفيّة تدعم كفاءته ككاتب ..

على ان المشرف على الصفحة كان يُقدِّر شخصى المتواضع كاتباً فطالما غافلنى ووضع اسمى الثلاثىّ بدلاً وأفهم وجهة نظره أن الاسم الثلاثىّ يقدم الكاتب كعلم مجتمعىّ من أعلام الكتابة له أصل فيها ..

على هذا سيجد القارئ الماتبع فى غير مقال قادم تغير فى صيغة التوقيع بظهور الاسم الثلاثى، ولكن ليس طويلاً قبل أن تثبت إرادتى وييأس المشرف الفذّ على تصدير شخصى المتواصع ككاتب من ذوى الأسماء الثلاثية المنفردة من الالقاب المهنيّة .. لقد كتبتُ مهندساً وتوقفت عن الكتابة مهندساً وبقيت كلماتى متحققة ويتوالى مزيد تحقيقها، وكنت شغوفاً أن ينتسب هذا الفضل لى ككاتب هاوٍ لا محترف!!

 

 تفصيل هذه القصة اللطيفة المصاحبة لأول المقالات فى لوحة مقدمة خلفيّات هذه السلسلة العجيبة!!