دروس.. من ميجور

 

جريدة الأخبار

21 مايو 1997

صورة ضوئية للمقال

نسخة آر تي إف لنص المقال

 

بقلم المهندس:

باسل لمعى

 

أحببت جون ميجور بشدة وأسفت لسقوطه إذ لن أطالع بعد صورته بنظارته وتسريحه شعره البسيطة التى تجعله يبدو مثل موظف نشيط ومجتهد بين قادة العالم.

وأعلم أن القارئ قد اعتاد أن يسمع ويقرأ الكثير عن الجديد الناجح، وأن يتوارى عن مسامعه كل شيء عن القديم .. ربما على الأكثر يسمع عن القديم بعد سنة أو أكثر أنه أصدر كتابا بمذكراته.. ولكنى استسمح القارئ فى مخالفة هذا الف لأن لدى ما يستحق الذكر عن رئيس الوزراء البريطانى السابق.

فرغم أن هذا الرجل لم يحظ بالكاريزما المعهودة فى أسلافه مثل تشرشل وتاتشر إلا أنه حظى بسيرة ذاتية تستحق الاحترام والتحية.

كان والده ممن نسميه نحن فى بلدنا "سبع صنايع والبخت ضايع" .. عمل ميجور الكبير رياضيا ومسرحيا دونما تخصص محدد، ولم يكن ميجور اسمه الأصلى ولكن اكتسبه خلال تنقله بين أعماله التافهة هذه حتى استقر فى العمل كمهرج على المسرح وتزوج من راقصة متواضعة.

***

و رغم هذه النشأة كان جون – الابن الثالث لهما – متفوقا فى دراسته واشتهر بالتفوق الرياضى أيضا فى لعبة الكروكيت .. ثم اضطر لترك دراسته ولعبته قبل السادسة عشرة ليشارك أخاه وأخته فى إعالة الأسرة.

عمل كاتبا فى محل بقالة ثم شارك أخاه الكبير فى صناعة الدمى الطينية لأغراض الزينة، ثم ترك أعماله البسيطة بعد سنتين لتمريض والديه عندما أقعدهما المرض عن العمل.

و فى هذه الفترة البائسة كان أشهى الوجبات لدى جون الصغير طبق فاصوليا حجم كبير (دوبل) .. وبعد وفاة والده (و سرعان ما لحقت به والدته) بحث جون عن عمل فى أحد البنوك.

و لماذا البنوك بالتحديد؟ .. كانت وجهة نظره أنه لم يكمل تعليمه، والبنك هو المكان الوحيد الذى يعطى العمل به تعليما عمليا.

وفق أخيرا فى الحصول على طلبه، وسهل له البنك الاللتحاق بمعهد مصرفى يعطى شهادة أشك فى أنه ينجح فى مصر أن يعادلها بشهادة فوق متوسطة .. لأنه لم يحصل قبلها على "ال جى سى إي" !!.

***

وعندما انلعت فى نيجيريا حرب من حروبها الأهلية فر موظفو البنك الكبار العاملون هناك، وتطوع جون للعمل بفرع البنك هناك .. وقبل المخاطرة بحثا عن مستقبل أفضل.

و فى نيجيريا لمس الوطنيون هناك روح التواضع وعدم العنصرية التى تميزه عن بنى جلدته.. وهناك أصيب إصابة بالغة وعاد لوطنه واستمر يعمل صباحا ويشارك فى العمل السياسى مساء حتى تبنته تاتشر سياسيا.

وعندما تآمر عليها كبار المحافظين طرحت اسمه ليخلفها فى زعامة الحزب ورئاسة الحكومة. وكان أصغر رئيس حكومة فى هذا الوقت.

ومع بداية عمله واجه صعوبتين .. تدخلات تاتشر فى قراراته من ناحية، واتهام مناوئيه له بأنه دمية فى يدها من ناحيه أخرى.. فطرح فى خطوة غير متوقعة اسمه للإقتراع على زعامته للحزب. وأمام هذه المفاجأة وخوفا من تجدد صراعات المحافظين نجح باقتدار وسد بذلك الطريق على تدخلات تاتشر واتهامات الخصوم فى خبطة واحدة.. ولم يعد جون ميجور صنيعة أحد أو عرضة للطعن من آخر .. ثم خاض مع حزبه انتخابات عامة وكسبها ثم انتخابات أخرىى وخسرها ليخلى بذلك الطريق لآخر .. وهكذا الحياة.

***

أما ما أود أن أضع تحته خطا فى شخصية هذا الرجل فهو أولا تواضعه وعدم عنصريته. وثانيا وصوله لقمة السلم السياسى فى وطنه صاعدا من قاع السلم الاجتماعى .. فكبار السياسيين فى وطنه من ذوى تعليم الأوكسبريدج (دمج كمبريج وأكسفورد) أو من خريجى أحدى الكليات العسكرية الملكية .. قارن هذه بشهادته الفوق متوسطة التى حصل عليها دون أن يكمل تعليمه الثانوي.

والكلام لأبنائنا فى امتحانات الثانوية العامة.

ثم أنه فوق هذا لم يعان من عقدة النقص بل كان يصرح فى بساطة وتفكه بأنه لو أعطى قليلا من الطين لصنع أشياء تدهش الحاضرين مشيرا لفترة عمله الباكرة فى صناعة الدمى الطينية.

وما يستحق الإشاده أنه تمتع بهذه الروح فى بلد تعد رذيلة الكبرياء فيها فضيلة قومية وتسممى أبعد نقاطها الحدودية "نهاية الأرض" وتسمى دول أوروبا (على بعض) "القارة" .. يعنى هى فى كوم لوحدها وكل أوروبا فى كوم آخر.

و أخيرا وأنا أقلب فى كتاب مصور لسيرة حياته لاحظت تكرار ظهوره فى الصور بنفس الكرافتة !!

إنها مفارقة طريفة أن يصل هذا الرجل لقمة المحافظين بينها يصل بلير الارستقراطى لقمة العمال!