ورحل الشيخ الثابت على المبدأ[i]

 

جريدة الأخبار

13 مارس 1996

صورة ضوئية للمقال

صورة ضوئية لمقال باكر متصل

نسخة آر تي إف لنص المقال

 

بقلم مهندس :

باسل

لمعى

المطيعى

 

رحل عن عالمنا الفاني المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي. والحزن على رحيل من تتفق معه في الرأي أمر طبيعي ولكن مع الشيخ الغزالي فالحزن على رحيل من تختلف معه لا مناص منه.

والشيخ رجل إذا كونت فيه رأيا فإنك لا تغيره ، لأن الرجل نفسه لا يتغير ولا يتلون ، والزمن ردئ لأن مثله قله !

لقد اختلفنا مع فكر الرجل في كل عمومياته واتفقنا معه في بعض تفاصيله وفي هذا وذاك احترمناه في قيمه وقيمته.

اختلفنا معه بشأن عقيدته في الدولة الدينية التي يدعو لها وندعو عليها[ii] ويبرهن عليها ونرد عليه.

وعندما فعلها النميري وأيده الشيخ خالفناه وحزنّا: حزننا لعملة النميري كانت قيراطا ولتأييد الشيخ له ثلاثة وعشرين قيراطا ..

خالفناه وتعجبنا عندما دعا نجيب محفوظ للتخلي عن أولاد حارته.

وخالفناه وأسفنا عندما صور النزاع العربي الإسرائيلي نزاعا دينيا ، وما نراه في ماضيه إلا نزاعا سياسيا وفي مستقبله إلا حربا اقتصادية بلا رحمة.[iii]

***

واختلفنا ويا ليت كل الخلافات كانت كخلافاتنا مع الشيخ الغزالي فقد تمتع الفقيد بقيمتين.. قيمة الكلمة وقيمة الثبات على الكلمة..

كان سلاحه هو الكلمات مكتوبة ومنطوقة.

الكلمات وليست الرصاصات أيها الشباب الذي خربوا عقله وعمروا طبنجاته[iv]..

أيها الجيل الذي لم يتعلم مواجهة خصومه بالقلم فاستسهل ضربهم بالقلم وبالرشاش وبالجنزير وأسهل من تحريك القلم على الورق تفريغ الرصاص في البدن والقتال باليد يسير وباللسان عسير !!

***

ورحم الله الغزالي الذي مات والكلمات لم تزل في فمه وفي يده قلم .. كانت قيمة الرجل في الكلمة وأيضا في الثبات عليها .. لم يكن انغلاقيا في حقبة وانفتاحيا في حقبة تالية .. لم يبايع الاشتراكية وعلميتها في الستينات ، ولا الديمقراطية وأنيابها في السبعينات.

كان مخلصا لمنهجه الواضح الذي تختلف معه وهذا حقك وتحترم صاحبه وهذا حقه..

إذن فقد رحل الشيخ الثابت على المبدأ وترك لنا حزب المتأرجحين المتلونين الذين يسمون كفاحهم (!) نضالا في زمن النضال ، وجهادا في أوان الجهاد تبعا للموضة ولمصادر التمويل.

ويصبح الرفيق "أخا" والأخ "أميرا" والأمير الحالي – الرفيق سابقا – يجمع في جعبته أفكارا فلسفية حصلها أيام النضال ، ونصوصا دينية حفظها أيام "الجهاد" فيبهر بالأولى أنصاف المتعلمين ويأسر بالثانية أنصاف الجهلاء وكله مكسب .. يا خسارة !![v]

***

ننعي الشيخ الغزالي المفكر الإسلامي الذي ظل طيلة عمره مجاهدا "فقط" ونأسف لرحيله كما أسفنا من قبل لرحيل "سمِيّه" الأستاذ عبد المنعم الغزالي المفكر الشيوعي الذي ظل مناضلا "فقط" وفي فقط هذه[vi] تكمن القيمة الجديرة بالاحترام.

ولك أن تنحو ناحية الأول يمينا أو تميل تجاه الثاني يسارا أو تظل معي في الوسط ، ولكن عليك أن تدعو معي بالرحمة لأصحاب المبادئ وأصحاب الثبات عليها ومنهم الراحل الشيخ محمد الغزالي رحمه[vii] الله.

 

 



[i]  العنوان واحد من ثلاثة عناوين اختارهم من عبارات متن المقال الصحافى الفذ عبد الوارث الدسوقى المشرف على الصفحة..

وأما المتن فقد ذخر بصياغات دقيقة، منها الجملة التي ظهرت في العنوان، تجمع بين تمرير نشره وتمرير حال خصومه في موزازنة دقيقة، ما جعل د. جابر عصفور رئيس المجلس الأعلى للثقافة وقتها، ورئيس قسم اللغة العربية في كلية الآداب قبلها، ووزير الثقافة بعدها، يتوقف أمامه لينبِّر بإعجاب مشكور على حبكته بقوله إنه "مقال يُقرَأ بين السطور" ، ولم يخطئ، لأن كاتب المقال نفسه، شخصي المتواضع، ما إن فرغ منه إلا وقال "يا له من مقال كتبتُه بين السطور"أتاني هذا التقدير لا بطلب مني ولا بمعرفة بصاحب الشهادة لا مني له ولا منه لي وإنما كقارئقرأها وأبدى رأيه تلقاءً ونُقِل لي..
الكتابة بين السطور لها سبع منافع فهي تمرِّر، و"تمرِّر"، وتوفّر، وتتتيح وتبيح مساحة أوسع لكتابة أضعاف المكتوب على السطور، لتجمع بين ما قلّ وما دلّ وما ربط وما حلّ، وتسجِّل لاسم شخصي المتواضع مقالاً هكذا خطير في كذاك زمن بغيض، وبعد الكل تستدعي دون طلب أو معرفة شخصية شهادةً كريمة من أستاذ ورئيس قسم لغة له فيها شأن وله فيما يتصل بها من شؤون وضع!!

على أن مكاسب المقال فاقت مجرد براعة الكتابة اللاذعة بين السطور المكتوبة ضمناً والمفهومة صراحةً.. فإنني كرّست للمقال كلاماً مفهوماً هو هو عينه على كل المستويات: ففوق السطور أبرزت ما لم يُبرز طيلة ذلك العصر.. وما لم يصدق أحد كيف جاز للنشر هكذا!
فكان قصد المقال واصلاً كله للكل..

 [ii] كم يساوى نشر هذه العبارة فى أوسع الجرائد الشعبية توزيعاً وقتها وتحت رقابة نظام يمالئ أولئك ويتملقهم؟ من أجل كتابتها مبرزة فوق السطور كانت الإحاطة بها فى هذا المقال الأكثر دقة ومخاطرة، ومرّ نشرها وظهرت فوق السطور بكل وضوح وقوة بعون ربنا..

 

[iii]  من نقاط نقد واستيقاف الشيخ الغزالى فوق كل شئ هو أبغض ما وصلت به أفكاره له حين برر قتل فرج فودة وقال إن المجرم الذى قلته كل خطأه أنه "افتئت على السلطة" أي قام بما كان يجب على السلطة القيام به، وأضاف إنه لا يعلم للمفتئت عقوبة في دينه!! هذه النقطة تجاوزت عنها لحسبة دقيقة: أول الاعتبارات أن ذكرها يستوجب اتهامه بالإجرام الصريح وهو ما يغير البنية البديعة للمقال ويستدعى لغة أخرى وأسلوب آخر.. وثان الاعتبارات أن فتح هذه النقطة يخاطر بنشر المقال لكون هذه الشهادة تداخلت مع حكم القضاء المهادن وهذا لا يُسمَح بنشره.. وثالث الاعتبارات أن هذه النقطة لم تفت الكثيرين وعمّ نشرها فى جرائد المعارضة (فى حين أنى أكتب فى الجريدة الرسمية الثانية) فلم يكن فى فواتها إلا التجاوز عن بديهية شائعة لا تحتاج للذكر بالضرورة.. تجاوزتها إذاً ولكن لم أتجاوز ضرب رأسها صريحاً وضيحاً فصيحاً فى سابقة مذهلة فى منشورات الجرائد الرسمية وقتها بذكر الدعاء على "الدولة الدينية" وأن براهينه الدينية ليست ببراهين وطنية ولا منطقية من حيث أنها مردود عليها.. قدّرت إذاً قبول خسارة نقطة أدبية بتجاوز ذكر جريمته فى حق جريمة قتل فرج فودة فى مقابل تحاشى خسارة نقطة موضوعية بلا مثيل وقتها.. ويلحظ ولاحظ ذوو النباهة إن روح أسلوب فرج فودة نفسه كانت مبتهجة من هذه الحسبة، وهو من أفذاذ اللغة السياسية لا تنسوا..

 

[iv]  هذه من أقوى الفقرات المكتوبة بين السطور.. فإنها ليست بالبداهة رسالة ترحيب لكي يتكلم الإرهابيون بكلام الإرهاب، ولكنها تعريض بحال المنفذين من قطعان الإرهابيين بأنهم الجانب العيّ في الكلام الذي يسوقه اصحاب الكلام المحرِّض على الإرهاب دون يخاطروا بأنفسهم هم، ويحمل الكلام دعوة هازئة لهم للانتقال لصف الكلام لما فى هذا من توفير جرائم الإرهاب على المجتمع، وهنا تنحسر المعركة فى حدود كلام المحرضين المتهافت فى منطقه المردود عليه بلا جهد، كما هو ثابت قبلها فى كلمات المقال..

 

[v]  ظهر بعد 12 سنة أن المقصود لم ينس هذا السطر، فكتب مقالاً طويلاً كل متنه محاولة ظاهرة للرد عليه! فإن لم يكن على هذا السطر عينه فلعله كان يرد على مركز الإحساس بالكرامة داخل نفسه، غذ لم يظهر أن أحداً أثار هذه النقطة غيرما هو مكتوب في هذا السطر بمقالي هذا..

 

 [vi] يقفز سؤال لدى المتسرعين في الفهم إن كان كلامي هذا دعوة للجمود وعدم الاعتراف بالحق في تطور الفكر وتغيير الرأي والموقف!! ولكن المتبصين في الكلام يفهمون ما لا ضير من إيجاز شرحه لغيرهم: تغيير الإنسان لمواقفه حتى من النقيض لا إشكال فيه بالضرورة، ولكن هكذا إنسان يغير موقفاً راسخاً ورئيساً لديه يقضي بقية عمره مصرحاً بندمه على سابق خطئه متضعاً في حال نفسه لما كان عليه، أوكما تقول الحكمة القديمة: "لا يليق بالذين هم فى زمن التوبة ان يجلسوا على مقاعد المعلمين"—  هذا طالما هو صادق في تحوله، ولكن الكلام هنا عمّن يتمعلمون وينظّرون لمواقف ومبادئ وينقلبون لنقائضها ويقفزون فوراً لمقاعد التعليم بها ليبخوا شروحهم الخربة بذات ثقة ما كانوا عليه في نقيضها.. هنا يفقدون احتراهمهم، والكلام كان على أولئك فى كل نواحي الإشارات فى المقال كما هو واضح..

 

[vii]  من المستحيل أن اطلب الرحمة لمن مات على قناعة بحل سفك دم فرج فودة وأمثاله.. ومن المستحيل أن يُنشَر المقال دون ذكر الرحمة مقرونة بميت لاسيما مع سياسة الدولة وقتها مع فريقه.. ولذلك ذكرت الرحمة ولم اطلبها.. قلت رحمَ" كفعل ماضٍ، وهو يجوز بقصد الدعاء اصطلاحاً لغويا ويجوز كفهل ماض للتخير عن حدث فائت، وهو لا غشكال فيه، فالـله طالما أشرق شمسه عليه وطالما رحمه وتمهّل عليه حتى مات.