إثر حادث مهين

 

جريدة الأخبار

21 إبريل 1999

صورة ضوئية للمقال

المقال نسخة آر تي إف

 

بقلم المهندس:

باسل لمعى

 

إذا أردت أن تضع يدك على نقاط الضعف في مجتمع ما فعليك بقراءة صفحات الحوادث والقضايا.. فالحوادث ليست دائما بنات الدهر كما يدعوها أهل البلاغة.. بل هي في الأغلب بنات المجتمع، والاستقراء الجيد للحوادث يقود للسمات العامة للمجتمع.

وصفحات الحوادث لدينا تتحفنا من وقت لآخر بحوادث ربما لا تقرأ مثلها بهذا التكرار إلا في مصر.. والمتهم المشترك فيها دائما شخص معنوي اسمه الإهمال..

خط كهرباء مترو الأنفاق يسقط على القطار والركاب الآمنون محبوسون بداخل العربات لا حيلة لهم أمام إهمال البض.. ثم نعرف أن هناك صيانة دورية تأخرت لمليون سبب. ليس من سبب واحد يبرر مجرد ترويع أمن راكب واحد غلبان.

سقف ينهار على رؤس التلاميذ فجأة رغم أن الأسقف لا تسقط فجأة يل تتصدع وتئن طويلا قبل سقوطها.. وأنا هنا لا أتكلم عن انعدام الذمة في بنائها فهذه قضية مؤلمة أخرى ولكنني أتعجب من إهمال كل من رآها مسئولا كان أم غير مسئول، وأكتفي بالدعاء بالستر قبل دخوله الفصل وتقديم الحمد والشكر لله عند مغادرته، على أن السقف لم يسقط على رأسه أو رأس أبنائه بعد.. حتى سقط السقف فعلا..

طرق سؤيعة ضيقة ذات "اتجاهين" وبها منحنيات خطرة ويرتادها سائقون مغامرون أبطال يقودون حافلاتهم بمن فيها من ارواح كما لو كان مخرجي "هولي وود" يضعونهم تحت الاختبار لتصوير فيلم "العربة الطائشة" أو "احترس من السائق الصعيدي" وهذه البطولة الخارقة في القيادة تحتفي بها الجرائد فعلا.. ليس في صفحات الفن ولا في أخبار السيارات.. بل في صفحات الحوادث والمخالفات التي تحرر ضد المخالفين لا تنقذ أرواح الخلق ولكن يبدو أن المسئولية تقع في نطاق تطبيق العقوبة وليس الوقاية من الحوادث المتوقعة.. رغم أنه من البديهي أن السائق الذي يغامر بحياته وحياة غيره لا يبالي بالمخالفة..

ثم أن هناك إلى الآن من يفتخرون بأنهم لا يدفعون مخالفات وربنا يخلي بابي أو أنكل أو من شابه.

***

والشريك هنا أيضا هو الإهمال في وضع حلول جذرية نكتشف أنها ممكنة وليست مستحيلة عندما تزيد الأمور عن حدها ويتدخل رئيس الدولة الإنقاذ كالعادة..

قطار يرتاده في اليوم الواحد الآلاف ويشرف عليه العشرات وبه دورة مياه هشة على وشك الانهيار.. ويدرك خطورة حالتها آلاف الركاب وعشرات المسئولين وكل منهم "يتصعب" في سره على حال ضحية المستقبل الذي سيسقط تحت عجلات قطار يسير بسرعة 80 كيلو في الساعة ولكنه يحمد الله على أن قضى حاجته وخرج دون أن يكون هو الضحية.. حتى يصبح أحدهم هو الضحية فعلا.. حادثة مهينة ومخجلة ليس للضحية بل للمجتمع الذي تسوده ثقافة الإهمال..

قطارات تصطدم ببعضها فتزهق أرواح كثيرة بأعداد نشهق إذا سمعنا عن مثلها في الحروب.. ونقرأ منن بين ما نقرأ أن المحولجي لم يكن يملك تليفونا للاتصال بالمحولجي التالي!!

رغم أن التليفون المقصود هو عدة لا تحتاج لأكثر من سلك يصلها فقط بالعدة التالية مباشرة.. مهزلة!!

وسواء صح أن هذا هو السبب أم لا فإن عدم وجود عدة تليفون في أكشاك تحويل القطارات أمر مخجل.. كم ثمن الموبايل الواحد؟ ألف؟ ألفان؟ يعني ثلاثة ملايين فقط تغطي ألفى كشك تحويل بالموبايل وليس بعد بدائية وسلك بتلاتة تعريفة.

والحل؟ الحل الجذري أن نحارب ثقافة الإهمال بثقافة تحديد المسئولية.. أن يصبح تحديد المسئولية ثقافة عامة وشائعة ومغروسة منذ الصغر في النفوس.. أن يعرف كل واحد مسئولياته تجاه غيره ومسئوليات غيره تجاهه.. تحديد المسئولية التي تردع المسئولين مسبقا عن الإهمال وتخلصنا من إزهاق الأرواح إثر حوادث أليمة ومهينة لمجتمعنا..

لقد تفننا في تلحين كلمة "و أنا مالي" في أكثر من أغنية.. كما أن أسرع كلمة على ألسنتنا نفحم بها الغير هى و"أنت مالك".. وطالما لا أنا لي دخل فيما يحدث ولا للآخر دخل فيما أفعل فالإهمال هو سيد الموقف وعندما تقع الواقعة فهناك ألف وسيلة لإلقاء التهم على الغير وعند تقسيم المهام فلنترك كل المسئوليات عائمة فإذا حصلت مصيبة فالكل يأخذ نصيبه من تبعاتها وإذا لم تحدث مصيبة "إبقى قابلني"..

ثقافة تحديد المسئولية هى ما ينقصنا.. أن أعرف متى أقول وأنا مالي ومتى أقول لغيري وأنت مالك ومتى أقول له أنت المسئول وإذا لم تتصد لمسئوليتك فمسئوليتي أن أشكوك وأهد الدنيا فوق رأسك.. ساعتها ستنكمش صفحات الحوادث لدينا للثلث ونتفرغ لقضايا سبق الإصرار والترصد..

***

n   رسالة قصيرة

لبعض الصحف:

هناك صحف غير مصرية تهوى نشر الحوادث المصرية على صفحاتها باستفاضة وإحصاءات دقيقة.. ولهم كل الشكر على اهتمامهم بما يحدث لدينا وعلى اعتراضهم بمحورية مصر وشغف القراء بأخبارها كأهم دول المنطقة.. ولكن..

إذا كانت صفحات الحوادث عند البعض خالية فهذا ليس دليلا على مجتمعات صحيحة وإنما دليل على صحافة مريضة!