الضوء .. الشارد

 

جريدة الأخبار

16 مارس 1999

صورة ضوئية للمقال

المقال نسخة آر تي إف

 

بقلم مهندس:

باسل لمعى

 

لأنني محروم من الذهاب للسينما لأسباب أخلاقية ومن الذهاب للمسرح لأسباب إقتصادية علاوة على الأسباب الأخلاقية فإن أملي الوحيد في التمتع بالدراما كان في متابعة الدراما التليفزيونية.. ولخيبة أملى فإنني توقفت عن المتابعة لأسباب فنية هذه المرة.

الأعمال المتاحة إما مملة أو سطحية أو مكررة أو جميع هذه.. حتى الأعمال التاريخية بها مغالطات وفتاوي تجعل من يتصدى لنقدها بأمانة غير قادر على الإفلات من تهمتى السب والقذف.

ولكن لفت أذني في الشهر الماضي لهجة صعيدية متقنة في مسلسل "الضوء الشارد" جعلتني أحرص على متابعة هذا العمل.. فأنا ضعيف أمام لهجة موطني الأصلي.. ثم من منا لا يشد انتباهه أجنبي يتحدث بلغته الأم بطلاقة؟ وقد عودنا عباقرة التمثيل لدينا – عندما يتصدون لأدوار صعيدية – على لهجة مضحكة هى خليط من اللهجات البدوية والبحيرية والساحلية وأحيانا تشوبها لكنة خواجاتي من ممثلاتنا الشابات.

و يتصورون أن إفراطهم في تحويل كل الحروف إلى جيم معطشة كاف للإيحاء بأنهم صعايدة جوي يا بوى.. مسلسل الشهر الماضي لم يكن هكذا.. كانت اللهجة متقنة فيه للدرجة التي أقنعتني بمتابعته.. ووجدت فيه عملا دراميا متقنا ليس في اللهجة فقط بل في أغلب جوانبه.. والعمل المتقن يستحق الإشادة ويستحق ما هو أفضل من الإشادة.. يستحق النقد الموضوعي.

***

 بداية فقط نجح المؤلف "بخبث" في أن يقلب أو بالأحرى أن يعدل صورة الصعايدة في أذهان الناس.. فتحت ستار عمل درامي يدور في الصعيد وتحت ستار شخصيات صعيدية تقليدية دس لنا المؤلف شخصيات صعيدية ذكية جدا وشخصيات ذات حسب ونسب وأصل عريق وشخصيات عاطفية.. ونجح في أن يجعل المتفرج يدور في فلك الصعايدة فيحترم هذه الشخصية ويتعاطف مع تلك ويحب شخصية ويكره أخرى.. فقدم في الشخصية الصعيدية "ذاتا" فاعلة في وجدان المشاهد لا "موضوعا" لإضحاكه أو إثارة رعبه.. وخطا بذلك خطوة هامة في معالجة الصورة الشائعة لشخصية الصعيدي فهو في العرف العام إما شخصية مثيرة للسخرية أو مثيرة للرعب.

إذن فقد أقنعنا المؤلف دون إلحاح أو مباشرة أن الصعيدي ليس هو الذي اشترى الترماى ولا هو عتريس أيضا.

بجانب هذا فإن الحوار كان عبقريا في صعيديته إذ رسم الشخصيات وكأنها أهل بلدي تفكيرا وطباعا وكلاما.

و أمام الرسم العبقري للشخصيات على الورق فإن فريق التمثيل كان على نفس المستوى.. يوسف شعبان هو الصعيدي الباحث عن الثأر بعنجهيته وإحساسه بدونيته السابقة.

سميجة أيوه هى الأم الصعيدية بنت الأصول باستثناء خطأ صغير وهو أن الأم الصعيدية لا تضحك أبدا بعد موت ولدها.. ولا تبتسم إلا مجاملة.

رشوان توفيق ود.سيد عبد الكريم ومحمد ناجي وحنان سليمان رغم ثانوية أدوارهم فقد كانوا تقريبا هم فقط الذين لم يخطئوا في اللهجة وتمتعت منهم بلهجة صعيدية نقية وسلسة.

هادي الجيار له أداء جذاب في شخصية الصعيدي الذي ليس له صفة في الحياة إلا الانتماء لعائلة كبيرة..

محمد رياض كان جذابا أيضا في دور الصعيدي القاهري الذي تعود لهجته لأصلها عند عودته لبلده.

رانيا فريد شوقي تستطيع التخفف الآن من اسمها الثلاثي فهى ممثلة من أولها لآخرها، ولا تحتاج لوضع تيكيت فريد شوقي على اسمها.

حنان سليمان خسارة في دورها الصغير وتستحق التفاتا أكبر.

منى زكى لا دخل لنا بها فهى من بنات بحرى والكلام هنا عن الصعايدية فقط.

اختيار الكادرات وحركة الكاميرا كانت مريحة جدا للعين وموفقة لحد بعيد وأعطت انطباعا بأن العرض يدور على خشبة المسرح.

***

نأتي للجانب اللي يزعل الناس من بعض.. أقصد النقد البناء.. السيناريو كان أطول من اللازم ويمكن ضغطه للنصف بسهولة والعمل الكبير كما اتفقنا يكون كبيرا باتقانه وليس بحجمه.. أتمنى ألا يكون المتحكم في مدة العمل الدرامي عاملا اقتصاديا فآفة الإبداع هو تدخل الاقتصاد.

اختيار الممثلين كان موفقا.. فقط ممدوح عبد العليم واجه مشاكل إذ كان عليه أن يحارب شكله ونغمة صوته الطبيعية حتى يقنعنا بأنه ليس فقط الصعيدي بل كبير العائلة الكبيرة أيضا.. وكممثل كان جيدا والمشكلة في اختياره للدور أساسا.. ورأيى أن نبيل الحلفاوي كان سيمتعنا كثيرا في هذا الدور.

صفيحة هبوب ويوسف شعبان فاتهما مرات كثيرة من اللهجة الصعيدية أن الصعايدة يتشددون فى نطق المقاطع الساكنة في الكلمات وليس المتحركة مثل أهل القاهرة.. يعني مثلا كلمة "حضرتك".

في بحري يضعون ثقل الكلمة في حرف الراء بينما الصعايدة يضعون ثقل الكلمة في المقطع الساكن الأول ويخطفون الراء التالية.. كما أنهم دائما يفتحون الحرف الأول من الكلمات الموزونة على فعيل أو فعيلة ولا ينطقونه ساكنا.

الموسيقى التصويرية كانت مفزعة ومقبضة.. ولا ينبغي الاحتجاج بأن الموسيقى موحية بالبيئة أو بالأحداث.. إذ يجب أن تكون مقبولة للأذن ايضا..

وبمناسبة الموسيقى فقد كان ينقص المقدمة والنهاية أغنية مناسبة.. لن أتناول القصة ذاتها ولا النهاية فالمسلسل جو درامي أكثر منه رواية ذات أحداث ونهاية..

يبقى استنتاج لي عن شخصية المؤلف: أراهن أنه صعيدي ومن عائلة كبيرة في الصعيد.. صح؟

القصة والحوار ينطقان بهذا.. حتى المشاهد الوحيدة التي وقعت منه هي مشاهد جماعة المتطرفين فالحوار الداخلي بينهم كان ركيكا وهو ما يعني أنه على الأقل لم يكن إرهابيا ذات يوم..

ويبقى أيضا اعتذار للأخوة نقاد الدراما فأنا لا أقصد "التقطيع" عليهم ولكنها مرة من نفسي للإشادة بعمل يخص بلدياتي وهي مرة لن تتكرر كثيرا، فالأعمال التي تستحق الإشادة نادرة..

انتهى كلامي عن المسلسل والكلام الآتي لجهاز التليفزيون: ما الذي يبرر بتر مقدمة العمل الفني؟ التتر جزء من العمل نفسه بالإضافة إلى أنه من حق كل من ساهم في العمل أن يظهر اسمه في مقدمة العرض..

أعرف أنه لا صوت يعلو على صوت الإعلانات ولكن الإعلانات لا تأتي للتليفزيون إلا على حس الأعمال الفنية التي تجمع الناس أمام شاشته، لذلك فمن المجحف أن تجور هذه الإعلانات على الحقوق الأدبية للفنانين.

عموما مبروك للصعايدة عمل راق يحترمهم ويحترم لهجتهم.. ومبروك للتليفزيون عمل متقن يستحق الكتابة عنه.