جيل لا ينقصه.. الضياع الإلكترونى

 

جريدة الأخبار

26 نوفمبر 1998

صورة ضوئية للمقال

المقال نسخة آر تي إف

 

بقلم مهندس:

باسل لمعى[i]

 

هذا المقال هو جرس إنذار لأولياء الأمور الذين أوتوا أموالا تشغلهم عن أبنائهم (وبناتهم)  .. وتشغل أبناءهم (وبناتهم) عن أنفسهم  .. أكرر  .. المقال جرس إنذار أرجو أن يكون مبكرا ضد خطر اسمه برامج الدردشة عبر الإنترنت[ii]  ..

   وبرامج الدردشة هذه تمكن كل من يملك جهاز كمبيوتر وله اشترك ما فى شبكة الإنترنت من كتابة بعض المعلومات عن نفسه والإعلان عن الموضوعات التى يحب التحدث فيها أو الأشخاص الذين يريد التحدث معهم  ..

   ويمكن لكل من لديه نفس البرنامج التحدث مع نظرائه عبر شاشة الكمبيوتر وتبادر الملفات الكمبيوترية والبرامج معهم  .. إلى هنا وليس هناك مشاكل، فمثل هذه البرامج تمكن واحدا مثلى مثلا من تبادل التحية والأخبار مع صديق فى الخارج بشكل يومى كما تمكن العلماء من تبادل نتائج أبحاثهم وهكذا  ..

   وإذا تصور أحد أن الخطر يكمن فى المواد غير الأخلاقية التى قد يصل إليها المراهقون بسهولة عبر مثل هذه البرامج فهو مخطئ والخطر لا يكمن هنا  .. فالمواد غير الأخلاقية من مجلات وصور وروايات ساقطة لها مصادر كثيرة وغير مقصورة على الإنترنت وبرامجها  .. فأين الخطر إذن؟

***

   يبدأ الخطر عندما يصدر حمادة[iii] أمرا إلى أحد هذه البرامج بالبحث عن كل المشتركات اللواتى اسمهن راندا مثلا  .. وبالمناسبة فالأمر ليس معقدا والتعامل مع هذه البرامج لا يتطلب ان يكون حمادة خبيرا في علوم الكمبيوتر  .. وسرعان ما يستجيب البرنامج  ويضع أمام حمادة قائمة بها عشرات البنات اللواتى سجلن أسماءهن الأولى للبرنامج باسم راندا  ..

     ويبدأ حمادة فى فحص المعلومات التى سجلتها كل راندا عن نفسها حتى تروق له واحدة فيترك لها رسالة عبر أسلاك الإنترنت برقم هويته على البرنامج فى انتظار رد منها  ..

   وفى 99% من الحالات فإن راندا ترد على الرسالة برسالة أخرى تطلب فيها بدورها معرفة بعض المعلومات عن حمادة  ..

   وفى 98% من الحالات فإن حمادة يطلب فتح خط للدردشة الفورية مع راندا بدلا من تبادل الرسائل  ..

   وفى 97% من الحالات تنتهى جولات الدردشة الفورية بطلب اللقاء فى مكان ما  ..

   وفى 9^% من الحالات يتم اللقاء فعلا  ..

   وفى 95% من الحالات يخبر حمادة حسام صديقه بخبر اللقاء وما جمعه من معلومات عن راندا  .. وتفعل راندا نفس الشئ مع صديقتها أميرة وهكذا  ..

***

   وفي 94% من الحالات نجد مجموعة مراهقة قد تكونت بعيدا عن أية رقابة  .. ويعلم الـله نسبة الحالات التى تنتهى بكارثة  ..

   وقد يقول متحذلق: وما الجديد؟ فهناك دائما المراهقون الذين يفعلون هذا وأكثر سواء بالإنترنت أو بدونها  ..

   القياس هنا فاسد لانه يهمل فوارق أساسية بين الإنترنت والوسائل التقليدية للتعارف  .. فعادة ما تتكون العلاقات بين المراهقين فى الجامعة أو النادى أو بحكم الجيرة فى السكن أو القرابة  ..

   وفى كل هذه يمكن وضع العلاقة تحت الرقابة بشكل أو بآخر لمعرفة مصدر منشئها  .. كما يمثل هذا نوعا من التحكم الذى يردع غير المتهورين من المراهقين من الانغماس والتورط فى ما لا تحمد عقباه  ..

   أما عن طريق الإنترنت فلا احد يعرف الآخر وخلفيته وأخلاقه، (والبلد التي لا يعرفك أحد فيها فافعل كما يقول المثل وامش فيها)،  وهذا سيشجع الجنسين[iv] على الذهاب إلى آفاق بعيدة فى علاقة سخيفة مبنية على غير اساس إلا بعض المراسلات التافهة عبر الإنترنت لاسيما وأنه إذا حدث أى شئ يمكن للجميع التنصل وإنكار معرفة الآخر من الأصل ولا يمكن هنا إثبات أى نوع من الاتصال[v]  ..

   فارق آخر اكثر خطورة هو أن برامج الدردشة فى الإنترنت يمكن استغلالها عن طريق برامج أخرى متقدمة فى اقتحام أجهزة الآخرين وسحب بل وتخزين بعض البيانات  ..

   ووجه الخطورة فى هذا أنه يمكن لشاب مستهتر دس أى مواد مخلة فى جهاز شريكته فى الدردشة، وقد يراها آخرون ولن يخطر ببالهم كيفية وصول هذه المواد إلى صاحبة الجهاز لأنها هى نفسها لا تدرى  ..

   والأخطر أن الفتيات اعتدن تخزين أسرارهن وأسرار صديقاتهن بشكل مرتب ومنمق على اجهزتهن وهن لا يتوقعن أن احدهم يمكن أن يقتحم الأجهزة ويعبث بها  .. وبالمناسبة فإن برامج الاقتحام هذه موجودة مجانا على شبكة الإنترنت ويمكن الوصول إليها بنفس سهولة استخدامها  .. وهناك حالات ابتزاز كثيرة عبر مثل هذه الجرائم  ..

***

   إننى لم ولن أكون أبدا من دعاة الانغلاق وفرض الرقابة من أى نوع على التكنولوجيا  .. وحتى إذا أردت فلن استطيع ولن يستطيع غيرى فرض مثل هذه الرقابة  .. فالعالم أصبح بسبب التقدم المذهل فى علوم الاتصالات أصغر من قريتى فى الصعيد[vi]  .. ولكننى فى نفس الوقت وبنفس القوة لم ولن اكون من دعاة التغافل والتساهل فى مستقبل جيل مظلوم  ..

   فالحل إذن ليس فى يد التشريع أو أى سلطة كانت إلا سلطة الآباء والامهات الغافلين  ..

   وإلى هؤلاء أصرخ: أنقذوا أبناءكم (وبناتكم)  .. أكرر (وبناتكم) من المزيد من الضياع  .. فالجيل الجديد لا ينقصه الضياع الإلكترونى عبر اسلاك الإنترنت  ..

   والحل ليس بإبعاد التكنولوجيا عن الجيل الصاعد  .. فقط تعلموا انتم لغة العصر حتى تعرفوا ماذا يفعل أبناؤكم وماذا تفعل بناتكم بالضبط  ..[vii]

 

 

 



 

[i]  تفصيل المعركة المرحة بشأن صيغة التوقيع بينى وبين الصحافى الكبير عبد الوارث الدسوقى مشرف الصفحة ..

 

[ii]  مطلوب عودة القارئ بذاكرته إلى سنة  1998 حتى لا يتعجب من حديثي عن الإنترنت كمن يكلم سذجاء.. ولمن لم يعش هذا الوقت أو كان بعيداً عن استخدام الإنترنت وقتها أُفيده بأن الإنترنت كانت عند من يسمع عنها ولم يستخدمها سحراً وطلاسم، وأما من لمن يسمع عنها أصلاً وهو من الأكثرية فكان يسأل إذا ورد ذكرها: ده اختراع جديد؟  .. فكان الذي يتعامل معها من الشباب، على سذاجة استخدامها، يعمل عمله مستغفلاً أية رقابة من الجهلاء بها  ..

 ومطلوب من القارئ أن يعرف شيئاً عني ليقدِّر التجربة الشعورية للمقال ولا يستخف بها بموازين حال المجتمع الذي كان وقتها كما هو الآن مستبيحاً منفلتاً ولا عزاء للشعارات المفضوحة الكذب  .. مطلوب أن يعرف أنني عشت محافظاً على قيمة شرف العلاقات الإنسانية والأسرية كبيرة الكبائر عندي هي "شرف البنت"  .. متدين قل  .. صعيدي قل  .. قل ولا تقل ولكن هكذا أنا  .. وكنت أظن أن أكثر الناس مثلي  .. وهذا الظن هو خطئي الذي أدفع دائماً ثمنه ولا أتعلم  ..

 

[iii]  الاسم وباقي الأسماء استوحيتها من زملاء العمل الشبان والوقائع المذكورة كانت تُروى أمامي من جانبهم  .. بل أن فكرة المقال لمعت في خاطري مع افتخار "حمادة" هذا بانتهاكه لجهاز أميرة ودعوته لحسام للفرجة  .. كان زملائي شباباً ينتهكون أجهزة البنات وكنت شاباً أكتب المقالات التي تحذر  .. وللخالق في خلقه شئون!

 

[iv]   الفرق النفسي هنا له الاعتبار الأبرز في خطورة الإنترنت، حيث أن الكثيرين تحدهم الاعتبارات الاجتماعية المعروفة دون إقامة علاقات تخالف العرف الأخلاقي الاجتماعي، وسطوة المجتمع تنبني على إمكانية التعرف على الأفراد وتحديد هوياتهم، وعند غياب هذه الإمكانية تزول المعوقات عن النفوس التي لم تتأسس في الأخلاق بفهم وقناعة  .. والإنترنت توفر إمكانية التخفي فتشجع من لا تردعهم إلا الاعتبارات الاجتماعية الشكلية دون الجوهرية  .. صحيح الواقع الراهن الذي لا يأبه للحياء يفصح بأن الإنترنت غدت في هذا الشان مجرد وسيلة لتوسيع مجال التعارف وليس للتخفي الذي لم يعد الأكثرون يبالون به، ولكن الأمور لم تبدأ هكذا أولاً ولا هي تبدأ هكذا مع نسبة كبيرة ممن يدخلها بإغراء التخفي حتى يتورط فيها  ..

 

[v]  الإمكانية الفنية قائمة دائماً  .. ولكن المقصود هنا الإمكانية الواقعية التي لم تكن متاحة قبل إنشاء مباحث الإنترنت، بل ولاتزال إلى الآن غير عملية في غير قضايا امن الدولة  ..

 

[vi]  وإلى الآن تفرض الدولة رقابة صارمة وتهدد النشطاء على الإنترنت ولكنها لا تتمكن إلا من ضبط واحد أو اثنين تكون نتيجة إيقافه نشر صفحته عبر مئات الصفحات المجانية  .. أتذكر في سنة 2000 تم حبس شهدي ابن الشاعر نجيب سرور لنشره ديوان "الأميات" بتهمة العيب إهانة الدولة، فكانت النتيجة أن صارت هذه دعاية للأميات ودعوة للعشرات لنشرها على صفحاتهم  ..

 

[vii]  قرأ زملاء العمل هذا المقال وتناقلوا أخباره وتخاطفوا الجريدة، وكان المدير ذا اتجاه مختلف عن اتجاه المقال فتصدى لي باستهزاء واضح فكان ان ناقشته وسجلت النقاش كتابة بكل دقة في مقال غير منشور بعنوان "أخلاق"، ولم يمتدحني بصدق إلا زميل  أذكر اسمه هو المهندس محمد حسن  .. وكان إنساناً خلوقاً لطيفاً  .. ليس لأنه امتدح المقال ولكن لأنه كذلك، ولأنه كذلك فكان حقيفاً بان يمتدح المقال J