شمعون والقفص الذهبيّ – مقال تقديم للرواية – HTML

تحميل النصّ الكامل للرواية – Winword document

تحميل لمقال التقديم – Winword document

 

 

شمعون

Shemon

 

افتتاح

ربنا يكرم القصة دي وينفع بيها.. فيها ضرب نار لكن مغزاها خطير جداً منطقياً ومنهجياً..

لم أكتبها بعد، ولكن مغزاها كاملاً في ذهني، وسأكتبها تباعاً حلقة وراء تالية..

= علامة جُمَل شمعون..

* أي آخر يحاور شمعون..

== و ** حين إزدياد شخوص الحوار عن اثنين والاحتياج لمزيد من علامات التمييز

 

 

 

1

شمعون فريسي شاب من جيل طليعة الفريسيين يفتخر بأن أباه فريسي، والذي كان يفتخر بدوره بأنه فريسي ابن فريسي..

وعلى عكس ما اتسمت به علاقة شمعون بأبيه من ناصع فخر وتوحد رؤية، فإن علاقته بأبي أبيه كانت غائمة..
أكثر ما سأل أباه عن شئ من أصول التعليم كانت الإجابة هذا تقليد أخذته من أبي وأسلمه إليك كما تسلمته أنا..

=حسناً يا أبي ولكن ممن تسلم جدي هذا التعليم؟

*
تسلمه من أبيه الذي هو جدي الذي هو جد أبيك أو أبو جدك

=أفهم يا أبي، ولكن اسمح لي، ممن تسلم جدك الذي هو أبو جدي هذا التعليم؟

*
اسمع يا شمعون.. لقد كانت لي بالكاد نصف وقاحتك لأسأل أبي ممن تسلم التعليم فأفادني بأنه من أبيه.. ولكن هل تتصور أن أبي الذي هو جدك كانت له جسارتي بَلَه أن تكون له وقاحتك ليسأل أبيه ممن تسلم هذا التعليم؟

=إذن فالحلقة تتوقَّف عند جدك يا أبي؟

*
أو قل تتوقف عند آخر الأجيال المحترمين.. الذين احترموا آباءهم واحترموا التعليم فلم يسألوا عنه..

=عفواً أبتاه، ولكن أليس احترام التعليم أن نعلم من أين هو؟

*
وهل من احترام أبيك، وأبي أبيك، وأبي أبي أبيك، ألا تكتفي بهم وتطلب مزيداً من المصادر؟

كانت الإجابة تُعجب شمعون وتزيده فخراً وتعلقاً بأبيه، فهو يتكلم بثقة العارفين الواثقين في صحة ما يقول، ولم يحدث مرة أن كرر أبوه إجابة أي سؤال بطريقتين مختلفتين فلا شك أن تلك المحفوظات التليدة لا يأتيها الباطل،
وكان يزيده من إعجابه بأبيه وتشبثه به أنه الحلقة الوحيدة الواصلة له والملموسة بين يديه في حفظ التقليد والتعليم..

ولكن بقيت علاقته بأبي أبيه غائمة فهو لم يره، ولا هو تقبّل فكرة أن تنقطع عند أبي جده سلسلة الفخر الآبائي التليدة.. وظل يلوم في سره جده لقصوره عن الإلحاح على جد أبيه عله كان ينجح في الخروج بمصدر أبعد ينير له خفايا ظلام سلسال التقليد التليد..
ولكن لم يعطل هذا نمو افتخاره بالسلسلة الآبائية التي تبدأ من أبيه وتنتهي عند يشوع ثم موسى النبي، مروراً بحلقات خفية شغف بها وحلم وافترض لها ما افترض، وقبل ما افترضه، وآمن بما قبِلَه لهذه الحلقات الوسيطة المجهولة، دون أن يُعَيِّنها بدقة أو يقف على ما يثبت صحة أي شئ منها..


على أن هناك نوعاً آخر من الأسئلة كانت إجابته تروق لشمعون جداً جداً.. كانت تلك الأسئلة التي تأتي إجابتها بلهجة ورع فائق وتهدج يغشى لسان أبيه وهو يقول:
إجابة هذا في "هاتوراه" يا شمعون.. هاتوراه.. التوراه.. التي سلمها "هاشيم" على يد ملائكة لموسى النبي على الجبل المقدس..
بجانب روعة الإجابة وخشوع أبو شمعون وهو يتلوها بلهجة موسيقية عذبة، فإن سبب ترحيب شمعون بالإجابة كان إلحاق الإجابة بمرجع يقف عليه ويقرؤه بعينه من مصدره الأصلي..

وعبثاً حاول شمعون أن يوفَق بين النوعين من الإجابات.. كانت الإجابات من النوع الأول تجد توافقاً مقنعاَ مع نصوص التوراه والأنبياء في حدود سؤالين من عشرة.. وكانت غريبة تماماً إلا من ربط متعسف لم يرح ضمير ذهن شمعون في ثلاثة أسئلة من عشرة..
وفي حوالي أربعة أسئلة من عشرة كان شمعون ينجح في إيجاد رابط يقنع ضميره بالكاد
فإن لم ينجح كان يؤدب ضميره حتى يقنعه بالاقتناع..
ويبقى سؤال من كل عشرة، عصيّ على أي إجابة مقنعة أو حتى غير مقنعة، وكان هذا النوع من الأسئلة مريع لشمعون، ولا يملك إلا أن يتناساه حتى إذا قفز أمامه اجبره على الاختفاء بتلقين السؤال درساً قاسياً لا ينساه..

وفي هذا الخِضَمّ كانت مصادر التوراة والأنبياء عميقة الأثر على نفسه، ولكن افتخاره الآبائي كان موازياً في العمق والتأثير.. وإذا ما جادل صبياً متعالماً أو متغابياً في كُتَّاب الراباي نابال على شئ من التعليم الآبائيّ التقليدي كان يصدّر له الأسئلة التي إجاباتها مضمونة المصدرية التوراتية ويعممه في عبارات عريضة علَّمته خبرته البراعة فيها مدللاً بذلك على أن كل الأسئلة الباقية هي من مصدر توراتي..

وبقي الصبي على هذا الحال
حتى سمع عن راباي جديد لا يتبع الخط الآبائي، ولكن كان هذا الراباي الجديد الشاب على علم لا يُقاوَم بعلوم الآبائيين بجانب علومه المذهلة، على بساطة شرحها، بالأسفار المقدسة: "التوراة" و"المزامير" و"الأنبياء" و"المجالاه"..

بدأ القلق يتسرب لنفسية شمعون التي كافح كثيراً لضبطها على وتيرة منتظمة هادئة
لقد أدّب نفسه كثيراً واجبرها بعناء على الالتزام بالتناغم مع ذاتها ومع مواضيع علومه، ومع كل جديد يبدأ يتوتر تلقاءً خوفاً من ألا يجد للجديد مكاناً في الحكومة التوافقية التي فرضها على العلاقة بين أركان نفسه وأركان علومه الآبائية مُخضِعاً الجميع للتوراة وإن أبوا أو أبت التوراة..
والآن فإن الجديد الآتي مثير للخطر الشديد..
إنه أولاً يجذب العوام حوله ويلقنهم فهماً يُجرِّئهم على أسيادهم في العلوم، ويا ليتهم اكتفوا بالتجاسر بالسؤال، بل وإنهم وضعوا أولئك الكتاب المتعلمين موضع الإفلاس من الإجابات أو بكثيره موضع تقديم الإجابات بادية التلفيق والارتباك

وبدأت نفسية شمعون تتوتر وتتحفز لتلاميذ الراباي الجديد

آه ما اسم هذا الراباي الجديد؟
كان اسمه يسوع
يسوع ابن يوسف وليس يسوع ابن نون

 

2

وكان أول ما دخل يسوع بقوة وجدية فثي اهتمامات شمعون العدائية عندما قابل صديقه لاوي الذي كثر غيابه عن حضور دروس الراباي نابال، فقابله شمعون بابتسامة عابرة قائلاً له:
=لم نرك منذ مدة يا لاوي

*سلام يا شمعون.. عذراً أخي فأنا أحضر لقاءات الراباي يسوع

=لاشك أنك تمزح.. من يسوع هذا؟

*ألم تسمع عنه بعد؟ تعال وانظر

=أظنني سمعت.. ولكنه جديد وشاب ويُقال أن تقواه غريبة المذاق وغير مألوفة.. وسمعت الرؤساء يحتقرونه

*هل سمعته هو؟

=وأي جديد أتى به؟

*أتى بروح جديد وفهم عميق للناموس

=إذن فقد صدق الرؤساء لأن الناموس المكتوب موحى به وتفسيره موحى به في تقليد المشناة والتوراة الشفاهية، وليس ثمة جديد

*أنت لم تسمعه

=وأنت لن تسمعه

*من قال ذلك؟

=أنا.. وستعود لتحضر مع الراباي نابال

*لقد مللت نابال ذاك..

=ماذا يعيب نابال يا لاوي؟ أليس هو راباي مخلص وجيد الحفظ والتقوى؟

*ولكنه ليس جيد العقل يا شمعون.. وأنت نفسك تعلم ذلك وكنت تصحح له سراً بيني وبينك كثيراً..

=صحيح ولكن المهم أنه مخلص وأنه حافظ، وينبغي التنازل عن قيمة الفهم إذا توفر الحفظ وتوفرت التقوى

*لا غير صحيح.. ولا ينبغي التنازل عن قيمة الفهم ولا قيمة التأثير.. نابال تأثيره الوحيد عليّ هو الملل.. وأنت لا تمل لأنك تعصبك يعميك ويحفظ يقظاً بحرارة لفح الغيرة.. ولكني أتمتع بلقاء يسوع كشحص وبأقواله كتعليم ينير الذهن ويشعل القلب..

=إن نابال فريسي فهل يسوع فريسي؟
إنه ليس فريسياً ولن تؤهلك دروسك معه على أن تصير فريسياً..

*ولكني لست أريد أن أصير فريسياً يا أخي..

=لقد أتلفك يسوع يا لاوي.. فأرجوك أن تصبر معي ولا تتعجل الذهاب ريثما أقنعك بالعودة لجادة الصواب..

وبدت للمرة الأولى في أعين شمعون تلوح إمارات الاهتمام بلاوي لربحه مرة أُخرى للناموس والفريسية بعدما كان شبه كم مهمل في نظره.. إن غيرته قادته لدخول حرب عاتية مع زميله لاوي ليسترجعه لدروس نابال ويشعر من خلال انتصاره على تأثير يسوع عليه بانتصار حق الناموس الآبائي..

على أن لاوي لم يطق صبراً فقال له:
*لن أعود لنابال..

=إذن فإنت تهرب من المناقشة العقلية لتسير مع ذلك الجديد الذي لا يملك عقلاً

*بل أهرب من وجع القلب يا أخي.. مبروك عليك نابال ودعني

=اسمه الراباي نابال.. وأنت ملعون من أجل ...
فقاطعه:
*اصمت يا شمعون ولا تقبح.. الفم الذي يبارك لا يلعن

=أنت تتحاكم عليّ؟ من أين أتتك الحكمة؟ من يسوع الناصري الذي خرج من بلد لا يخرج منها شئ صالح ؟ عد يا لاوي معي إلى نابال ولا تكن أحمقاً

*نابال اسمه والحماقة عنده
وهو لا يملك فهماً وأنا أملّ منه، وأنت نفسك تصحح له أخطاءه وأكثر مهارة منه وأنت تعلم ذلك، ولكن غيرتك العمياء تعميك بدورها عن الحكم الصائب عليه..

=فليكن لديك ضمير صالح نحو الآباء والناموس.. ليس الفهم كل شئ

*هذا عينه ما أتعلمه من يسوع.. أثقل الناموس الرحمة والحق والإيمان..

=لا يحق لك أن تتبع يسوع

*ماذا؟ لماذا؟

=لأن الأصل هو الناموس.. ومعرفة الناموس بالآباء.. والمتسلم من الآباء هم الفريسيون الذين منهم الراباي نابال.. وهذه حلقة قاطعة الإحكام.. فإما أن تثبت لي ضعف إحدى حلقاتها وإما ان تقبلها صاغراً وتخضع للفريسيين ومنهم نابال وإن كان غبياً.. والآن فإن الفريسيين والرؤساء لم يقبلوا يسوع، وبالتالي فلا يحق لك قبوله..

*دعني امضي في طريقي يا شمعون لقد تأخرت ولنواصل الحديث فيما بعد

سار لاوي مشيعاً بغضب شمعون الذي أدرك أن الغلام قد أفلت منه، وأنه يجامله بغير صدق في وعده بمناقشة لاحقة..

ولكن لاوي لم يَسِر في سلام.. لقد سار مشيعاً بصراخ شمعون المتوالي:
=لا يحق لك أن تتبع يسوع.. المنطق يمنعك.. الضمير يمنعك
لا يحق لك... إلخ

 

3

دخل الراباي يسوع منطقة التوتر العنيدة في كيان شمعون ولم يكن مُتصوَّراً لشمعون أن يفلته دون أن يزيحه من أذهان كل من يعرفهم أو ... لا.. لا ثمة "أو" وليس هناك بديل آخر.. لا يمكن لأي واحد عرفه شمعون أن يقبل يسوع مع ادعائه أنه يقبل الناموس.. إما يسوع أو الناموس.. والناموس وحده وليس بحسب تفسير يسوع له بل بحسب الشكل الآبائي الفريسي..
ليس هناك اختيارات عند شمعون
والموقف واضح:
الناموس صحيح، وواضعه هو "هاشيم" إلوهيم، وموسى تسلمه من الرب حرفاً بحرف بدليل جبل مضطرم بالنار كما ورد صريحاً قاطعاً في التوراة المكتوبة.. وكان الموقف مرعباً وفوق حوادث الطبيعة بدليل ما ورد في التقليد أن موسى نفسه قال أنا مرتعب ومرتعد وإن لم تسجل التوراة هذه الكلمة ولكنها جاءت في التوراة الشفاهية التقليدية
وهذه الخطوة محسومة.. الناموس من الرب الإله

ثم أن الشعب عبر أجياله حمل أناس قديسون الامانة وحافظوا على المكتوب وعلى التقليد معاً ودفعوا ثمن ذلك دماءهم..
وهذه معروفة ابناً عن أب
وحتى بالمنطق المجرد، فإذا كان الرب قد أعطى الناموس أفلا يحفظه؟
إذن فالناموس الذي بين أيدينا هو هو صحيح كما هو وإلهي كما أُعطي لموسى أولاً

ماذا يبقى لدى المنحرفين إلا التلاعب بالتفسير؟ ولكن من يعطي الناموس ينبغي أن يعطي تفسيره معه
ولذلك فقد تسلم الآباء تفسير كل شئ وها هو محفوظ في التلمود
أكيد محفوظ لمن يفهم

عند هذه الخطوة الثالثة كان ضمير شمعون يعيي وتغيب عن مفرداته كلمات قطعاً وواضح وبلا شك، إذ كان يشعر في أعماقه بعدم لزوم هذه الفرضية التي حتمها أن يُعطى التفسير ويُحفَظ مع النص
كان يقلق من اختلاف الرابيين ولو كان هناك ذاك التفسير الشامل المحفوظ ما تسرب الخلاف
ولكنه كان يقبل خذخ الخطوة الثالثة على كل حال ويعتمد على غجهاد محاوره في الخطوتين الاولتين حتى إذا بلغ الخطوة الثالثة سلم له محاوره بصحتها مؤثراً الراحة

ولكن تلاميذ يسوع الذين بداوا يتكاثرون لهم مدخل مخالف لكل شئ
إنهم من البداية يطلبون ناموساً حياً ويتعكلمون دائماً عن أشياء بديهية كما يصفها شمعون ولا تحتاج للمناقشة أصلاً
الرحمة والحق والإيمان
هذه بديهيات، ولا يبقى لحفظ كل شئ إلا دراسة النصوص والمباحثات حولها وإثبات التفسير الآبائي بها
وهو ما يهربون منه أولئك البلهاء

بدأ شمعون يكرس نفسه لمقاومة فكرة ظهور تعليم جديد مهما تخفى خلف تلك البديهيات..
الجديد في ذاته خطأ مهما أقر بصحة القديم..
وهو خطأ لأنه خطِر..

أي جديد خطِر..
تغيير الشكل خطر على التقوى..
خطِر على شمعون نفسه لأنه لا يستريح إلا إذا اطمأن أن جميع الشعب يحي بالتقوى ويفهم الأمور على صحيحها كما يفهمها هو
ولو لم يطمان لذلك بنفسه فكيف يعيش في المجمع اليهودي؟
قد يقول واحد له ولكنك تفكر في نفسك فقط وتريد طمأنة ذاتك فقط فهل يكون الحق مرهوناً بك؟ غبي من يسأل هذا السءال، وغجابة شمعون الحادة جاهزة ومعدة:
=إنني لا أتكلم عن نفسي كشخص.. المفروض أن الجميع لا يطمئنون إلا بتوفر علامات التقوى والخضوع للناموس وقبول التفسير الصحيح
ولو لم يسعوا لنوال تلك العلامات لطمأنتهم فما ذلك إلا دليل استهتارهم وعدم تقديسهم لمفهوم الناموس والشعب ووحدته

ثم انتهى شمعون في تفكيره في أمر يسوع لجملة سبق أن قالها دون ترتيب في خلافه الأول مع لاوي:
لا يحق ليسوع أن يعتمد على الناموس ثم ياخذ منه مفهوماً جديداً لم يعلم به الآباء لأنه إن لم يقم الىباء بما قاموا به من حفظ للناموس بتفسيره ما كان له أصلاً أن يعرف الناموس الذي يبني عليه تعليمه
وما ينطبق على يسوع يلزم الجميع من أتباعه
لا يحق لهم
إما أن يقبلوا الناموس بتفسيره كما هو، وإما يخترعوا تعليماً جديداً مطلقاً بعيداً عن الناموس


اطمأن شمعون لقوة هذه الحجة وبدأ يتمحك ليقابل لاوي مرة جديدة ليصب في أذنه خلاصة ما خرج به من مباحثات قصيرة وحادة مع غيره من عموم الشعب الذين يكرمون يسوع
وكان شمعون يقدر تماماً أن لاي يختلف
فلاوي تابع لصيق ليسوع ولاوي على معرفة جيدة أصلاً بالنموس كزميل له في مدراش الراباي نابال ولاوي في النهاية شاب جيد وتقي رغم أنهما لم يكونا صديقان من قبل وكان بالنسبة له دائماً كماً مهملاً

الهدف الآن لاوي
وتربص شمعون به ليلتقيه ويباحثه
ولكن أين هو؟ دائماً هو خلف يسوع فكيف الطريق إليه؟

 

4

كان لاوي دائماً كماً مهملاً عند شمعون..
أو هو شئ مضمون..
فلا شئ يثير اهتمامه به..
ولكنه الآن بتعيته ليسوع صار موضوع معركة وميدانها الذي لو انتصر فيه وكسبه لجسّد فيه لشخصه انتصار الناموس الآبائي على أي محاولة انحراف عنه..
ثم أن المنطق واضح وقاطع فما هو سبب الغباء وإظلام العقل؟ ناموس مضمون وحتماً ينبغي أن يكون المسئولون عن إيصاله مضمونين وإلا كيف يصل عبر الأجيال؟ فإن ضَمنَ الرب الناموس ولم يضمن إيصاله للبشر أفلا يكون إلهاً عابثاً حاشا؟
وكيف يضمن هذا إن لم يضمن عصمة من يوصلونه على الأقل في عملهم لحفظه وتفسيره ==مهم جداً تفسيره هذه حتى لا يُترَك محفوظاً كنص مفتوح لكل من شاء ليفسره بطريقته..

فقط يبقى أن يقابل لاوي بعد أن جمَع أفكاره ليعيده لجادة الصواب وللطريق المستقيم ويكسب للتعاطف مع الآباء واحداً كان مضموناً حتى ظهر يسوع..

كيف يقابله؟
كان صعباً على شمعون أن يسمع عن شخص يخالفه فكم أصعب يكون أن يسمع الشخص نفسه، بل وكم وكم بالأصعب يكون أن يسمعه يتكلم في ذات موضوع الخلاف؟
ولكن عليه أن يذهب لحيث يتحلّق البلهاء حول يسوع حتى يجد لاوي، وحتماً سيسمع يسوع يتكلم..
صعب صعب صعب.. ولكن نار شمعون المتأججة داخله كانت أقسى..
ليذهب وسيجعل لاوي يدفع ثمن عذابه إذ جعله مضطراً لسماع شئ من كلام يسوع..

كان العيد قريباً وكان الجميع سيصعدون لأورشليم وشمعون يقيم فيها أصلاً فلن يتعب لملاحقة يسوع الذي سار لاوي وراءه..
سيأتي بنفسه وسيجد لاوي معه وستكون مباحثة مقنعة أو مفحمة بحسب ما يختار لاوي لنفسه اقتناعاً أو إفحاماً

على أن الأحداث تضخمت وتسارعت جداً.. جداً..
كان دخول يسوع للمدينة مذهل السلطان والقوة..
وشعر شمعون أن الموضوع أكبر كثيراً من حدود مناقشة صبيانية بينه وبين زميله لاوي..
لقد انقلبت المدينة وسار كل الناس وراءة واحتدم غضب المعلمين الكبار الذين اكنوا نجوم المجتمع عند شمعون..
وضاع لاوي بين كل هؤلاء..

شعر شمعون بأن قضيته جعلته كبيراً في عيني نفسه، فقد رصد يسوع مبكراً وهو مجرد شخص يعلم تعليماً منحرفاً، والىن فالموضوع كبير، أفلم يكن له حق إذن؟
لمح شمعون قريباً للاوي في خضم الاحتفال فسأله عن لاول وعرف أنه أتى فعلاً مع يسوع وأنه سيعيّد في بيته مع أبيه وأمه، فهدأ غضبه وتحول للاستثارة، فالمباحثة قريبة، ولا حاجة للاستماع ليسوع..

أخيراً وجد شمعون لاوي ليلاً داخلاً لزقاق بيته فاستوقفه:
=لاوي لي كلمة معك.. أنت ترى الىن نتيجة عمل يسوعك.. والأدلة كلها ضدك بالمنطق وبالنتيجة العملية..

*أية نتيجة وأي ضد.. كن في حالك وهنيئاً لك يا شمعون بما تفهم..

=بمعنى أنك لا تسمع لصوت العقل بله صوت الضمير..

*لا أسمع ودعني وكل سنة وأنت طيب، وأراك العام القادم كمثل هذا العام في أورشليم

=هذه تحية اليهود الأتقياء.. تريد أن أقبلها منك أجب سؤالاً واحداً

*لن أجيب شيئاً

=بل ستجيب..
واستوقف شمعون لاوي بيده بعنف فتخول لاوي له وقال:
*
لقد افقدك ضيق عقلك صوابك..

=بل هي الغيرة المقدسة.. ألم يفعل إيليا اكثر من ذلك؟ ثم لماذا لا تريد أن تواجه سؤالي؟

تغيرت لهجة لاوي وقال بصرامة:
*أولاً إيليا برئ منك وإيليا قتل أنبياء البعل الذين يشبهون معلميك
وثانياً فإن يسوع لا يقل عن إيليا في قوته ويزيد عليه أنه معلم وليس صانع معجزات فقط

=اخرس

*ومثل موسى أيضاً

=اخرس اخرس

*إذاً أخرس أنا وتبتعد أنت عني

تنبه شمعون أن ترتيبه للمباحثة المفحمة قد زاغ منه بسبب كلام لاوي الصادم فتمالك نفسه بالكاد وقال للاوي:
=لن تغير الموضوع.. واجه سؤالي

*أي سؤال؟

=عن لزوم صحة المعلمين من أجل ضمان صحة تسليم الناموس وإلا كان الرب، حاشا له، يعبث؟

قالها شمعون في نَفَس واحد من خلف ظهر شمعون الذي تأهّب للانصراف عنه، قالها في نَفَس واحد حتى يشعر بأنه أنهى مهمته وأراح ضميره إذا لم يتوقف لاوي للاستماع، فخرج الكلام متكالباً فوق بعضه البعض كأنما الكلمة تدفع سابقتها بعيداً عن أذن المستمع حتى صار كل الحديث مبهماً..

*ما هذا اللغو يا شمعون؟ أي معلمين؟ وما هو هذا الإله؟ ما هذا الكلام؟

=إذاً قف واستمع لتفهم
سأشرح لك كلمة كلمة

بدأ صوت شمعون يقترب من البكاء وهو يشعر أن منطقه القوي يعجز بسبب عناد لاوي الذي يخنق طلاقته بداخله فيضيّق الفرصة أمام منطقه للظهور بوضوح كما يستحق..
كان يكاد يبكي لشعوره بأنه وهو صاحب الحق يتوسل للاوي أن يسمعه

أشفق عليه لاوي وقال له
*تكلم يا شمعون ولكن عاجلاً لأنني يلزمني النوم لأكون غداً في الهيكل

=حسناً جداً.. ببساطة: كيف تتبع معلماً جديداً يُجْمِع كل المعلمون على أنه يتكلم بغير فهم صحيح؟ هل تعلم لو صحَّ، جدلاً، أن يسوع هو صاحب الحق ماذا ستكون النتيجة؟

*ستكون أنك ستتبعه معي..

=لا بل ستكون أن باقي المعلمين لم يفهموا الناموس

*ثم؟

=ثم تكون النتيجة أن ضمان صحة الناموس أصلاً قد ذهبت لأن المعلمين قد أخطئوا وبالتالي يصح أن من سبقهم قد أخطئوا وهكذا حتى نصل إلى أن يسوع نفسه قد بنى تعليمه على ناموس غير مضمون
إذن فلابد أن المعلمين على حق أو أن الناموس خطأ

*كلام فارغ.. الناموس مقدس، وهناك من لا يفهمونه - وهذا شأنهم، ولكنك مع يسوع ستتأكد من سمو الناموس كما ستتأكد من سمو يسوع نفسه..
ومعلموك هؤلاء الذين ترهن الناموس بصحة تعليمهم لم يجبوا على أي سؤال سأله لهم يسوع بينما أجاب هو على كل أسئلتهم

ومرة جديدة ضاعت دَفَّة المباحثة من شمعون وهو يواجه أسئلة يسوع وأجوبته التي ألقاها عليه شمعون بلهجة وديعة وبسيطة
*من تقول يا شمعون عن المسيح ابن من هو؟

=ابن داود، ولكنه ...

*سأل يسوع السؤال للفريسيين مثلما أسأله لك الآن، فقالوا ابن داود مثلك.. وقالوها باستحياء لأنهم يعرفون أن يسوع نفسه ابناً لداود، ولكنهم عثروا في تفسير النبوات ففسرها يسوع وحده..

=أفهم ماذا يفعل يسوع هنا.. إنه يلعب على مواضع الخلاف في التفسير ولكن...

*ماذا تقول عن معمودية يوحنا من الناس أم من السماء؟ لم يجيبوا خوفاً..

=آه.. إنه يضرب خارج قواعد المصارعة.. إنه يهددهم بمحبة الناس ليوحنا.. ولكن هذا لا يثبت شيئاً..

*بل يثبت أن تقياً مثل يوحنا شهد ليسوع، ويثبت أن معلميك جبناء يخشون الناس في قول الحق وهذا لم يصنعه موسى.. فأي الفريقين أقرب لموسى يا صديق؟

=أقرب لموسى من يحفظ التقليد الشفاهي عن موسى وهو تفسير التوراة..

*هذه التفسيرات فشلت أمام يسوع.. ولقد اثبت لهم أن المكتوب يخالف تعاليمهم

=أجل.. بعض التعاليم هي للتحوَط والحكمة منها أن تبالغ في حفظ الناموس..

*ولماذا تخالفه إذا كانت تبالغ في حفظه

=لا تخالفه

*ولماذا إذا كانت لا تخالفه عجز الفريسيون عن إجابة يسوع وإظهار أنها لا تخالفه؟

توقف هنا شمعون وقد احتدم داخله خلاف واضح بين مبدئين من مبادئه.. فإذا عجز المعلمون عن إثبات التفسير إذن فإن عصمتهم لديه تحتاج لمراجعة..
ولكنه قرر قراراً سريعاً أن العصمة تخص حفظ التفسير وليس بالضرورة فهمه وهذا أفضل حل للحفاظ على الفكرة دون انهيارها، وهم بشرح هذه ولكن لاوي لاحَقَه:

هذه أسئلة يسوع وبالمقابل كانت أسئلة معلميك له سمجة، وقد أجابها هو بفهم غير مسبوق..

توقف شمعون برهة لمراجعة الموقف ومحاولة إعادة المباحثة للطريقة التي رتبها مسبقاً ليصل بها للنتيجة القاطعة، ولكن لاوي لاحقه:
*هل تعلم يا شمعون عن الصدوقيين أعدى أعدائك
لم يعرف فريسيوك أن يجيبوهم ولكن يسوع هو الذي أجابهم وأفحمهم وأثبت لهم القيامة من التوراة بكلمة واحدة قالها لهم إن الرب ليس إله أموات بل إله أحياء..
ولكن التفِت لأن معلميك لم يختلفوا في شئ عن أعدائك الصدوقيين.. نفس طريقة السماجة في الأسئلة.. لقد سأله الصدوقيون لمن من أزواجها تكون المرأة في الملكوت؟ كشف لهم يسوع أن الملكوت ملكوت ملائكة فلم يجدوا إجابة..
هل اختلفت سماجة السؤال عن سماجة الفريسيين في معايبة يسوع على أكل تابعيه في الطريق وهم جياع وتعابى قمحاً دون غسل أيديهم؟
سماجة من الصدوقيين في فهم السماويات لا أسمج منها إلا سماجة الفريسيين في فهم الأرضيات..

جمَع شمعون أشتات الحديث ليلخص شيئاً فقال:
=واضح يا لاوي أن يسوع اعتمد على خلاف التفاسير ليظهر انتصاراً غير حقيق..

*أها.. فها أنت ترى أن التفاسير تختلف.. فلماذا لا تُفسح لتفسير يسوع مكاناً بين التفاسير؟ الوقت تأخر وسأمضي..

=بل ينبغي استكمال المباحثة! ولو تابعتني من البداية دون مقاطعة فسنصل للنتيجة..

*فليكن ولكن ليس الآن.. صحيح.. لما لا تأتي وتستمع ليسوع بنفسك؟

=سآتي لأفحمه..

وعاد شمعون محبطاً أن ترتيبه للمناقشة قد تبعثر بسبب تلك الأحاديث التي دارت بين يسوع وبين الفريسيين كما نقلها له لاوي..
عاد وقد اتسعت دائرة نقمته لتشمل أولئك الذين لم يقدروا على يسوع بعد أن كان ناقماً على يسوع وحده..

وقد رتَب في ذهنه أن يحسم المباحثة تماماً مع لاوي في المرة القادمة بعد أن أخذ خبرة في طريقة فهمه وزادت معرفته بمنطق يسوع..
عاد وهو مصمم أنه سينتصر للمعلمين الأغبياء وغن فشلوا هم في الانتصار لأنفسهم
وسيفعل ذلك من اجل الناموس الىبائي وليس من أجلهم
عاد وهو مُترقِّب للمباحثة القادمة
على أن الأحداث قد تسارعت جداً

 

5

كان شمعون بطبعه وديعاً محباً للسلام خلا أن يتصادم الأمر مع قناعته في شأن الناموس والآباء.. وهنا لا يزيد عنفه عن رفع الصوت وعبوس الوجه..
ولم يكن يتصور أن أمر تربصه بصديقه لاوي لاستدراجه لمباحثة ينتصر هو فيها ستصل به لما شاهده من بشاعة

احتفل شمعون مساءً بالفصح وفي غد الفصح خرج مبكراً للاحتفال وهو يمني نفسه بلقاء لاوي عله ينجح في إقناعه بقبول الجلوس معه في مباحثة جديدة ينتصر فيها شمعون للناموس بحسب المعلمين المعروفين وضد يسوع وما يقال عن منهجه الجديد في شرح الناموس

كان يضايقه زحام العيد وهو لا يريد أن يرى إلا هدفه لاوي..
ولكن حدث شئ..
بل حدث كل شئ..

كان أتباع الكهنة بل وبعض الكهنة ينتشرون بين الجموع يجمعونهم للهتاف ضد يسوع..
هناك أمر خطير..
وجمع شمعون من الناس أشتاتاً من الكلام حصيلته أن يسوع قد قضى الليل كله يُحاكَم وأن رئيس الكهنة الجليل قيافا قد أسلمه لبيلاطس وأن الكهنة يستحثّون الشعب لمناصرة حكم رئيس الكهنة بالمطالبة بصلب يسوع

اصطدم هذا المطلب بنفس شمعون الرقيقة
ليس بأقل من عنف اصطدام المحاكمة الليلية بعقله الناموسي
يقولون أن يسوع قد حوكِم ليلاً وهذا ضد قواعد الناموس الآبائي الذي احتوى خلاصة الحكمة والتعاليم الشفاهية المضافة للناموس المكتوب

وبينما يحاول شمعون أن يصيح عبثاً بأنه ضد يسوع ولكن لحساب الناموس وليس على حسابه
وأن نقض الناموس من رئيس الكهنة يضر به بأكثر مما يُنسَب ليسوع من ضرر
بينما يحاول شمعون محاولاته الصبيانية الممتلئة غيرة صادقة سمع واحداً من الناس يهزأ به ويقول إن هذه شكليات إن كانت المحاكمة ليلاً أم بعد صياح الديك أم نهاراً فالأمر أمر تجديف حتى أن رئيس الكهنة قد مزق ثيابه

سمع شمعون هذه الكلمة فتصايح مرة جديدة وبصوت أعلى أن الرجل كاذب وينقل أخباراً لا يدري عن أصلها شيئاً فملابس رئيس الكهنة مقدسة وممنوع عليه ناموسياً أن يمزقها..

فتلقف صيحاته آخر وقال:
&هذا في الأمور المعتادة ولكن الأمر جل خطير فلقد جعل يسوع نفسه ابن المبارك أو المسيح المنتظر!

سمع شمعون كلمة "مسيح" فارتعدت فرائصه خشوعاً فالكلمة مقدسة جداً.. وهو لم يسمع بأن يسوع ادّعاها لنفسه قبلاً.. ولكنه تذكر مبالغات لاوي وتعظيمه ليسوع فوق موسى وإيليا!


ولكن هبْهُ فعل ذلك، وإن كان من الجنون تصديقه، أفلس في الناموس ما يكشف صدقه من كذبه؟
اختبار الناموس معروف: تُفحَص نبواته ويُرى إن كانت قد حدثت أم لم تحدث..

هنا ومرة جديدة تذكر شمعون الكثير مما سمعه عن قوات ومعجزات يسوع والتي كان دائماً يتجاهل فحصها تحت شعار أن في الناموس ما يكفيه من الحق وأن خلافه مع يسوع ليس شخصياً أو فيما يخص تقواه، ولكن لب قضيته هو فيما يخص التهديد غير الحكيم الذي تشرعه مبادئ ومنهج يسوع بمنافستها الخطيرة والصميمة للشرح السائد للناموس، بشروح جديدة لا لزوم لها,,
والآن مع إعلانه أنه المسيح فهو يلزم كل الناموسيين وكل الغيورين بعدم تجاهل أمره بحكم الناموس نفسه:

نعم إن تجاهلها غير مقبول ناموسياً..
إن الرجل، إن كان صدقاً ما قيل أنه ادعى أنه المسيح، يستلزم أمره فحصاً ناموسياً وإن سابق ما شاع عنه من معجزات يجعل الأمر جاداً جداً جداً..

فإن ثبت كذبه فليستحق ما يجري له...

اشتعل شمعون غضباً ليس من ادعاء يسوع، ولكن لأن خصمه يسوع لا يلقى معاملة ناموسية سليمة..
إنه لن يقدر أمام ضميره أن يدين يسوع لصالح الناموس بينما أن من داس الناموس هو رئيس الكهنة رابوني قيافا الذي كان يجله جداً ويقدسه فوق المعقول..

وهذا شأن الأمناء للمبدأ دائماً.. إنهم ينقلبون في لحظة من أشد الخصومة لأشد الدفاع عن حق الخصم، طالما كان المبدأ الذي من أجله قامت الخصومة هو ذات المبدأ الذي يعطي للخصم حقاً ما..

 تحوّل منظر وهو يصيح شمعون للجنون في المشهد المجنون أصلاً ..

وبينما أُصيب شمعون ببحوح صوته من الصياح الذي يلاحق به ناموسياً صياح الجموع في معركة صوتية غير متكافئة بدأ الناس يتآلفون معاً وتتكون من صيحاتهم المنهمرة غير المفهومة عبارة هي الوحيدة المفهومة من بين الكل
اصلبه اصلبه اصلبه اصلبه اصلبه

عادت الكلمة تصدم نفس شمعون الرقيقة لاسيما بعد تجمع أسباب غضبه الناموسي ضد رئيس الكهنة والتي عملت بقوة لتجذب تعاطفه، وإن قليلاً، تجاه يسوع..
وكانت مسيرة الجموع تحمل الجميع معها وإن لم يكن طريق الجموع طريقهم..
ومن هؤلاء المحمولين على غير وعي كان شمعون حتى وجد نفسه خارج دار الولاية..
وهناك سمع آخر ما جعله يشتعل غضباً حتى بكى...
لقد سمع الجموع يردون على بيلاطس الحقير سفاك الدماء بوقاحة ودناءة نفوس فيقولون ليس لنا ملك إلا قيصر!
كان شمعون يفهم أنهم يريدون إحراج بيلاطس ولكن ليس كل ما يفهمه يقبله..
ألأنهم يريدون إحراج بيلاطس يستذلون ويستذلون أنفسهم لقيصر؟
إن الناموس الآبائي لا يعترف بسلطان غير اليهود على اليهود
ودائماً في تاريخ الآباء الأماجد كان تسلط غير اليهود عليهم أمراً لم يقبله اليهود إلا عاجزين عن صده..
ودائماً كان الرب يقف مع شعبه في النهاية..
وما حكم الرومان إلا حلقة من تلك الحلقات الشيطانية..

هكذا تعلم وهكذا يؤمن..
فكيف بأولئك الرعاع يقولون إنه لا ملك لهم إلا قيصر؟
وتحت قيادة الكهنة ضعيفي العقول وأغبياء الضمائر؟
ضبط شمعون نفسه يصف للمرة الأولى جموع الشعب بالرعاع ويصف الكهنة بغباء الضمير وهو الإسرائيلي حقاً لا غش فيه..

ولكن صيحة بدناءة أنه لا ملك لهم إلا قيصر ليست أمراً سهلاً

اصمتوا اصمتوا!
ومرة جديدة ضاعت صيحات شمعون بين هدير الجموع..
ولم تصل صيحاته إلا لقلائل محيطين به صفعه بعضهم ودفعه البعض الآخر.. ولم يخرج من بين الجموع قبل أن ينال بعض البصقات..

خرج شمعون مهاناً وهو الذي كان يصيح لغيرة على الناموس أعظم من غيرة كل هؤلاء مجتمعين..

لعل مقابلة رئيس الكهنة ومواجهته بكل ذلك تهوّن بعضاً من الأذى..
والآن وهو بين الإحساس بالغضب العارم للناموس والإحساس بالمهانة الشخصية مما حدث له، عزم شمعون على التوجه للكاهن العظيم قيافا وليرى ماذا يكون جوابه على ما اعتمل في نفس شمعون من الغضب المقدس..
ولكنه عاد لبعض عقله في الطريق، وهو يتحسس آلام ما ناله من الجموع، واقتحمه التساؤل: هذا حال لطمات الجموع الجائعة المتهافتة بالأيدي العارية، فكم يكون الحال مع جنود رئيس الكهنة؟

عاد شمعون ليختبئ في بيته...
مم؟
لم يكن من خطر يهدده شخصياً ولكنه شعر بالحاجة للاختباء
لعله من مواجهة المزيد من التعدي المفضوح على الناموس ولتجنب المزيد من غباء هذا الشعب الذي طعن القلب الناموسي لشمعون في ساعة نهار واحدة بأكثر مما فعل يسوع طوال فترة عمله

شخص واحد فقط أراد أن يقابله ليتبرأ له من كل ما حدث من مخالفة للناموس:
لاوي..

وفي طريقه للعودة لبيته زاد عليه أمر جديد جعل مأساته حصاراً خانقاً:
إن الكاهن العظيم ليس أمراً عبثياً..
وإن يقينه بردو رئيس الكهنة المفضوحة عن الناموس لا يسهل على شمعون أن يدينه عليها وينفّص بالدينونة عن غضبه بالسهولة التي اعتاد بها شمعون أن يدين جميع المخالفين حتى يسوع..
ومهما يكن من أمر فإن حكمه على رئيس الكهنة لن يمر سهلاً على نفسه.. وعليه ان يستعد لصراع مرير وخطير قد يفتك به من الداخل..
وكان يسمع نفسه يصيح بمرارة في داخله:
لا يحق لك أن تدين رئيس الكهنة!.
لا يحق لك!
إن المأساة خانقة ولا مفر..
يحتاج أن يموت ويُخلَق من جديد..
فليسرع بالعودة لبيته ليختبئ أو يموت حتى يأتي الخلاص من قبل الرب المتطلع على أعماق القلوب..
يااااااااااا رب!
وبهذه الصرخة المرة عاد شمعون لبيته...

 

6

جاز شمعون جحيماً لا يمكن تصوره..

كان قد بدأ يغيّر فكره عن يسوع..

فبحسب الناموس لا يمكن أن يكون يسوع مخطئاً على الأقل فيما نُسِب إليه من تهم..

ولو صح أنه ادعى أنه المسيح فلذلك أسلوب ناموسي للفحص..

ولو صح أنه ادعى أنه ابن الإله فإن الفكرة نفسها مقبولة من نصف المعلمين اليهود من حيث المبدأ ومن كل الفريسيين تقريباً، ومن يخالفونها هم أعداء الفريسية الأغبياء من الصدوقيين مع بعض الفريسيين ضعاف التمكن من الكتب.. ولا عبرة بالعوام من الأصل أياً كانت ميول أذهانهم..

 

ولكنه لو قبل يسوع إذاً فعليه أن يرفض رئيس الكهنة..

ولكن هل رئيس الكهنة معصوم؟

ولكن لو لم يكن معصوماً فهل يتخلى عنه الروح القدس، وهو رئيس كهنة؟

ثم هل كان رئيس الكهنة بمفرده؟ ألم يكن معه مجلس كامل من عشرات الفطاحل والجهابذة؟

 

ولكن ما له وهؤلاء الجهابذة وقد قبلوا بدم بارد مهانته بادعاء أن لا ملك لهم إلا قيصر؟ ولا أعظم من ذلك مهانة!

 

ثم ماذا عن نظريته المُحكَمَة الراسخة:

"لكي يكون الناموس صحيحاً ومُعطى بحق من يَهْوِيِهْ فيلزم أن يَهْوِيِهْ يحفظه،

ولكي يحفظه يهوه فيلزم أن يحفظ تفسيره،

ولكي يحفظه مع تفسيره فيلزم أن يعصم أولئك المفسرين له والذين حملوه من جيل لجيل،

وليست هي عصمة شخصية ولكنها عصمة فيما حملوه من الناموس فإن أخطئوا في هذا فهي أخطاء سهو هين لا يجمعون جميعهم عليها"..

 

جحيم من الأفكار ورعب اجتاح شمعون خوفاً من أن يصحو فيجد نفسه بلا ناموس بلا معلمين بلا صخرة يستند عليها..

 

بالكاد تابع شمعون في عزلته بعض الأحداث التي تحدث خارجاً:

سمع عن إشاعة قيامة يسوع فازداد ضيقاً..

وسمع عن حلول الروح القدس على تلاميذ يسوع ثم قبول الجموع الكثيرة لتعليمهم..

وفي كل مرة يزداد ضيقه أكثر فأكثر ويصرخ في وجه من يخبره بشئ أو حتى من يسمعه يتحدث عرضاً لغيره عن شئ من هذا..

كان يود أن المعطيات لديه تبقى قليلة حتى لا تزيد معاناة أفكاره..

 

وفي نوبة من نوبات ضيقه وهو على سطح بيته مختبئاً في عليته سمع صوت أقدام صاعدة على السلم الخلفي الذي يقود للسطح فخرج ساخطاً مُعِدَّاً نفسه للصراخ في وجه من يصعد..

فوجده لاوي..

 

نظر إليه نظرة عجيبة لم يحدث قبلاً أن رآها لاوي ولا غير لاوي تطل من عينيه..

ولا هو شمعون نفسه فكر يوماً أنه سينظرها لإنسان مطلقاً..

كانت نظرة توسل!

نظرة مُعَذَّب كاد اليأس أن يغلق كل النوافذ أمام عينيه وقلبه ومع ذلك فخناك فرجة ضيقة جداً رآها في عيني لاوي وهو صاعد فناشد تلك الفرجة بهذا التوسل الذي قفز زاعقاً من عينيه..

 

وقابل لاوي تلك النظرة بنظرة شفقة..

وكانت تلك الشفقة مكافأة جيدة لشمعون ومشجعاً له أن يحاول محاولته الأخيرة مع لاوي/ ولكن في أرض جديدة هذه المرة..

 

أرض من يطلب المساعدة لا من يفرض الحقائق..

وبدأ أخطر حوار في حياة شمعون..

فهل انتفع به؟ أم أخذ بعضه وفاته بعض؟ أم فاته كلية؟

هذا هو السؤال..

 

7

تقدم شمعون برجاء الشحاذ نحو لاوي وهو يقول له:

 

=اسمع سنتباحث ولكن بطريقة

"نحن معاً ضد المشكلة"

وليس بطريقة

"أنا ضدك حتى تؤمن بي"..

 

*رويدك.. اطمئن عليك أولاً..

 

=لا طمأنينة طالما يخزني الشك وتتلذذ بي الحيرة..

 

*لقد أصبحت شاعراً ومغنياً..

 

ابتسم شمعون ابتسامة مجاملة ثم صاح بعصبية:

 

=هل ستساعدني أم لا؟ الضحك له وقته وسنضحك كثيراً ول حللت مشكلتي، ولكن يبدو أنني لن أتذوق الضحك مرة جديدة

 

*مهلاً يا صاحب.. ماذا دهاك؟

 

=أنا على وشك أن أصبح "لا يقين"..

 

*لماذا؟

 

=يسوع نبيكم قد صُلِب فمات ميتة عار وصار "قليلة يَهْوِيِهْ" ولا يمكن أن يكون نبياً بحق، بدليل موته.. حتى لو كان قد قام كما تقولون.. وقبله فقدت الثقة برئيس الكهنة قيافا.. يبدو أن معك حق في أن الرب لا يعتبر أولئك الكهنة والناموسيين، وفارقهم حتى أن تعليماً وحقاً لا يؤخذ منهم باطمئنان..

 

*من قال لك بأننا أو بأنني تحديداً أفكر في هذا؟ أنت لا تتغيّر، فإما تقبل الكل او ترفض الكل أن تدافع أو تنقلب.. هذا صحيح مع امور ولكن أمور أُخرى تحتاج للرويّة والانتقاء.. ومنها أمر فهم كلام الرب وناموسه.. إن قيافا رئيس كهنة من قِبَل الرب، وحقاً لقد رفض مسيحه يسوع ولكنه كان رئيس كهنة وحتى في حكمه على يسوع، إذ كان رئيس كهنة في تلك السنة قال قولة لا يقولها إلا بتدبير الروح القدس..

 

=ما هي؟

 

*قال إن خيراً أن يموت يسوع عن الشعب.. وهذا حق.. لقد مات يسوع فداءً للشعب كله..

 

=ولكن كلام قيافا وإن أصاب موضع الحق فبغير قصده، إن كان المعنى كله حقّيقيّاً أصلاً..

 

*العبرة ليست بقصد قيافا، وإنما بأمانة الرب..

 

=فلماذا إذا كان يتكلم الروح القدس على فمه يصلب يسوعكم ويخالف الناموس كل تلك المخالفات لا مشاحة غن كان يسوع صادقاً أم لا

 

*لم أقل إن الروح القدس تلكم على لسانه بالمعنى المعروف.. ولكن قلت أن الكلمة التي قالها هي كلمة حق وهي بتدبير الروح القدس..

وأما لماذا صلب يسوع وخالف الناموس فهو الحسد الظاهر والخوف بجهل على الشعب..

 

=هذه فكرة جديدة.. تقول إن الرب يتكلم على ألسنة الحاسدين والجهلاء؟

إذاً فالرب حاشا يتكلم جهلاً؟ لأن الجهلاء يتكلمون بالجهل!

 

*حاشا يا شمعون.. الجاهل يتكلم بجهله، ولكن الرب يحوّل في وقته وعند لزوم المعنى كلامه إلى معنى لا يقصده هو نفسه.. عندك بلعام مثلاً..

 

=إن في هذا لعجباً.. فكيف يميز السامع بين كلام الجاهل وبين كلام يتدخل فيه الرب؟

 

*بروح الإفراز والتمييز الذي يعلو صوته ويُسمَع إذا   توفرت الأمانة..

 

=لحظة.. توقف.. أنا مرتبك وأنت تزيد ارتباكي بأفكار جديدة..

 

*بل أنت قريب من الفهم.. أنت لست مغيباً عن الصورة.. أنت لست آلة لحفظ ما يقوله الآخرون.. أنت لك عطية من الرب الذي خلقك على صورته.. أنت تمتحن الأرواح وتميز..

 

=ولكن معنى هذا غياب المقياس الواحد الصارم الذي يضمن الصحيح من الخاطئ..

 

*حتى الناموس الذي بطبيعته محدد في نصوص افعل ولا تفعل يحتاج لتمييز الشخص ليفهم فيها الرحمة والحق والإيمان..

 

=لا أفهم!

 

*ولكن لماذا يكون مقياسك للصحيح هو كلام أشخاص محددون في مناصب محددة؟

 

=لأن الرب اختارهم لهذا..

 

*لقد اختارهم لعمل وليس لضمان..

 

=عمل الرب يكون مضموناً..

 

*عمل الرب وليس عمل إنسان.. والرب يعين بشراً لمشاركته العمل ولكنهم يبقون بشراً؟؟

وأنت نفسك بشر ولك عمل تجاه نفسك..

 

=عملي أن أقبل كلام من عملهم هو التكلم باسم الرب والجلوس على كرسي موسى..

 

وإذا قال شمعون تلك الكلمة "كرسي موسى" اشتعلت نفسه بدفء قديم لموضع فخر أثير جداً في نفسه..

آه.. ألعله يعود للاستمتاع بتلك الكلمات دون شك وحيرة جديداً؟

أفاقه صوت لاوي الذي لاحقه:

 

*يسوع نفسه قال ذلك ولكن لمن؟ لجموع لا تقرأ التوراة لأنهم عاميون.. ولا فرصة لهم لسماع التوراة إلا من أولئك الكتبة

ولكن عن تعاليم الكتبة الخاصة بهم والبعيدة عن وقوفهم على كرسي موسى لقراءة الكتب المقدسة فإن يسوع فضح الكثير من الأمور الدخيلة التي لا تنتمي للناموس ولا تُقرأ من على كرسي موسى..

 

=إذا تخلى الرب عن الكتبة والناموسيين وتركهم لإضافة تعاليم دخيلة يكون ليس أميناً حاشا للحفاظ على الحق الذي نأخذه منهم..

 

*الرب يضمن لنا حفظ الحق لمن يطلبه ولكنه لم يضمن لنا شخوص الكتبة والفريسيين الذين يرون الحق بطريقة بها عيوب كثيرة ليست من الحق..

 

=هذه طرق مائعة تجعل الحق متغير بحسب الشخص..

 

*بل الحق واحد ولكن لا سبيل لمعرفته إلا بإنارة الرب في قلب الواحد..

 

وضع شمعون يديه على رأسه وقال:

=لاوي.. أنا شمعون أسمع الكلام، وأنت لاوي تلتوي لتقترن بشخص..

أنا أسمع الناموس وأنت تقترن بيسوع..

ولكن أنا أحتاج للمساعدة.. وأنت قلت كلاماً كثيراً به ما يدمر كل شئ والحق أنني مستعد لقبوله لو كان صحيحاً ومضموناً ويضمن لي معرفة الحق..

دعني أرتبه في رأسي.. كفى كفى الآن.. تقول إن كل واحد يمكنه معرفة الحق؟ كيف بلا كلام محفوظ مضمون له أناس معروفون يقولونه يضمنهم الرب؟ كيف؟

 

بدا صوت شمعون يرتفع ويتكلم بحدة.. كان يرى أن كلامه بديهي ولكنه وياللعجب يقود لخلاف البديهيات، كلام سهل يخطو به بيقين في الطريق ليتركه في وسط لا مكان..

سبب له هذا التصور أنه يسير بيقين يقوده بكل ثقة حتى قمة الحيرة، سبب له الشك في اليقين مفارقة عجيبة زادت من ألم الحيرة ولعل حدة صوته كانت ليوفق هذا الأمر غير المتوافق بالجبر بقوة النبرة:

 

=إذن فأمي وأمك وكافة غير ذوي العلم كل واحد يخترع لنفسه فهماً ويضيع كل  شئ؟ هل هذه هي النتيجة يا لاوي؟

 

*هذا يخص السفهاء ولكن ليس العقلاء أمثالك..

أنت تريد أن تلزم نفسك بصورة معينة لمجرد خوفك من أن تصير تلك الفسحة التي لك عذراً لضعاف العقول في تبديد الناموس؟ هل هكذا تفكر يا شمعون؟

 

للمرة الأولى رأى شمعون عبارة تحسن توصيف فكره فقال مغمغماً وقد هدأ:

=أجل.. شي كهذا.. ولكن...

 

*ولكن الرب لم يحفظ الناموس بطريقتك، ولم يضع ضماناً لكاهن ولا رئيس كهنة.. يا أخي لقد قال رئيس شعبك لا تقل فيه سوء.. أليس في هذا إشارة لسوء يمكن أن يُقال وقد حفظ الرب كرامة كهنته بتوصيته للناس بعدم إشاعة المذمة عليهم، فيما يشير في ذات الوصية لما يمكن أن يكون سوءً منهم..

 

=ولكن رئيس الكهنة؟؟؟ شخصيّاً؟ ألا يختلف عن أي رئيس آخر؟

 

*وماذا عن عالي الكاهن؟

 

=حتى عالي الكاهن كان تقياً.. هذا مثل ضدك..

 

*صحيح تقيّ، ولكن له أخطاء وقد قبل الرب طفلاً هو صموئيل بدله.. نعم كرّمه لحد وفي جوانب ولكن لنا فيه مثال بأن رئيس الكهنة قد يقصّر في عمله حتى في أهل بيته.. حتى صموئيل نفسه فسد أولاده..

 

=لحظة.. أنا أفهم هذا ولا أتكلم عن أمور سلوك شخصي.. قضيتي هي حفظ الناموس.. العصمة فيما يخص ناموس الرب لا سلوك البشر..

أقول هذا.. أو كنت أقوله.. وأما الآن فكل شئ منهار أمامي..

بناء شامخ أفسده قيافا هذا.. هذا المخالف للناموس..

ماذا كان يضيره أن يحاكم يسوع بصحيح الناموس وننتهي وينتهي ألمي بل ما كان لينشأ اصلاً..

اصمت قليلاً يا لاوي ودعني أبث لواعج ألمي..

آااااااااه..

 

زاد إحساس شمعون بأنه يتدحرج من فوق جبل حجارته مشققة ومتساقطة وهو يبحث بذعر عن أي صخرة يطمئن لثباتها لكي يمسك بها ويوقف تدحرجه وسقوطه..

ومع جملته الأخيرة شعر كأنه قد وصل لمنحدر الجبل وعلى وشك الصدمة الأخيرة العنيفة..

لقد قال كلمة صعبة عن رئيس الكهنة ما تصور أنها تخرج من لسانه.. وما كانت بقية جملته ودعوته للاوي بالصمت إلا محاولة يائسة لتغطية بشاعة الكلمة على نفسه وكأنه كان يدعو نفسه هو للصمت لا لاوي..

 

الآن قد فرغ من كل ذلك الجبل الذي تدحرج من فوقه ولكنه يخشى الاصطدام ويعز عليه الناموس..

نظر للاوي فوجده ينظر بحنو وثقة فتشبث بثقة لاوي لعله يحظى بمثلها.. كان يبحث عن الحق أي حق وعن صخرة اتكال أي صخرة فعاد للحديث عن يسوع مستفزاً لاوي:

 

=حتى يسوعكم لقد فحصته كثيراً بيني وبين قلبي في الأيام الماضية وكدت أقبله ولكنه مات مصلوباً.. ملعوناً "قليلة يَهْوِيِهْ"..

 

*ألم تفهم يا شمعون؟ يا نابه إسرائيل؟ لقد اختاروا له تلك الميتة ليصموه بهذا المعنى.. هو أمر مدبر لكي تقول ويقول امثالك هذا الكلام وينفضون عن يسوع..

 

=فليكن.. ولكن النتيجة واحدة.. لقد نجح تدبيرهم ومات مصلوباً والمعلّق ملعون..

 

*انظر له من وجهة نظر الرب الذي يجري تدبيره من خلال تدابير البشر، ويقودهم لحيث يريد.. بينما طنوا وأنهم يجرون تدبيرهم فإن إلوهيم كان يجري تدبيره هو لكي بحمل خطايانا في جسد مسيحه فيغفرها ويفدينا منها..

 

=حتى لو صح هذا اللغو الذي أراهنك أنك لا تستطيع شرحه.. فلماذا يموت؟

 

*ولكنه قام

 

=هذه قصة أُخرى أحب أن أسمع عنها، ولكن ليس قبل أن أفهم كيف يكون المصلوب نبياً بل بل اكثر من نبي بل (تشنج قبل ان ينطق بالكلمة المقدسة ليقول) بل المسيح نفسه؟

 

*هذه قصة لا أُحسِن أنا شرحها وإن كنت افهمها بقلبي.. أنت حجتك قوية هنا.. ولكن ضع أمامها أنه قام.. هبه كان ملعوناً وهي كلمة لا أستسيغ مجرد نطقها على يسوع، ولكن هبه كذلك...

 

قاطعه شمعون بقوة:

=لا "هبه" هنا.. هذا نص قاطع..

 

*حسناً ولكن ضع أمام الصليب القيامة.. فلو لُعِن على الصليب لكنه بورك بالقيامة.. والعبرة بالخواتيم..

 

=ولكن اللعنة لا تجوز على النبي فضلاً عن أن يكون... لا لا لن أكرر الكلمة المقدسة، لا تجوز عن النبي ومن هو أعظم من النبيّ ولو للحظة..

 

*هذا قولك أنت.. ولكن أين هو من المكتوب؟ والحق أن أمر الصليب يحير الكثيرين من أتباع يسوع، وهناك كلام يُقال لا يفهمه الجميع.. وتكسب الرهان الذي قلت عنه لو طالبتني بشرحه.. ولكن الحق جلي وبيّن من نواحي كثيرة رغم كل شئ فهل نرفض ما نفهمه بيقين بسبب بعض ما لا نفهمه؟

 

=أي كلام صحيح كان ام باطلاً عندما يظهر لاحقاً للحدث افهمه أنه يحاول تبريره.. الصحيح لمن يشهد له الناموس أن يتنبأ عنه المكتوب أو يتنبأ هو نفسه عن نفسه النبوة التي من نوع الغخبار بالمستقبل القاطع الدلالة عما سيحدث في المستقبل.. لتكون هذه آية لا جدال فيها..

 

*أمر آخر مهم يا لاوي حدث فعلاً لم أسبق أن قلته لك في اندفاعك في الكلام.. لقد تنبأ يسوع فعلاً عن صليبه، وكل تلاميذه كشفوا عن ذلك بعد قيامته.. وصار أمراً معروفاً.. قد لا تصدق ولكني اصدفهم، ولو عرفتهم لتأكدت من صدقهم.. ولو فكرت حتى دون أن تعرفهم لأيقنت أن لا منفعة لهم في الكذب بل كل المضرة والإيذاء والاضطهاد.. فهل يجلب الواحد على نفسه المتاعب بكذبة يعلم أنها كذبة ويعلم ما ستجلبه عليه من متاعب قبلاً، ثم يصرّ عليها رغم كل شئ؟ يا أخي هناك من يرتد عن الحق إذا جلب عليه المتاعب، فما بالك بالكذب؟

وهم عموماً يشرحون معنى الصليب فلعلك تفهم منهم ما لم أفهمه أنا..

 

كانت هذه دعوة مضمنة لشمعون ليحضر لقاءً مع تلاميذ يسوع.. وعلى سيرتهم أكمل لاوي فقال مشجعاً شمعون:

*وهم كل يوم في الهيكل يصلون

 

=أيصلّون هم في الهيكل؟

 

*إنهم رجال إخوة يهود أتقياء يا شمعون..

 

أراح هذا شمعون كثيراً..

وبدا عليه أنه وإن كانت في نفسه أشياء كثيرة، ولكنه تقبّل دواء يسوع المر بسبب ما هو أمرّ..

للصدمة العنيفة التي كانت له في قيافا مخالف الناموس..

ولعل يسوع يحب الناموس أكثر من قيافا ويحفظه أفضل منه..

ولعله هو لو ذهب وسمع يتيقن من هذا فيستريح..

 

إنه يريد حق أي حق على أن يكون حقاً..

إذاً فلقد وافق أن يذهب مع لاوي..

متى؟

الآن.. الآن.. وخرج ورجلاه تتأرجحان من طول المكوث جالساً، وتتوهان يميناً ويساراً من غربة صنيع ما سيصنع على نفسه، ولكنهما رغم كل شئ تتقافزان من الحماسة..

لعله يجد الخلاص من الشك..

 

وفي الطريق خطرت لشمعون فكرة فقالها للاوي بخجل:

=أرى أنه حتى لو كان يسوع نبياً ومسيحاً حقاً فلا حق له أصلاً أن يكون!

 

قابله شمعون بابتسامة مستخفة وقال:

*ما هذا الهراء؟ ثاني يا شمعون؟

 

=وثالث ورابع وخامس.. أقول لا يحق ليسوع أن يكون نبياً لأن نبوته تنبني على الناموس الذي يؤخذ من فم قيافا الذي هو أصلا مخالف للناموس..

 

فأجاب لاوي بتلقائية:

*إذاً فلا يحق لك أنت أن تكون مسيحياً ولو أردت.. لأنك تبني إيمانك على قيافا صالب المسيح..

 

ارتعد شمعون من العبارة ولكنه أكمل وقد أخذه جانب من الطرب:

 

=لأنظر أولاً إن كان هو المسيح أم لا ثم أتفرغ لحل تلك المشكلة..

.

8

لم يحتج شمعون كثير من الوقت لكي يعلن اعترافه بيسوع مسيحاً ورباً..

ولكنه احتاج وعاني كثيراً لكي يؤلّف نفسه مع مجتمع جديد أو بالأحرى كنيسة جديدة..

 

صحيح كان أعضاء الكنيسة يتكلمون بلغته ومن نفس مجتمعه ومركزهم في المدينة المقدسة وأسفارهم المقدسة هي ذات أسفاره، ولكن كان هناك شئ يتكرر في أعماقه يمضّ عليه إيمانه الجديد..

 

قيافا وحنّان قيافا وحنّان...

كان يشعر بأن كنيسته الجديدة بلا رؤساء كهنة..

فمن يضمن حفظ حق يسوع المسيح على الأرض؟

من يتعهد بالتفسير الصحيح للناموس والذي غاب عن قيافا وحنان إن لم يوجَد بديل لهما في الكنيسة الجديدة؟

 

وفي مناقشة مع صديقه لاوي فاجأه لاوي بسؤال بسيط:

*هل نجح قيافا وحنّان في قبول أن يسوع هو المسيح؟

 

=لا، ولكن...

 

*وهل أحسنا فهم الناموس الذي حلسا يحكمان على ربه به؟

 

=لا، ولكن...

 

*وهل عجز الرب عن إظهار حقه بغير رؤساء كهنة بل بالحري ضد رؤساء الكهنة؟

 

=لا لا، ولكن صبراً..

 

*فما الحاجة لرؤساء الكهنة؟

 

=هه؟

 

وقبل ان يستدير لاوي خطر كالبرق سؤال على ذهن شمعون فألقاه عليه كمن يلقي حجراً من منجنيق:

=فإذا لم يكن لهم حاجة فلماذا نظم الرب الإله نفسه وجودهم ورتبهم وخدمتهم؟

 

*هممم.. سؤال جيد ولكن هذا كان رمزاً..

 

=رمز؟ هاهاها.. فأين الحقيقة إذا كان أولئك رمزاً؟ أين تحقيق الرمز؟

 

وفي شهور قليلة، وإذ بدأ "الطريق" كما سمى تلاميذ يسوع أنفسهم إذ بدأ "الطريق" ينتظم وتترتب هيئة شيوخه كما هي عادة اليهود الدائمة وإذ بدأ عمل الروح القدس في الرسل يظهر سلطانه الرهيب بدأت نفس شمعون تهدأ وتتآلف مع جماعته الجديدة وبدأت مخاوفه تضمحل على إيمانه الجديد، فالشكل يقترب من النظام المفضل عنده وفي الموضوع يزيد نظام الطريق الذي هو جماعة تلاميذ يسوع ويفوق على ما كان في الكهنوت اليهودي التقليدي بما لا يقاس.. عن عمل الروح القدس المبهر ظهر كما جاء في الأنبياء بشكل لم يره شمعون قط قبلاً ولا سمع من أبيه ومعلميه عن حدوث مثله في عصرهم..

 

ومع نمو وازدياد الكلمة وتكاثر التلاميذ وظهور الشمامسة بدأ شمعون يسعد جداً بتعرفه في كنيسته الجديدة على تشكيل رائع للرئاسات المتعهدين بحفظ الإيمان والتفسير الصحيح لكل شئ.. فالحق هو ما قاله بطرس المتكلم بالروح القدس ومعه بقية الاثني عشر..

 

على أنه بعد شهور حدث شئ عكّر صفو شمعون قليلاً.. لقد بدأ اسطفانوس يعظ.. صحيح لم يعظ في اجتماع التلاميذ ولكنه وعظ لمجمع يهودي وصار يباحثهم وهذا ضد النظام.. المفروض ان يشرف هو على خدمة الموائد فقط وأما خدمة الكلمة فللاثني عشر.. وفي قلقه سمع شمعون أن الأحداث تطورت جداً.. لقد هاج مجمع الليبرتينيين على اسطفانوس ورجموه وصار خوف على الجميع وحدث اضطهاد بلا مثيل وتشتت كثيرون.. صار اسطفانوس عند شمعون بطلاً وتأسف على ما حنق به عليه في قلبه لوعظه، ووجد تفسيراً مُرضِياً لنفسه يبرر لاسطفانوس الخروج على ما يراه شمعون نظاماً لا يجوز العبث به.. إنما هو كان يجيب أناساً يسألونه ولا يعظ وعظاً كوظيفة، وهذا أمر لا بأس به بل هو واجب على كل تلميذ.. وفي ارتياحه لتفسيره لعمل اسطفانوس سمع أن لاوي سيرحل مع جماعة من إخوته زاد عليهم تضييق اليهود.. وفكّر شمعون في الرحيل مع لاوي لتعلقه به، وهو سبب الفضل عليه في قبوله الإيمان، ولكن تعلقه بأورشليم وبالاثني عشر كان أعظم وبقي بعد أن ودع لاوي وداعاً دامعاً..

 

وبعد سنتين أو نحو ذلك حدث سجس بين التلاميذ لأنهم سمعوا أن بطرس زار قائد المئة الأمميّ غير المختتن كرنيليوس ولما كان بطرس هو عمدة كل شئ عند شمعون مع بقية الاثني عشر فلقد قبل رؤيته باكثر سرور وبدأ يفتح قلبه لقبول الأمم.. ولكن...

سؤال رهيب عبر بداخله.. صحيح كانت وصية يسوع من الأصل، وصيته الأخيرة للأحد عشر أن الكرازة تصل للأمم،  وإذن فإنهم قد تأخروا عن عمله وأهملوه.. إذن فهم يخطئون في لب الناموس الجديد والوصية الربانية التي سمعوها فماً لآذان!!!

وفعل شمعون شيئاً جيداً بعد أن كان قد سئم من الأسئلة التي تفسد النظام السلطوي العزيز الذي يتسلط عليه، لقد صفع نفسه عدة صفعات معتبرة وهو يقصد صفع وتأديب السؤال لا نفسه حتى يمتثل هو وأمثاله من الأسئلة ولا يجرؤ أحدهم على أن يقفز في ذهنه بعد ذلك.. وكان لدى شمعون أمل واحد يرجو من الرب أن يحققه له.. كان يأمل أن شئول الفريسي العظيم الذي قاد كثيرين من إخوته للقتل أنه يؤمن ويخضع للإثني عشر تلاميذ الرب، وكان يأمل أن تكون عودة شئول على يديه وكيف لا وهو أكثر جماعة التلاميذ فهماً لشئول وأقربهم لإقناعه وهو الذي كان مشروع فريسي عظيم مثله... وشغلته فكرة شئول عن أي تساؤل ممض يطرأ على فكره المسكين الذي طالما تعذب فعذب قلبه وأحشاؤه معه..

 

وفي راحته الجديدة بانشغاله بفكره نحو شئول فاجأته زيارة من لاوي.. لقد عاد من رحلة شاقة، ولكنه عاد.. صار شمعون جد سعيد بعودة الأخ لاوي وعزم أن يكثر زياراته له، وما كان أسعده إذ وجد لاوي في علية بيته منفرداً مرةً حيث ستعينه الخلوة مع لاوي على الحديث الكثير والمريح لنفسه.. حقاً كم كان سعيدا.. لأن لاوي معه ولأنه لابد يحمل كثير من الأخبار المسلية والنافعة ولأنه لم يكن يدري ماذا تخبئ له مباحثة عارضة مع لاوي من متاعب جديدة...

 

10

*إن الرب هو ملك الكون بحق.. لقد فررنا من التضييق لنُوجِد بنعمة الرب للكنيسة رحباً لا ضيق فيه.. لقد زادت ونمت كلمة الرب جداً بين إخوتنا في الشتات.. كثيرون قبلوا الرب يا شمعون، وصاروا تلاميذ..

 

=ولكن هل استأذنتم الرسل؟

 

*وهل يمانعون؟ وهل نحن عملنا تدبيراً أو وضعنا يداً على أحد؟ لقد أجبنا من سألونا عن سبب اضطهاد إخوتنا لنا كيف قتلوا اسطفانوس وألجئونا للشتات، وكرزنا بما رأينا وسمعنا فىمن كثيرون بالرب معنا..

 

=إن كان الأمر هكذا فلا ضير..

 

*لا ضير؟ تقول لا ضير؟ بل كل النفع والبركة.. لقد سبقنا في تنفيذ الوصية الربانية الأخيرة دون قصد منا.. إنه تدبير الرب أن نتشتت فيمتد اكتمال الوصية ويخرج الخبر خارج اليهودية..

 

بدا على شمعون عدم الفهم فأكمل لاوي بحماسة غير معتادة منه:

*إن وصية الرب الأخيرة للأحد عشر أن يكرزوا بالإنجيل في أورشليم واليهودية والسامرة وأقصى الأرض..

=آه فهمت.. صحيح.. والرسل يقومون بعملهم بإرشاد الروح، وبطرس جال في اليهودية وكان يعمل في يافا..

 

*وفيلبس الشماس الذي تشتت معنا عمل في السامرة.. هل تظن أن واحداً من الإثني عشر كان سيذهب للسامرة؟

 

=هه؟ السامرة؟

تحولت لهجة شمعون لبعض الضيق وهو يقول مناوراً:

= نعم.. وماذا في ذلك؟ والرسل أنفسهم ذهبوا ووضعوا اليد وأتموا حلول الروح القدس على من آمنوا..

 

*ألا ترى تدبير الرب في تحريك التلاميذ الذين تشتتوا لنشر الإيمان؟ وإن قصّر الإثنى عشر؟ ها أنت تراهم يتبعون فيلبس الشماس ويتممون في السامرة ما بدأه هو بتدبير الرب ومقاصده العالية، تبارك اسمه..

 

=لا تقس أنفسكم على فيلبس.. فيلبس شماس ويعمل مع الرسل خاضعاً لهم، وحتماً لم يفعل غير ما أوكلوه له.. ولكنك تقول إنكم أنتم...

 

*نعم نحن.. نحن ذهبنا لأقصى الأرض الممكنة لدينا..

 

=كان ينبغي أن يحدث هذا عندما يحدد الروح القدس للتلاميذ، ونحن نذهب معهم...

 

*ولكنهم لم يفعلوا.. الإثنا عشر قصّروا في هذا يا شمعون.. فيلبس ذهب للسامرة ونحن ذهبنا لاقاصي الأرض وهم بقوا في دائرة اليهودية ولم يفعلوا أكثر..

 

=إنه لم يمر وقت كاف منذ صعود الرب، ولا تستطيع الحكم عليهم بأنهم ما كانوا ليفعلوا.. لم يمر وقت كاف بعد.. وحتماً كان سيتم الأمر عندما يحين الوقت..

 

*وقد حان الوقت وأرادنا الرب أن نبدأ وبدأنا.. فليكن أنهم كانوا سيفعلون، ولكننا قد فعلنا فعلاً، ولكن إذا أردت الحق فلا أظنهم كانوا سيفعلون من أنفسهم.. ولعلك تعلم جيداً ما حدث مع كرنيليوس وقد وصلت أخباره إلى أنطاكية وكنت هناك.. وكاد كثير من التلاميذ الذين لم يفهموا شيئاً بعد أن يعصفوا بالكنيسة.. إن وصية الرب هي بالخروج من أورشليم للسامرة واليهودية وأقاصي الأرض.. وها أنت ترى أن الخروج للأمم أتى برؤيا إلهية لسمعان صفا..

 

غمغم شمعون:

 

=أجل.. بل للحق حتى هو حاول مقاومة الرؤيا في يافا..

 

*ها أنت تقول..

 

=ولكن هذا لا يعني...

 

*ما الذي يُلزمَك يا شمعون بالدفاع عن الرسل هكذا؟ وصية الرب أن يكرزوا مبتدئين من أورشليم واليهودية والسامرة وأقاصي الأرض ويتلمذوا جميع الأمم، وأراد الرب أن نذهب نحن سابقين لهم ونُوَسِّع الدائرة فنصل للسامرة وأقاصي الأرض،

وأما الأمم فقد تعهدهم الرب برؤيا ألزم فيها سمعان صفا بالالتفات لوصيته التي أُهمِلَت.. 

يا أخي إن أول من كرز بيسوع مسيحاً كانت سامرية في سوخار، وأول من دافع عن يسوع في المجامع كان الذي كان شحاذاً مولوداً أعمى وأول من كرز للأحد عشر بالقيامة كنّ نسوة.. المجدلية ومعها أُخريات.. إن رسوليتهم وعمل الروح معهم قائم ومكفول ولا ينقضه قصورهم أو عدم فهمهم لشئ أو لآخر، وهم يقومون بما لا يمكننا نحن القيام به.. والرب يكمل الجميع..  

 

=ولكنهم هم الأعمدة ويعلمون كل شئ يلزم علمه..

 

*وها هم في أمثل الأوضاع، فهل هم صدقوا للآن أن شئول الطرسوسيّ صار تلميذاً يتبع الطريق بحق؟ أم يتحاشونه؟

 

=ماذا؟ من؟ شئول تلميذ غمالائيل سلطة التلمود العظمى؟

 

* نعم صار مسيحياً.. أنا أتعهد بصدق ذلك لك..

غامرت النشوة شمعون مختلطة ببعض من الأسى.. فرح من ناحية بعبور شئول أحد أمثلته العليا في الناموس، ومتوجساً من تنازل شئول عن فريسيته.. وعلى أي حال تساءل باهتمام:

 

=كيف ومتى؟ لم أسمع بشئ كهذا!

 

*ألم تسمع حقّاً؟ ظننتك سمعت ولا تصدق!

 

=بل لم أسمع أصلاً إلا منك أنت الآن.. احك لي..

 

*عجباً! كيف لم تسمع لقد سمعت الكنيسة كلها والخبر ملأ أورشليم ولكن كثيرين يشكّون والبعض لا يصدق إطلاقاً..

 

=احك لي..

 

*كان هذا بعد شهادة اسطفانوس..

 

=هذا منذ زمن..

 

*كيف لم تسمع يا شمعون.. أين كنت؟ إنني منذ وصولي أورشليم من دمشق ولا يلقاني أحد إلا ويسألني عن ذلك من الكنيسة ومن خارجها بالمثل..

 

=هذا حقاً عجيب، أفلا أحيا أنا في المدينة..

 

*أتعرف ماذا يا شمعون؟ هكذا أنت دائماً.. تقرأ ما يُعطى لك وتظنه كل ما هو مكتوب.. وتسمع ما تريد أن تسمع وتظن أحداً لا يتكلم إلا من تسمعه أنت..

 

=عليك من هذا...

 

عاد شمعون لهوايته في تأديب الأسئلة وقمعها، فلم يقفز أحدها لرأسه..

 

وفي لقاء جديد مع لاوي سأله عن سبب عودته من سوريا بتدقيق فاجابه:

*سأتخذ عروساً من بيتي وأعود بها.. وإن كل مشاغلي أن أنتقي أختاً زوجة، لأن ليس كل أهلي مؤمنين، ويضايقونني ببنات لسن من الأخوات وهذا أمر عسير.. أنا أتزوج في الرب فقط..

 

ماذا؟ زواج؟ لم يخطر ذلك ببال شمعون المشغول بتأصيل وتنظير ومنقطة مبادئ نقل السلطة من المؤسسة السنهدريميّة للجامعة الرسوليّة..

ولكن إذا كان الأمر كذلك فهو من عمر لاوي وهو عمر الزواج وتحوله لقبول الرب وإقامته في الكنيسة وما يواكبها من أفكار وأنشطة جعلته ينسى ذلك..

ولكن لاوي صديق يُعتَمَد عليه، فقال له مداعباً:

 

=شعبك شعبي وإلهك إلهي وبيت عروسك يكون بيت عروسي.. ومن تختر أختر أنا أختها..

 

وقد كان..

ثم كان له ابناً ذكراً في سنة زواجه الأولى لم يتردد في تسميته "صفا"..

وفي سنوات طفله الأولى أتى نبي اسمه أغابوس منبئاً عن مجاعة عظيمة في الأرض ستطال اليهودية.. وإذ كانت الكنيسة في اليهودية تقبل من "التلاميذ" الذين في الشتات عطايا لتصمد في مواجهة المجاعة شعر شمعون بغصة في نفسه الأبيّة أن يحيا على عطايا "الإخوة" الذين في الشتات..

وشعر أنها علامة من الرب له أن يذهب هو للشتات ويكون من المانحين لا الآخذين..

أحذ شمعون الصبي وأمه وحط بهما رحاله في أسيا الصغرى في مدينة متنعمة جداً.. جرى المال في يده بفضل مهارته في حرفته..

تغيرت ظروف حياته ولم يتغير رأسه أبداً.. أبداً أبداً..

 

11

في كورنثوس كان "صفا" الملقب برشمعون وهو ابن شمعون قد دخل في سن الفتوة والشباب ويسابق السنوات ليتم العشرة الثانية من عمره.. وذات مرة يجادل بحماسة واحداً من الكنيسة يفرط في ترداد اسم بولس:

 

==بولس بولس بولس..  أنا صفا وأنا لصفا، وبولس ينبغي أن يخضع لصفا لأن بولس لم يعش مع الرب ولم يُسَمِّه الرب "صفا"..

 

**أنت فريسي كوالدك وأنا مسيحي.. ولن نتفق..

صفا على عيني ورأسي.. وإن كان صفا قد عاش مع الرب، ولكن كان ذلك كواحد بين كثيرين، وفي ظهور الرب العام.. وأما بولس فهو أعظم بمقدار ما أن الرب ظهر له بنفسه ظهوراً خصوصياً..

 

==حبيبي.. أنا والدي من أورشليم ورأى الرب بنفسه ورأي التلاميذ وله غيرة تكفي كل كنيسة كورنثوس النابتة من بين معابد الأوثان.. أبي يعبد الإله منذ ولادته وأنت أبوك كان يعبد أرطاميس..

 

**أنا مسيحي وأبي مسيحي وليس لكم فضل علينا..

 

==لم أقل هذا...

 

**بل قلت!

 

==لا، لم أقل.. افهم.. كنت أقول أنني أعلم منك بأصول الحفاظ على الإيمان.. بولس محدث في الإيمان وصفا هو الصخرة.. ونحن نحتاج للارتكان على صخرة تضمن حفظ الناموس..

 

**هاهاها.. ياليت الديك يصيح الآن لتتذكر شيئاً.. الصخرة كانت المسيح و المسيح هو صخر الدهور.. ألم تسمع رسالة بولس تُقرأ في الكنيسة.. تقول صفا الصخرة؟ بل المسيح أسماه ذلك، فكان كذلك..

 

==أنت قلت.. طالما أسماه المسيح كذلك فكيف لا تقبل أنت؟

 

كان الجدل على أشده في صَحْن دار شمعون الذي صحا من نومه على طرف منه، وشعر بالفخر بابنه وبتمسكه بالشكل السليم وبأركان الكنيسة، ولكنه أراد أن يصحح له شيئاً، فقام ليلحق بالجدل.. جلس على مبعدة ولكن في موضع ظاهر للولدَيْن الفتيّيَن، وتعمد الابتسام حتى يوحي لهما ويشجعهما على أن يطلبا منه الانضمام لهما.. ولكنهما لم يفعلا..

على أن رفيق صفا ابن شمعون في الجدال بدا عليه الحرج وحاول تغيير الموضوع.. هنا تدخل شمعون:

 

=لماذا تخجل يا غريغوريوس؟

 

**لاشئ يا قس شمعون.. لست خجلاً لكن خفت أن يزعجك الحديث في نومك؟

 

=هل خفت أن يزعج نومي بعد أن صحوت؟ لعلك خجلت من وصفي بأنني فريسي.. لا بأس يا ولدي فقد كنت كذلك فعلاً، وأنا الآن قس في كنيسة الرب ولكن ليست كل الفريسية خاطئة.. بولس نفسه فريسي ابن فريسي وكان مقداماً لنا في زمن صبوتي يوم كنت في عمرك..

 

**أحقاً كنت تعرف الرسول بولس من القديم يا قس؟

 

=نعم وهو الذي وضع اليد عليّ وسامني قساً..

 

**ولكنك أسميت ابنك صفا؟!

 

=تحتاج أن تصحح شيئاً، أنت وصفا معك.. إن بولس وصفا ليسا خصمين ولا متنافسين على أي نحو.. هما شريكا خدمة.. ولكن كل ما هنالك أن الخدمة لها أصول وتحتاج لمرجعية.. حتى بولس نفسه راجع أمور كرازته مع صفا..

 

**إذاً أنت ترى أن صفا هو مرجعية بولس؟

 

=بولس الآن مرجعية بكل يقين.. هو رسول الرب.. ولكن عندما دُعي جديداً فإنه.... ىاه يالها من أيام تعيدها لذاكرتي.. عندما دُعي جديداً كان صفا مرجعيّته ولا شك..

 

**ولكن بولس قال في رسالة له إن البرهان بقوة الروح.. وقال: "إن بشرناكم نحن بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما".. وأنا أفهم هنا أن المرجعيّة هي للروح وأن الدليل هو في داخل الكلام وبقوة الروح حتى أنه يمكن ولو افتراضاً للرسل أن يخطئوا في البشارة ولكن تبقى البشارة الصحيحة صحيحة في ذاتها..

 

بدأ لاوي يعبس وبدأت تظهر عليه ملامح الضيق فقال:

 

=ما هذا الكلام؟ كيف يخطئ الرسل؟ فكيف نعرف الصحيح من الخطأ إن أخطئوا هم؟

 

**نعرفه ببرهان القوة والروح المعطى لنا..

 

=معطى لكم؟ من أنتم؟

 

**نحن كل مسيحي.. ليس أحد يقول يسوع رب إلا بالروح....

 

=توقف عن هذا ولا تنطق باسم الروح القدس باطلاً..

 

**هذا كلام بولس....

 

=أفسدكم بولس.. أعنى أفسدكم عدم فهمكم لكلامه.. كلامه عسر الفهم يحرّفه غير الفاهمين.. هذا خطر..

 

**صحيح، وصحيح أنني دون فهم الكثير، ولكن أرى أن هذه الأقوال ليست عسرة الفهم.. وأظن أن بولس قاوم صفا علانية ولكن صفا لم يغضب..

 

=هذا ما كنت أنوي قوله لكما ولكنك قاطعتني..

 

**آسف..

 

=كنت أقول إن صفا وبولس ليسا خصمين...

 

**نعم.. ولكن أخطأ أحدهما فقاومه الآخر، ولأنهما ليسا خصمين بل أخيّن فقد قبل المخطئ توبيخ أخيه..

 

=حاشا.. صه.. لا تقل مخطئ.. صفا كان مرجعيّة بولس نفسه.. والرسل مهمون جداً، وليس كما تقول أنت ما الحاجة إلى مرجعية..

 

**عفوا يا قس.. ولكني لم أقل هذا..

 

=ماذا كنت تقول إذاً؟

 

**كنت أقصد القول إن المرجعية العظمى المضمونة هي للروح القدس.. وأن الرسل قد يخطئوا.. ربما..

 

=هذا قبل أن يصيروا رسلاً.. أو لعلهم يخطئون في شئ لا يخص إرساليتهم، وأما في عملهم الرسوليّ فهم معصومون..

 

**نعم أفهم.. في عملهم الرسوليّ في مضمون الرسالة لأمانتهم بل بالأحرى لأمانة الروح الذي يتكلّم فيهم.. لا شك عندي ولا شك عند أي مؤمن.. صحيح.. ولكنهم قد يقصرون في هذا العمل نفسه..

 

=هراء.. بدأت حسناً وختمت بهراء.. وإلا فلماذا هناك رسل وأنبياء ومعلمون.. أساقفة وقسوس؟ لماذا؟ ولماذا كان هناك في العهد الأول كهنة؟

 

**هناك رسل وأنبياء ومعلمون ومنهم أساقفة وقساوسة ليعمل فيهم الروح القدس ويعطي المعمودية وحلول الروح القدس على يديهم ويعطي الخبز الواحد شركة جسد الرب وكأس البركة شركة دم المسيح  على يديهم، وقبل كل ذلك يوصل كلامه ورسالة الإيمان عن طريقهم....

 

أوقف غريغوريوس تدافع كلمات هذا الدرس المنمق من فمه قليلاً ليسترجع نصّاً، حتى إذا استحضره مُتقناً انطلق بجماسة وقد أحكم تتابع الجملة التي أرادها:

 

**فكيف يؤمنون بلا كارز وكيف يكرزون إن لم يُرسلوا  كما هو مكتوب ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام..

 

ظهر الارتياح نوعاً على وجه شمعون وقال:

=أحسنت يا فتى.. هكذا يكون الكلام..

 

على أن غريغوريوس استطرد:

**ولكن هذا لا يعني أنهم لا يخطئون حتى في عملهم الإرساليّ، ولكنه يعني أن الروح القدس يضمن أن يلم وراء تلك الأخطاء ويصلحها...

 

تأهب شمعون للانفجار ولكنه تمالك نفسه بالكاد وهو يقول بتوتر:

 

=اصمت ولا تخطئ للرب.. اصمت لكي تتعلم.. كنت تتكلم حسناً.. تقول إن هناك رسل ومعلمين وأنبياء ومن هؤلاء أساقفة وقساوسة وحتى في القديم كان هناك كهنة.. لقد قلتَ كل هذا حسنا..

 

كان غريغوريوس فتىً في سن المرح فلم يتمالك نفسه من مداعبة شمعون فقال:

 

**صحيح أنا قلت كل هذا ولكني لم أقل كهنة العهد القديم، فمالي ولهم؟ لقد صلبوا المسيح..

 

=ولكنهم كانوا كهنة ومرجعية مثل الرسل والأساقفة في العهد الجديد..

 

كان شمعون قد بدأ القافية فلم يتمكن من التوقف وأكمل:

**مرجعية؟ إذن فلماذا لم تتبع قيافا وترفض يسوع؟

 

وكأنما سيف اجتاز نفس شمعون وقد تذكر آلاماً قلبية قديمة في هذا الموضوع الذي لم يبدث قطّ أنه قد حسمه في داخل نفسه، وإن كابَر في ذهنه مرتكناً لبعض الديباجات، فعاودته غريزية التي كانت وقت الشباب، وقال وكأنما صار صنواً لغريغوريوس:

 

=يسوع هو الرب..

 

استدعت لهجة شمعون ذات الغريزة في غريغوريوس، فجاوب التحدي بالمقابل، وانتفض وقد تناسى أصول آداب الكلام مع الكبار ولاسيما ذوي الرتب منهم، فقال مواصلاً:

 

=ولكن الرب يسوع لم يكن من مجمع السنهدريم وكان محكوماً عليه من المجمع.. وكان قيافا هو رئيس الكهنة..

 

=المسيح هو رئيس الكهنة يا غبي..

 

**أنت تشتمني يا حضرة القس وأنا لست غبياً.. إن كنت تكلمت ردياً فاشهد عليّ بالردي وإن كان حسناً فلماذا تشتمني.

 

=ماذا تقول؟

 

**أقول كلمة الرب الحسنة.. أقول إن المسيح هو رئيس الكهنة بحسب إيماننا به.. ولكن السؤال هو: "قبل إيمانك به أصلاً، كيف اتبعته إن كنت تتبع رئيس الكهنة لمجرد أنه رئيس الكهنة؟"..

إنك بتلك القواعد التي تضعها وتسعى لإلزام الآخرين بها ما كان لك الحق أن تصير مسيحياً أصلاً..

 

=ملعون!

 

**الفم الذي يبارك....

 

=ملعوووووووووووووون!

 

**لا يلعن!

 

صمت شمعون صمتاً رهيباً.. ظهرت عليه أعراض متاعب القلب.. لم يحتج غريغوريوس لأن يسمع تصريحاً له بأنه ليس مرغوباً في وجوده فخرج في هدوء وهو يتمتم:

=لا يحق لك لا يحق لك لا يحق لك..

 

انتحى شمعون بابنه وقال له:

=سأوصيك يا صفا بأمر عليك أن تحفظه وتوصي به أبناءك ليحفظوه من بعدك ويوصوا أبناءهم به ليحفظون ويوصوا أبناءهم بدورهم ليحفظوه.. إلى مجئ الرب الثاني يا صفا.. فريضة أبديّة وحفظاً لا ينقطع.. أتفهم؟

 

بدت ملامح الخشوع والغيرة القاتلة على صفا وقال بصوت مرتجف:

 

==اجل يا أبت.. إني لك لمن المصغين!

 

وبدأ شمعون يوصي ابنه وابنه يغلق عينيه بخشوع ويهز رأسه علامة السامعين العاملين.....

 

12

كان شمعون قد انهى توصيته الجادة لابنه وصرفه عنه وجلس لزمن لم يحسبه في تيهه الذاهل الغاضب الحزين..

وبقى هكذا حتى طرقتُ أنا الباب، فقال بصوت واهن:

 

=ادخل..

 

دخلتُ برزانة.. وبصوت لطيف متحسّب قلتُ له:

 

+لعل الوقت قد حان الآن يا شمعون لمراجعتك أو لأقُل، على تعبيرك الأثير، لمباحثتك، لعلك تدرك سبب اختلاط الفهم عليك وتستريح ذهناً وقلباً..

 

نظر شمعون إليّ نظرةً مُحَمَّلَةً بغضب عظيم وكأنه عالم أن له وقتاً قليلاً، وفاجئني بأن قفز ممسكاً بعنقي وهو يقول بصوت خرج بين صرير أسنانه:

 

=هو أنت؟ سأقتلك.. قسماً بالسماء والأرض لأقتلنك..

 

+لا تحلفوا البتة يا شمعون..

 

=جررررررررر.. سأقتلك.. أنت الذي يكتب كل هذا.. ويتلذذ بتسجل عذابي على الورق.. لقد عذبتني من البداية وواصلت التعذيب حتى الآن على مدار 12 حلقة مملة وطويلة.. لا أكاد أتبلّج عند نهاية الحلقة حتى تلاحقني التالية بالمزيد من الألم المُمِضّ الذي يبدأ لكي لا ينقطع، ويبقى معي للنهاية، وتتراكم الآلام واحداً فوق الآخر، وأنا الذي كنت أهنأ الناس وأسعدهم حالاً وأريحهم بالاً في كُتّاب الراباي نابال.. سأقتلك..

 

لم أجد فرصة للتفاهم معه.. كان غاضباً جداً.. فخرجت مسرعاً وأغلقت الأوراق التي أسجّل فيها والتي كاد يفز منها بحموّ غضبه لينقّ عليّ، وتركته معذباً حبيس أوراقي..

 

 

ولما كان ضميري بعذبني لما فعلته معه وفعله معي، آثرت السلام والسلامة.. توقفت عن استكمال القصة، ولم أزعج نفسي بكتابة نص وصيّة شمعون لابنه التي وعده ان يحفظها ويسلمها لأولاده ليسلموها لأولادهم.. وخرجت من الأوراق التي كاد شمعون يقتلني بداخلها، لاتنفس هواء العالم الحقيقيّ الحاضر.. وذهبت، وذهبت.. بعيداً بعيداً إلى أقصاء الأرض حيث لا أظن أن روح شمعون يمكن أن تتبعني..

 

 

13

في فيرجينيا بدأ في إحدى ردهات الكنيسة تجاذب لأطراف حوار يبشر بالود والأخوة.. كان الحديث يدور بين سيمون وزميل له.. وأنا لست سيمون قبل أن يتسرع واحد ويتذاكى.. والحق أنني زميل سيمون وهذا سيدركه القارئ الأريب والذي لا شك أن علامة نباهته وحذقه الكبيرة أنه بقى يتابعني حتى هذه السطور..

 

كان سيمون قليل العلم بالكتاب المقدس ولكنه من أكثر المُقَدِّسِين له، وإن نسي أن يقرأه فلا ينسى أبداً أن يضعه تحت رأسه قبل أن ينام..  وأما الطرف الثاني في الحديث فكان من هواة صداقة الكتاب المقدس والتقليب الدائم فيه، وكان يتلذذ بالإمساك به في يده أينما ذهب وإن كان ينسى كثيراً أن يضعه تحت رأسه وقت النوم..  كان الزميلان متكاملين من هذه الناحية..

وأما النقاش فكان هذا هو:

كان زميل سيمون يعبر في ردهة من ردهات الكنيسة التي كان يحب البقاء فيها دون اعتبار للوقت، فوجد سيمون ممسكاً بالكتاب المقدس مفتوحاً وهو يقرأ منه.. وكان أصعب الأمور على نفس ذلك الزميل أن يرى كتاباً مقدساً مفتوحاً ولا يسرع لفاتحه ليحاوره فيما يقرأ.. وقد فعل ذلك مع سيمون الذي بادره قبل أن ينطق:

===جئت في وقتك..

 

+أكيد وقتي هو وقت الكتاب المقدس المفتوح..

 

===هناك شئ عسر الفهم أريد معونتك في فهمه..

 

+آه.. شئ عسر الفهم إذاَ دعني بروح النبوة أنبئك بأنك تقرأ شيئاً لبولس الرسول..

 

===صحيح.. وهناك ما لا أفهمه في رسالة غلاطية..

 

+لا تقل ذلك.. إنها سهلة جداً..

 

===بالنسبة لك..

 

+ما الذي لا تفهمه تحديداً؟

 

===بل سل ما الذي تفهمه؟

 

+كلها مفهوم.. قل لي نصاً واحداً لنبدأ به..

 

===كيف يعترف بولس الرسول أن بطرس من الأعمدة ثم يلومه ويقاومه مواجهة؟

 

قلت وقد انتفخت أوداجي زهوراً بما سأجود به:

+ذلك لأنه لم يقصد بكلمة أعمدة الاعتراف بذلك، بل قصد إيراد أقصى ما يُعلِّي به الناس شأنهم ليؤكد أنه لا يبالي به، وذلك بدليل ما سبق أن قاله في نفس الإصحاح "المعتبرون أنهم شئ مهما كانوا لا فرق عندي الإله لا يأخذ بوجه إنسان فإن هؤلاء المعتبرين إلخ وكان يشير لنفس الرسل يعقوب وصفا ويوحنا...

 

===ماذا؟ أتقول أن الرسل ليسوا أعمدة؟

 

+لا لم أقل ذلك..

 

===اتتذاكى عليّ؟ تقول أن بولس يقول أنهم ليسوا كذلك ولكنك إن كنت ترى أن بولس يقول كذلك فلا شك أنك أنت تقول مثلما تظن أن بولس يقول ولكن بولس لا يقول..

 

+ولا حتى قلت إن بولس يقول..

 

===بل قلت..

 

*بل لم أقل.. بل أنا الذي آتيك بدليل أن بولس يقول أن الرسل أعظم من مجرد أعمدة لأنهم أساس.. فقد قال أننا مبنيون على أساس الرسل والأنبياء والمسيح نفسه حجر الزاوية..

 

+++حسن هذا.. فماذا كنت تقول؟

 

+كنت أجيبك على سؤالك عن تناقض تظنه بين مواجهة بولس لبطرس واعتباره عموداً فشرحت لك أن اعتباره للرسل أعمدة في ذلك النص تحديداً كان بمنطق التماشي مع قول الغير ليفند ما يبنونه عليه.. وبالتالي فقوله أعمدة في هذا الموضع تحديداً لم يأت ليفيد الاعتبار بل ليفيد أنه مهما كان اعتبار الآخرين، سواء خطئاً او حتى كما في هذه الحالة صدقاً،  فحق الرب أحق عنده بالاعتبار ولا فرق عنده..

 

===لا افهم!

 

+أفهمك.. الرسل أساس وليس مجرد أعمدة.. حلو؟

 

===جداً.. ولا أحلى..

 

+لا.. هناك الأحلى.. أنهم وإن كانوا كذلك فهذا لا يرتب بالمنطق المسيحي أنهم لا يخطئون أو أنهم إن أخطئوا يجوز مجاملتهم في أخطائهم.. ولهذا فإن بولس أثبت أنهم الأساس في موضوع ولكن في موضع آخر أضاف أنهم وإن اعتُبِروا أعمدة فلا فرق عنده لو لزم التصحيح.. والخلاصة المجيبة على سؤالك أنك لا ينبغي ان ترى في النص تناقضاً لان إيراد الرسول بولس أن الرسل أعمدة لم يأت بغرض اعتباره هو للمعنى، وإن كان يعتبره كما بينت، ولكن أتى بغرض أنه لا فرق عنده..

 

===ولكن هناك فرق عندي أنا.. هذا كلام جديد وغير مقبول.. ولا تقل لي هذا كلام بولس فهذا تفسيرك أنت..

 

*صحيح ولكنك تسألني أنا فلمن تتوقع أن يكون التفسير؟

 

===دعني منك ولنعد للرسالة..

 

+J

 

===كيف يعادي الرسول الأعمال في الرسالة؟

 

+فقط في رسالة غلاطية؟.. بل وفي رومية أيضاً.. هي أتت على غلاطية وتوقفَتْ؟ هاهاها

 

===بجد L

 

+سأشرح لك...

 

===اسمع.. أريد كلاماً مفهوماً..

 

+كل كلامي للفهم.. المعول عليه السامع..

 

===أنا غبيّ؟

 

+ليس بالضرورة.. ولكن البعض لا يفهم لأنه يستشعر أن ما يهمه سيؤلمه فيفضل أن يتحمل أمام نفسه عبء أنه غبي عن أن يفهم شيئاً لا يحبه..

 

===يا سيد أجب سؤالي.. كيف أن الرسول يحارب الأعمال؟

 

+إنه هنا لا يقصد الأعمال الصالحة..

 

===جميل..

 

+وذلك لأن الإيمان بدون أعمال ميت..

 

===جميل جداً..

 

+مما يعني أن الأعمال هي روح الإيمان لا الإيمان هو روح الأعمال بحسب الفهم الشائع..

 

===رائع..

 

+وعليه فكيف يدافع الرسول بولس عن إيمان بلا اعمال؟ أتراه يدافع عن إيمان هو جثة هامدة؟

 

===أكيد لا يفعل..

 

+بل عن الرسول بولس ذاته هو أروع من تكلم عن الأعمال الصالحة.. اسمعه وهو يقول أعمال صالحة سبق الإله فأعدها لكي نسلك فيها..

 

أخذ الطرب بمجامع سيمون فقال وكأنه يتجاوب مع لحن عذب:

 

===قول.. أسمعني..

 

+هو إذاً كان يتكلم عن أعمال أُخرى هي التي لا تخدم الخلاص..

 

===ما هي؟ الأعمال الشريرة؟

 

+لا طبعاً فهي خارج السياق.. كان يتكلم عن أعمال الناموس!

 

===ماذا؟ L جررررررررر

 

+أعمال ا ل ن ا م و س..

 

===وقعتك سودة.. لما بولس كان فريسي..

 

+وماذا في ذلك؟

 

===في ذلك انه كان يتمم ستمئة وكم وصية كل يوم ويراجعهم قبل أن ينام..

 

+أولاً مراجعة الفريسيين للوصايا كلها قبل النوم هذه حواديت أطفال لأنه مجرد تلاوتهم تأخذ من وقته ومجهوده ما يفوق المعقول..

ثانياً بولس كان فريسيّاً ملتزماً بأصول الفريسيّة قبل إيمانه.. أما بعد إيمانه فلم يبقى له من فريسيّته سوى علمه واسمه باعتبار ما كان عليه..

وثالثاً إن كانوا قد تركوك في الكنيسة إلى الآن وأنت تحسب بولس فريسّياً يبقى المسيح سيجازيهم مجازاة عادلة على تقصيرهم، أو يغفر لهم ويرحمني من جهلهم..

 

===أنت ستخطئ أيضاً في حق الكبار؟

 

+لم أخطئ أنا قلت إن كان المتسببون هم، وإن كنت أظنهم بالفعل هم.. ولا يعفيهم من المجازاة إلا جهلهم.. وأظنهم جهلاء باكثر مما هم مقصّرون..

 

===جهلهم؟ طيب.. أنا المخطئ أن أسأل مثلك..

 

+صحيح.. فلماذا لا تسأل "الكبار" طالما عندهم الأجوبة الشافية..

 

===هو أنت تسخر من هذا أيضاً؟

 

+بصراحة نعم.. لأن أكثر كلامهم أخطاء ساذجة..

 

===لا أنت تجدّف.. على الروح القدس.. لأن هؤلاء مسنودين بالروح القدس..

 

+عندي سؤال.. إذا كنت تحيا وقت المسيح، من كنت تصدق؟ قيافا أم المسيح؟ علماً بأن قيافا كان رئيس كهنة معتبراً.. وحتى عندما حكم بصلب المسيح يقول الإنجيلي إنّه تنبأ لأنه كان رئيس كهنة في تلك السنة.. فهل هذا كان يؤهله لكي تتبعه؟ أم تتبع المسيح رغم ذلك؟

 

تحير سيمون قليلاً ونظر بحيرة وشك وبعض الحسد لزميله ولم يحر جواباً.. فشعر زميله الذي أذكركم أنه أنا نفسي ببارقة أمل فأكملتُ طارقاً على الحديد وهو ساخن:

 

+تعرف يا سيمون إنك تذكرني بقصة، لي معها قصة.. واحد يهودي اسمه شمعون.. إنها قصة مأساوية، ولقد تركته في القصة التي كنت أكتبها وهو يوصي ابنه ولكن لا يمكنني معرفة ماذا كانت وصيته لتصير، إذ فررت من القصة عندما هددني بالخروج منها وقتلي...

 

تكلم سيمون بهدوء قاتل:

 

===أنا أخبرك بالوصية وكيف كانت لتصير لو أكملت روايتك التعسة، بل كيف صارت الوصيّة بالفعل..

 

+حقاً؟ أتعرف؟ ولكن كيف؟ إذا كنت أنا نفسي مؤلف القصة ولا أعرف، لأني تركتها مبكراً تحت التهديد كما قلتُ لك!

 

===أقول لك ما هي وأقول لك كيف عرفت..

أما ما هي فهي أنه أوصى أحفاده بالتزام الغيرة حتى ولو كانت بلا معرفة ومطاردة وحرمان وفضح كل من تسول له نفسه معاندة الرئاسات المقدسة والتشكيك في صحة ما يقولون..

 

+صحيح.. هذا يتفق مع القصة.. وأظن أنا نفسي كنت سأصوِّرها على هذا النحو.. ولكن كيف عرفت؟

 

===لأنني أنا آخر هؤلاء الأحفاد الغيورين وسأتمم فيك ما أفلت من جدي أن يتممه بك..

 

فررت .. فررت من هذا الغيور.. ولعلّي لخوف المطاردة أكثرت من استخدام ضمير الشخص الثالث (ضمير الغائب) لأتخفى، ومضطر ألا أوقع على هذه القصة التي أحببتها جداً باسم

كريستوفر مارك!

 

 

فكرة منشأ القصة

 

أصل هذه القصة سؤال طرحته منذ سنوات في درس كتاب عن "موقف الشخصيات البارزة المتداخلة في ملابسات الصليب تجاه الصليب".. وكان السؤال التحدي للمشاركين في الحلقة هو:

إذا كنتم في زمن المسيح، وسمعتم من رئيس الكهنة آنئذٍ وهو قيافا، أن المجمع اليهودي المقدس قد حاكم مهرطقاً مبتدعاً مخالفاً للناموس والتقليد، وأنه ثبت للمجمع تلك التهم عليه، فماذا يكون موقفكم من يسوع؟

تذكروا أنكم في زمن المسيح ولا تعرفون بعد أنه المسيح، ولا تملكون عنه إلا شهادة رئيس الكهنة وأعضاء المجمع ضده..

 

أتت بعض الإجابات بتهور.. منها  إصرار البعض أنهم ملتزمون بفحص القضية قبل الحكم وأنهم غير ملتزمين بقرار رئيس الكهنة قبل فحصه بأنفسهم والتأكد من صحته.. ولكن هؤلاء توارت أصواتهم عندما واجهوا السؤال التابع منطقياً إن كانوا يلتزمون بعمل المثل في عصرنا هذا عن أي شخص يسمعون عنه أنه حُكِم عليه من المجمع و البطريرك..

 

وتقدمت مجموعة ثانية بشجاعة للإقرار بأنهم ما كانوا اتبعوا يسوع ولا جسروا على التفكير في كونه المسيح طالما كانوا في تلك الظروف، وبالتالي فإنهم سيتبعون، جرياً على نفس المنطق، سيتبعون أي شئ يسمعونه الآن من المجمع والرؤساء!

على أنهم حاولوا الدفاع عن أنفسهم بأن دمهم سيُطلَب من يد الرؤساء وليس من أنفسهم، وإن كانت عدم ثقتهم  في دفاعهم عن أنفسهم على هذا النحو بادية..

 

وأما الباقون الذين لم يساهموا بإجابة فقد استراقهم السؤال وكرروه كثيراً بتمعن، وبدرجة من العجب، ودرجات من التعجّب والتلذذ بعد انفضاض الحلقة..

 

وكانت خلاصة فحص إجابات هذا السؤال الصافع مع المشاركين في محاولة الإجابة، أنهم طالما يتبعون الرؤساء بعيون مغمضة وثقة عمياء وحرج من الفحص وراءهم، فإذاً، وبكل يقين المنطق، لا يكون من حقهم أن يصيروا مسيحيين أصلاً، وكان حقيقاً بهم أن يعودوا في الزمن ويتبعوا قيافا طالما هذا هو المنطق المتوفر لديهم..

 

وهذه القصة هي مجرد محاولة لتحويل مادة السؤال وإجاباته إلى لغة العرض القصصيّ، التي وفرت إمكانية عرض بعض جوانب نفسية وعلاقات وطرق تفكير أصحاب هذا الفكر المحبوس في قفص يرونه ذهبياً جميلاً وموفراً للأمان، ودونه القبح والهلاك لا محالة..

ولولا أن العرض أتى سريعاً، وليس من مواهبي المتواضعة كتابة القصة، لكان للطريقة القصصية الأفضلية الفائقة في شرح معاناة هؤلاء المساكين ومعاناة الكنيسة بسببهم..

 

بيانات

 

·       الأسماء في الرواية متصلة بالمضمون..

·       كُتِبَت تلقاءً دون مراجعة وقت نشرها في جروب:

          Coptic Youth 4 Holy book

        على  Face Bookخلال شهر فبراير 2010..

·       قادت كل حلقة لصاحبتها دون سبق إعداد للوصول للمغزى المنشود مسبقاً، ولم يزد وقت كتابة الحلقة الواحدة عن عشر دقائق في المتوسط..

·       أُعِيد الجريُ على سطورها لإزالة الأخطاء المطبعية في مارس 2012..

 

 

 

إهداء للذكرى.. وإهداء للعبرة

إهداء للذكرى

 

للذكرى فالقصة مهداة لناقدة الأدب الإنجليزيّ "رادوبي" لأنها كانت معي على إحدى نوافذ فيسبوك تحادثني في ذات لحظة كتابة الفصل الأخير وهذه الخاتمة، ولا تكاد تصدق أنني أكتب وأنشر في ذات اللحظة دون معاودة النظر في النتيجة.. فاهديها القصة عقاباً لها على تعطيلي بعدم تصديقي..

 

وإهداء للعبرة:

 

والقصة مهداة، ومن باب العقاب أيضاً، لكل الأحباء ذوي الغيرة التي بلا معرفة ولا تفكير والذين أسميهم أصحاب القفص الذهبي الذين يحبسون أنفسهم في قفص لونه – مجرد لون – ذهبي ويضحون بحريتهم التي لهم في المسيح مقابل قشرة صفراء يظنّوها ذهباً ويظنون في القفص المطلي بها حماية للكنيسة من التفكك ومن ضياع الإيمان وما إلى تلك الأوهام.. أهديها لهم وأنا الذي في كل مواقف الغيرة الحقيقية أجدهم بلا ضمير ولا إحساس بالغضب اللازم، حينما ينبغي على الجميع أن يقفوا في "صف غيرة" واحد أياً كانت مشاربهم..ينما لتزيد المفارقة افتراقاً أجدهم خلفي يصيحون ويشتمون عندما أكتب شيئاً كهذا.. وأقول "خلفي" لأنهم لا يقدرون على المواجهة.. خلفي لأنه أسهل مكان للطعن النافذ دون مقاومة وخلفي لأنهـــ....مم.. بعد إذنكم هناك بعض الناس يشحذون شيئاً ما خلفي.. لا.. ليس بعد إذنكم أنني سأفرّ.. هذا في القصة فقط، لزوم التشويق والتلطّف.. ولكن في حقيقة أمري أقول بعد إذنكم لأنني سأستدير لمواجهتهم وإهدائهم هذه القصة المكتوبة في عجالة، هدية شافية بما فبها من دواء نافع رغم كل شئ.. بعد إذنكم.. لعل بعضهم ينال الشفاء.. والرب قادر على كل شئ!