+*+

يوحنا النِقيوسيّ

يفتح

قبور التاريخ

 

شهادة معاصرة للحدث، مذهلة الدقة

تنفرد بوقائع فارقة عن أحداث غزو العرب لمصر

(مع دراسة وهوامش)

 

 

 

إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح سوف ينظر لنا ويحفظنا:

ونحن أيضاً نؤمن أنه سيهلك أعداء الصليب، 

كما يقول الكتاب الذي لا يكذب

 

الأسقف القبطي يوحنا النقيوسي من المئة السابعة

 

 

 


تصدير

 

ليس قبل آخر معاودة لي مع الكتاب في ديسمبر 2009 حين قفزت في مصر دعاية مُوَجَّهة وممنهجة داعمة لدعوة غير المسيحيين في مصر قبطاً (أقباط كما يُقال)، وهي الدعوة التي طالما سارت على استحياء من

بعض المسلمين النبلاء ذوي الغيرة على هويتهم المصرية، وكان يواجه دعوة هؤلاء تجاهلاً واضحاً من عموم الإعلام.. وليس على سبيل دعوة هؤلاء النبلاء الغيورين كانت الطفرة المُشار إليها، والتي كانت واضحة الغرض غير النزيه..

وفي سياق هذه الطفرة اندلعت مشاحنات غير منضبطة علمياً تورط فيها على الناحيتين من أتعفف من تسميتهم.. وكانت أكثر العبارات إثارة هي ما قيل على لسان واحد "إن العرب ضيوف على مصر،" وهي عبارة غير منضبطة على أي وجه.. فليس في كل قصة غزو العرب لمصر أي ضيوف.. فالمعنيون في القصة إما غزاةٌ محترفون من العرب أو مرتدون معاونون لهم من ضعاف النفوس من القبط أو خونة متهاونون من الرومان، أو فدائيون قاوموا بشجاعة قبطاً ورومان، أو ضحايا مغلوبون على أمرهم؛ وهؤلاء الآخرون هم السواد الأعظم عدداً من الشعب المصريّ.. ليس في القصة من بدايتها أي ضيوف خلا ما تلا ذلك من هجرات فكان الآتون ضيوفاً ثقال ترتب وفودهم على عمل الغزاة السابقين.. وفي أعقاب المشاحنة أطلقت القنوات حملات معهودة تكرر فيها الكلام عن ترحيب القبط بالعرب فور غزوهم مصر، ولعل بعضهم تعدى فادعى استغاثتهم بهم وهم بعدُ في شبه جزيرتهم..

وفي سياق تابع أخذت شهوة انتقاد تاريخ مصر اللاحق للغزو العربيّ فُرقاء آخرين، فاندلع هجوم بعض المؤرخين على الدولة الأيوبية وسلطانهم الأشهر المُلَقَّب بصلاح الدين لينبري للرد عليهم بالهجوم الأقذع على الدولة الفاطمية، حتى انتهت الصورة في كليّتها إلى تشكيل واضح المعالم عامله المشترك الأعظم هو انفراد كل فريق من النشطين العقائديين في مصر بعصر من عصور تاريخهم التي تلت الغزو العربي وبُنيَت عليه، ليظهر عوراته ويجرّح في شخوص قادته، حتى طال الأمر عمرو ابن العاص الذي لم ينج من استعادة ذكر سوءة ميلاده ونسبه على يد علمانيّ كبير تحول من العروبية المتطرفة للمصروية المتطرفة فجأة دون انتظار.. وأما فذلكات بعض المؤرخين الداعية لإعفاء التاريخ من "أحكام القيمة" والأغراض العقائدية فقد تاهت بين الاستشهادات من كتب التاريخ التي يقذفها كل فريق على العصر الذي تعهد بمراجعته وكشفه لغير العارفين، وتجمع كل هذا النقد الملتهب هي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ مصر ولعلها إرهاصات نظرة مصرية جديدة لغزو العرب وثمار حكمهم ولدينهم كله..  

+++

وفي ذروة هذه الحملات أستعد لحضور ندوة إلكترونية في غرفة "كونترا موندم،" وأكتب هذا التصدير..

وأزعم أن رمانة الميزان لضبط بدايات القصة مقرها الراسخ هو شهادة يوحنا النقيوسيّ، وأن في هذا الكتاب ضبطاً لبداية قصة غزو العرب لمصر وبدء علاقة القبط بالعرب، ضبطاً من كل جنوح يميناً كان أو شمالاً.. ومنه نعلم أنه عند دخولهم لم يلقوا من المصريين ترحيباً ومساندة ضد الرومان، بل نجد العكس هو الذي حصل وشُهِد له.. ونعلم على الجهة المقابلة أن الأمر لم يخلُ من خونة قبط مالئوا العرب وأرشدوهم وقادوهم لنهب وسرقة إخوتهم في الوطن والعِرْق، ولعلهم زادوا في انقلابهم فارتدوا عن دينهم قبل معرفة لغة الدين الآخر ومضمونه.. هذا ما حدث على وجهيه تبعاً لشهادة النقيوسيّ الذي يتفق في ذلك مع منطق مثل هذه الحوادث.. ثم نعلم أن المذابح والمهانات والتهام الأموال استمرت مع استمرار أحداث الغزو، ولم تنته بعد انتهائها.. ليس غريباً إذاً أن تستمر حالات الارتداد بين القبط للدين الجديد ليتزاوجوا مع العرب وبقية الأجناس الوافدة في ظل الدين الغازي ويظل الدم القبطيّ هو الرافد الأغلب في دم المسلمين في مصر، مع عدم إهمال نسبة التهجين الملحوظة، ونسبة الهجرات العربية التي لم تتداخل في الدم المصري وبقيت في البوادي، ولهذا بحوث أُخرى..

+++

إذاً، وبكل ارتياح موضوعيّ، فلا تثريب لديّ على تسمية عموم المصريين المحدثين قبطاً، خلا الاعتبار الأدبيّ الذي يلزم غير المسيحيّ القبطيّ في مصر، ممن يرى في هذه التسمية شرفاً ويريد التحلي بها، أن يتبرأ صراحةً من تمحك أجداده بالغزاة من غير ذوي بني جلدتهم وتغرّبهم وتخليهم عن هويتهم القبطية؛ ثم حقيق به بعد ذلك أن يقدم الشكر لتاريخ الكنيسة القبطية التي احتفظت له باللقب الذي يرى فيه شرفاً له ويريد استعادته..

وإن كان يعنيني جداً كمسيحيّ وكإنسان أن أختم التصدير بتأكيدي على استقباح كل الدعاوى العنصرية الاستعلائية، وإنما غرض هذا العمل هو إحقاق الحق الموضوعيّ ابتداءً، ثم الاستدلال به على بطلان الدعاية المغرضة المستهدفة الكيان القبطيّ في إيمانه وحقه في الحياة بكرامة على أرض وطنه.. كان هذا غرض العمل من البداية، والآن تزداد الحاجة له..

+++

والآن وفي هذا الوقت الذي يزداد فيه الاحتياج لمعرفة موضوعية أمينة لحقائق بدء الأحداث يتصادف بلا تخطيط أنني كنتُ قد رشحتُ منذ نحو شهرين الكتاب للمناقشة في غرفة إلكترونية يرتادها أصدقاء ذوي غيرة ونباهة، وهذه آخر سطور اكتبها قبل الإفراج التام عن الكتاب لمناقشته وتداوله بين دائرة الأصدقاء في 14 يناير 2011.. وإن غرض المناقشة هو ذات غرض الكتاب: "أن نبني أحكام القيمة على أحكام الواقع،" فأما الكتاب فهو أساس لمعرفة كل أحكام الواقع وقد عملت فيه بكل تحري للموضوعية حتى يكون مصدراً مضموناً لذلك، حتى إذا واتت الفرصة لمناقشته جاءت أحكام القيمة مبنية على أساس راسخ من الواقع والوقائع..  

+++

ويلزمني الآن قبل ظهور العمل في الدائرة القريبة الإقرار على نفسي أنني لست مؤرخاً ولا مترجماً، ولا أنوي مزاحمة أهل الاختصاص، وإن كان هذا العمل ترجمة لنص تاريخيّ تسبقه دراسة تستقصي إجابات أسئلة تاريخية خطيرة من واقع متنه، وفي هذا لم أملك أية أدوات متخصصة لفنون الترجمة وعلوم التأريخ إلا ما استعنت به من المنطق وحده الذي به أخاطب القارئ المتابع المهتم بهذا الشأن المصري التاريخيّ الخطير..

+++


شكر

 

جورج حليتو من فِرجينيا، صديق قديم وجار ورفيق كنيسة وخدمة، وصاحب فضل في تسجيل ومراجعة بعض الأعمال المتواضعة التي قدمتُها، تطوع بمراجعة العمل بمبادرة كريمة منه، وفي وقت قصير جداً نسبياً تسلمت منه النسخة المُراجَعة، وقمت بالتعديل بناءً على ما رصده من أخطاء مطبعية، وكان عمله دقيقاً جداً كعادته حتى كدت أن أكرهه، على محبتي الفائقة له، ولم يكتف بالتصحيح المطوّل إلا أن عاد ليطاردني ويصحح النسخة المُصَحَّحة، ومع الجري في سطورها معه تحادثنا في مواطن نقد العمل الذي لم أطمئن لتوقفي عن النظر فيه وأرضى بتوزيعه إلا بعد شعوري برضاه هو عنه بعد الاستماع لتقييمه الدقيق له...

وأخيراً، وبعد إلحاح منِّي لوضع اسمه في فقرة شكر مُستَحق أُصدِّر بها العمل، فقد طلب أن أكتفيَ باسمه الأول فقط...

   وأرجو وأنا أعيد له النسخة مُعَدَّلة ومُحَلَّاة بهذه الفقرة الشاكرة، أرجو ألا يجد فيها خطأ جديداً J..

 

+++

 

وتبنّت التنسيق لمناقشة الكتاب في غرفة "كونترا موندم" الأخت الفاضلة صاحبة الأدب والعلم السيدة سوزان عبد المسيح (فيث هوب لاف  Faith-Hope-Love) من أستراليا والتي لم تكتف بالتنسيق، بل تطوعت بمراجعة الكتاب مرة أخيرة، وضبطت بأناة وجدية ما خفي من أخطاء فاستحقّت مزيداً من الشكر الجزيل.. ثم ها هي لا تزال تتعجلني وتحاصرني وأنا أتهرب منها حتى ما عاد لي من مهرب إلا كتابة التصدير في عجالة، وتسليمها الكتاب لإطلاقه، بعد إذن الرب,,,

 

 


هذه الحوليّات .. وهذه الترجمة

دراسة تقديمية

 

 

 

كلمة تقديم: أقدِّم هذا العمل...

1-       الرحلة المثيرة لهذا النص الثمين

2-       كيف كتبتُ، وكيف تَقرأ!

3-       يوحنا النِقيوسي

4-       وحولياته

5-       يوحنا -المؤرخ- في محكمة التاريخ

6-       والتاريخ في محكمة المؤرخ يوحنا

7-       الجغرافيا في تاريخ النِقيوسي

8-       الروح النبوية في شهادة الأسقف المؤرخ

9-       ثبت بتطور تواريخ ومواضع الأحداث مشوهداً من النص

10-   تصوَر شامل لمنطق سير أحداث الغزو

11-   عن حافظ النص الشماس غبريال

12-   مراجع التحقيق

كلمة ختام: نهاية البداية وبداية النهاية

 

 

 

النـص الثمين

 

   رؤوس الفصول كما ظهرت في النسخة الجعيزية

 

   ترجمة متن فصول يوحنا النِقيوسي عن أحداث غزو العرب لمصر - مع هوامش تحقيقية مفصَّلة

   

     فصل111-  نحو الفيوم - سقوط بهنسا - مذابح بهنسا وباويط

     فصل112-  مدد العرب - هروب الرومان - سقوط الفيوم وباويط

     فصل113-  سقوط مدن أتريب - سقوط مدن منوف - السيطرة على كل المواصلات النيلية -                      

                    سقوط مدن المحروسة

     فصل114-  دين الوحش - رصد بداية الارتداد - عودة كلوديوس عن خيانته

     فصل115-  عام من الصمود - حاجز المياه - المحاصيل والمدن المحروقة -
                     التحول عن الدلتا وسقوط انصنا -  خبر الاستيلاء على نقيوس      

     فصل116-  شواهد على تفكك حكم هركيول - موت هركيول وتولي كُنستانتِن ابنه -                                                      

                     حكم النقيوسي بأن انتصار المسلمين عقوبة مستحقة على الروامن المضطهِدين

     فصل117- سقوط حصن بابِلون - تعليل ذلك ببشاعة ارتكبها الرومان ضد "الأرثوذكس"

     فصل118-  ظهور المنشقين الخضر والزرق - عودة لنقيوس بتفصيل خبر مذابحها - ومذابح في المدن

     فصل119-  حال المصريين بين الثابتين والمرتدين

     فصل120-  نزوع أكثر قادة الرومان للسلام مع المسلمين - مخالفة طقسية وموت الباتريارك الخلكيدوني     

                     كيروس -  تولية منياس وشنودة على الدلتا والصعيد - مزيد من إذلال المصريين

     فصل121-  عودة البابا بنيامين - فظائع الضرائب الباهظة

     فصل122-  ختام النقيوسي لحولياته

     فصل123-  ختام مترجم المخطوطة الجعيزية


هذه الحوليات وهذه الترجمة

دراسة تقديمية

 

 

 

 

كلمة تقديم

أقدِّم هذا العمل...

 

   ... وأنا مسئول كل المسئولية وراضِ كل الرضا عن كل فكرة واستدلال فيه، وغير راض عن الأسلوب الذي فاق طاقتي إحضاره لدرجة العذوبة التي أحب لكل كتاباتي أن تتمتع وتمتع قارئها بها، وبالأكثر غير راضٍ عما شاب الفقرات من خشونة في التتابع حيث كُتِبَت الفقرة في وقت تداخلت بينها وبين كتابة تابعتها فيه ما طعن في سلاسة تسلسل التتابع..   ولكن ليس كل مالايُدرَك كله  يُترَك كله، ولأهمية وخطورة مادة هذا العمل، سواء ترجمة النص الثمين أو الدراسة التقديمية له، فإنني تنازلت عن هوايتي الأثيرة بتأجيل تقديم العمل لحين التفرغ لكتابته بالأسلوب المرجو، مكتفياً بشكله هذا والذي يجمّع كل الأفكار المطلوبة بشكل واضح وإن لم يكن عذباً وإن تفاوتت فقراته بين المتقن والمقبول والمُتعجَّل بحسب تفاوت حالتي وقت كتابة فقرة وأخرى أو فصل وآخر..

   ولقد كان يمكنني أن أضع على العمل العلامة شبه الدائمة التي أمهر بها أعمالاً كثيرة: فأكتب أن "هذا العمل تحت المراجعة ويحتاج لتنقيح الأسلوب"، لإراحة ضميري، ولكنني سأكون كاذباً إن فعلتً وأنا أنوي عدم العودة إليه بعد تركه، لتوفير طاقتي لإنجاز غيره.. نعم رغم عاطفتي المشبوبة نحو هذا العمل ولكن قلة الطاقة وكثرة الطموح لغيره يمنعانني من معاودته ويجبرانني على القبول له بشكله هذا!  

 

   P. Eng. Deaon Basil, aka C. Mark,   

  December, 2009

 

 

 

1

الرحلة المثيرة لهذا النص الثمين

 

     رغم تنقلاته الحرجة وطول رحلته بين الترجمات والمخطوطات، فقد وصل النص الثمين لحوليات يوحنا النقيوسي يحمل في فصوله الأخيرة تصويراً تاريخياً وجغرافياً مذهل الدقة لوقائع غزو العرب لمصر.. ورغم الاختصار الواضح في السرد، وثغرات المخطوطة، فلا يملك قارئه مقاومة قوة الدفع المتدفقة منه والتي تحمل القارئ وتعود به للمئة السابعة الميلادية، ليتابع الوقائع كمن يتابع أحداثاً معاصرة من خلال وسائل الإعلام الحديثة الجبارة..

 

   ومقبول عند العلماء أن نسخة قبطية قد وُجِدتَ قديماً للنص، مع عدم تيقنهم إن كانت اللغة الأصل التي كتب بها الأسقف يوحنا النِقيوسي حولياته هي يونانية أم قبطية أم قبطية يونانية مختلطة؟! ولايزال الأمر يحتاج لفحص برديات كروم المحفوظة في متحف برلين والتي اعتٌبِرَت دون خلاف أنها ورقات من العمل الكامل الأصلي للنِقيوسي..

   ويخبرنا تشارلز أن شافر Schaffer (الذي درس شذرة باللغة القطبية الصعيدية محفوظة في متحف برلين) اقترح أنها جزء من الحوليات، ورأى أن حسم القضية لا يزال يحتاج لدراسة لغة الشذرة لترجيح إن كانت لغتها مترجمة أم أصيلة، .. ومهما يكن من الأمر فالنص له أصل قبطي..

 

   ومن الأصل القبطي\اليوناني تُرجِمَت الحوليات للغة العربية، وشهد إميلينو لبتلر أنه اطلع مرةً في الصعيد على الترجمة العربية.. ولو كانت هذه الشهادة صادقة، فيؤسفُ أنه لم يحتفظ بها وأنها اختفت حيث لا يعلم أحد..

   وجاء دور الشماس الدءوب غبريال ليترجم العمل كله للغة الجعيزية (أبرز لغات أثيوبيا) ويختم عليه بفصل قصير يشير فيه لنفسه وزمن فراغه من الترجمة في مفتتح القرن السابع عشر.. وبقي من المخطوطات الحافظة لعمله اثنتان..

   وفي القرن 19 غزا الإنجليز بلاد الحبشة ووضعوا اليد على كل ما طالوا من آثار، فوقعت واحدة من المخطوطتين الثمينتين في يد أحد الضباط وآلت من ثم للمتحف البريطاني لتحفظ تحت رقم 818 أوريانت – أو رقم ر391 في كاتالوج رايت للمخطوطات الأثيوبية بالمتحف، وأما الأُخرى فحظيت بها مكتبة باريس الوطنية ومحفوظة هناك برقم 146 بحسب كاتالوج تسوتنبرج للمخطوطات الأثيوبية في المكتبة واصطُلِح على تمييز مخطوطة مكتبة باريس بالحرف A ومخطوطة المتحف البريطاني بالحرف B..

   والآن جاء الدور الأكبر في السلسلة للعالم تسوتنبرج الذي قام بتحقيق النص الجعيزي وترجمته من واقع المخطوطتين..

  

   وفي الدائرة العلمية تلقّف المعنيون هذه الترجمة الثمينة، وتناولوها بالنقد العلميّ محاسن وعيوباً.. وفي مطلع القرن العشرين تولى العالم الدكتور تشارلز إعادة ترجمتها للإنجليزية من الأصل الجعيزي، وهي الترجمة التي أشار لها بتلر في كتابه "غزو العرب مصر" قبل ظهورها، وأعرب عن انتظاره مع المجتمع العلميّ لها.. (هذه الفقرة مضافة لاحقاً بعد توفر كتاب غزو العرب مصر لي).. وفي مقدمة تشارلز هناك تفاصيل فنية كثيرة ودقيقة لسمات النص الحعيزي، عمدتُ لترجمتها وبناء بعض التقديرات منها ولكن هذا الجزء من العمل خرج عن طاقة الجهد المرصود فاكتفِ آسفاً بالإشارة إلى مقدمة تشارلز لمن بيده الاستعداد لاستكمال ما نقص مني.. 

 

   ولقد سمعتُ عن ترجمة مصرية، لعلها من الفرنسية، لم يُتَح لي الاطلاع عليها فلا أعلم عنها إن كانت ترجمة شاملة لكل الحوليات أم للفصول الأخيرة الخاصة بدخول العرب مصر.. كما لا أعلم من هو المترجم وهل هو قبطي غيور على تاريخ كنيسته أم مسلم غيور على تاريخ بلده، أم خلاف ذلك، ومع نص خطير كهذا ومؤثر على كل المواقف فإن كل الاحتمالات ممكنة.. .. 

 

   إذاً من القبطية\اليوناية إلى الجعيزية إلى الفرنسية إلى العربية يكتمل الخط المعروف عن النص.. وليس تعدياً على التعهد بالموضوعية التامة أن أثبت هذه الملاحظة عن العناية العلوية (ولأسمها حسن التوافيق لذوي الولع بالموضوعية المادية البحتة) التي صاحبت النص حتى ينتقل من لغة لأُخرى فيصل إلينا بهذا التماسك النصيّ القوي..

 

   والآن، وقد وقعت الترجمة الإنجليزية عندي، جاء دوري في العمل لأقدّم ترجمة الفصول الاثني  عشر الأخيرة التي تحوي تفاصيل الغزو العربي لمصر..

   ومع علمي بوجود الترجمة العربية المُشار إليها لم يردني هذا عن الاضطلاع بدوري في الترجمة والتحقيق، منطلقاً من الترجمة التحقيقية الإنجليزية الأكثر دقة من زميلتها الفرنسية، والممدوحة والتي كانت منتظرة من المختصين في مطلع المئة العشرين، ولاشك أن الترجمة من الإتجليزية الأكثر تحقيقاً ستقدم ما يكون قد فات المترجم من الفرنسية تقديمه..

 

    وبهذا العمل فإنني أزيد سلسلة الترجمات لهذا النص النادر حلقةً متواضعة أرجو لها أن تصل السلسلة بأبناء الأرض التي دار هذا التاريخ على جغرافيتها وأكثرهم عن أكثره غافلون!

 

 

 

 

2

 كيف كتبتُ، وكيف تَقرأ!

 

   وقراءة العمل سهلة جداً، فإنه يبدأ بهذه الدراسة التقديمية المبسطة والمهمة لإحاطة ذهن القارئ بالحقائق التي تضئ الخلفية وتؤسس لإثبات ما يليها من نتائج خطيرة، غير ما بها مما يلفت الانتباه للتفاصيل الشيقة قبل أن يمر القارئ عليها بلا تنبّه لها أو لخلفياتها، فيمر مرور الساهين.. في هذه الدراسة أعرّف النِقيوسي وأفحص حيثيته لكتابة ما كتب، وأناقش القيمتين التأريخية والجغرافية لنصه، وأضع النقيوسي بعمله في مواجهة الدعائيين الفارغين من القيمة العلمية والتي تمتلئ أقوالهم غرضاً ومرضاً متسلحين بجهل سامعهم وبئس السلاح.. كما أضع خطاً تحت قضية مهمة لا يلتفت إليها المؤرخون المحترفون وهي قضية الحس النبوي الذي أطل من حين لآخر بين ثنايا الجمل..

 

   والقضية الكبيرة التي شغلتني أثناء العمل هي: هل أصوغ العمل كله بلغة علمية تامة؟ أم أحليه بالنكهة الروحية الإنسانية والإيمانية؟ أو بكلمات مقابلة: ما هو غرضي من الكتابة؟ تاريخي علمي؟ أم روحي؟ أم دفاعي في مواجهة الدعايات المخالفة للمنهج العلمي والأخلاقي معاً؟ الحقيقة أن كلا الدافعين يعمل بداخلي.. وكلاهما حق وحقيق بأن أكتب به، حتى أنني فكرت في كتابة الدراسة التقديمية مرتين: مرة كتقديم موضوعي محض لعمل علمي تام الموضوعية، ومرة كأنني هو أنا بإيماني المسيحي الشخصي الذي يكفل كل الصدق والأمانة في الحكم ولكنه لا يمنع من مزج الأمانة الموضوعية بالأمانة الإيمانية الروحية.. وانتهيت إلى أن أنحاز للغة الموضوعية، مع السماح بتعليقات شعورية تخرج حين لا تحتمل الحقائق الصمت عن التعليق الشخصي، وهو منهج يسهل للقارئ معه التمييز بين الرصد التام الموضوعية، وبين تعليقات الكاتب الشخصية والتي أترك شكل استجابة القارئ لها له.. وليس ثمَّ خطر من هذا المنهج، ولا ثمَّ تشكيك تقوم له قائمة أمامه إلا من أصحاب الخفة الصبيانية، وذلك لا يُعَوَّل عليه..

 ويتفق المنهج الذي رسوتُ عليه أكثر مع طبيعة الأمور، فليست هناك موضوعية بلا شخص يأخذ منها رأيه ويشرحها من واقع هذا الرأي.. هذا لا يعيب الموضوعية، وإنما يعيبها أن يُفرَض الرأي عليها بالهوى الشخصي بلا منطق..

 

    وأما عن فنيات العرض، فإنني في المتن، وكقاعدة، حيثما أضفت تعليقاً لازماً في متن النص أحطته بزوجين من الأقواس المربعة هكذا [...]، تمييزاً عن الأقواس المعتادة ( ... ) والتي تركتها لترجمة ما يضعه تشارلز المترجم الإنجليزي بين الأقواس، لتوخي الالتزام بتقديم صورة مطابقة في الترجمة للمصدر الإنجليزي قدر الإمكان بالموائمة مع تجنب تعقيد الشكل.. وراعيت أن أضع بين هذه الأقواس المزدوجة الملاحظة التي تلزم القارئ في متابعته الفورية، ولا يلائم معها نقله لهامش خارج المتن ثم إعادته للمواصلة، كأن تكون الملاحظة كلمة توضيحية في الترجمة أو تنويه يتدارك القارئ من الحيرة في جزء غامض أو مرتبك ولا يستريح لمواصلة القراءة دون توضيح آنيّ لما استفهم عنه..

 

   وحين يطول التعليق، كأن يكون تحقيقياً، فإنني عزلته في هوامش مرقمة حتى لا يعوق تدفق النص.. فمع كل جملة مما رأيت تفصيل التعليق عليها لتحقيقها وضعتُ هامشاً مفصلاً.. وفي هذه الهوامش تحقيقات جغرافية وتاريخية.. وأشد معاناتي كانت في إيجاد المراجع، إذ أن وقت كتابتي كنتُ معزولاً تقريباً، فعملت على استخراج كل ما يمكن استخراجه من مراجع قليلة عامة وليست من كبريات النصوص ولا متخصصة، فبذلت مجهوداً ذهنياً شاقاً للتحقيق، عامداً لاستخدام أقصى طاقة مهارتي في استخراج الكثير من القليل، ولاجئاً لعصْر ذاكرتي المرهقة أصلاً للتوثيق بتذكر المراجع التي عبرت عليّ سلفاً ولم تعد حاضرة وقت الكتابة، حتى أنه عندما توفرت لي بعد الانتهاء من العمل بعض المراجع ذات القيمة لم أتعجب من موافقتها التامة لما أثبته في الهوامش..

 

 

   ويلزم الإشارة لقاعدة كتابة أسماء الأعلام عندي، فأنا اعتمدتُ النطق اليوناني والذي كان اللغة الغالبة للعصر المعني فـ"قسطنطين" يظهر "كُنستانتِن"، و"القسطنطينية"  "كونستانتينوبوليس" و"قورش" (المقوقس) أكتبه "كيروس"، و"خليقدونية" ومشتقاتها تظهر بحسب أصل نطقها اليوناني "حلكيدونيا" ويُشتَقّ منها بهذه الصورة، وهكذا، والوحيد المستثنى هو يوحنا النقيوسي نفسه الذي يظهر بالاسم المتداول في الكتابات العربية دون تغيير في حروفه للزوم البحث على الإنترنت.. وقد يستغرب الكثيرون هذه النزعة في كتابة الأسماء عكس ما استقر عليه العرف في كتابتها بالحروف العربية، ولكن لعل الأوان قد آن لنزع كل التشويه العربيّ للأصول، لاسيما وأن الكتاب هذا نفسه يحقق في دخول العرب وتخريبهم، وليست اللغة وليس نطق الأسماء استثناءً. (أقدِّر جداً اللغة العربية وأحبها وأكتب أصلاً بها كما في هذا الكتاب نفسه، ولكن ليس تشويش نطق الأسماء اليونانية مما يخدم تقدير اللغة العربية وليس في نزعتي لدقة نطق الأسماء مما يعيب أصحاب العلم)..

 

 

   ويبقى أن استسمح القارئ في إيراد خط سير العمل ومراجعته.. عكفت على العمل ثلاث مرات.. المرتان الأولى والثانية كانتا متقاربتين في يونيو ويوليو 2008، والمرة الثالثة في أكتوبر 2008..  بدأت أولاً بالترجمة الحرفية الخالية من أية صياغة محلاة، وقد وضعتُ شاشتين أمامي، واحدة للنص الإنجليزيّ والثانية لإثبات الترجمة حرفاً بحرف.. وقد لاحقت عمل الترجمة الحرفية الخام الأولى تلك بوضع هامش مع كل نقطة وجدتُ لها تعليقاً تحقيقياً عندي.. في هذه المرة الاولى كانت تتشكل أمامي عناوين فصول المقدمة التحقيقية وإن لفم اكن قد اتخذت قراراً بوضعها بعد فتركتها مسودة لها بعض العناوين والروابط التي تفيد العنوان من النص المترجم.. أخيراً وبعد إتمام ترجمة الفصول ترجمة حرفية تامة، عدت للجري على النص لتطعيمه بمذاق الكتابات التاريخية القديمة التي تمد القارئ بمذاق الحدث وتضع شعوره في التاريخ المعني دون الانتقاص من دقة النص، وفي هذه المرة كنت أزداد استبياناً من النص على قدرته في تأكيد صحة مادة المقدمة، وازداد استوثاقاً من قدرته كنص مجرد على إثباتها بجدارة، فما إن فرغت على معاودة الجري على أسلوبه ترجمته إلا وقد عكفت على كتابة متن المقدمة.. والآن فقد تركتُ النص على حاله هذا مستريحاً أنني قدمتُ أسلوباً لطيفاً لم يسلب الدقة حرفاً واحداً من مستحقاتها؛ وأما المقدمة فكانت مجرد تجميع للأفكار وإثبات للشواهد من النص، ولم يكن في طاقتي مراجعة أسلوبها..

 

   على أنني، بعد شهور، أُلزِمتُ أمام ضميري بالعودة للنص للمرة الثالثة عند توفر كتاب بتلر أمامي مع بعض المراجع التاريخية الأُخرى عن الحقبة البيزنطية إبان وبعد الغزوات الإسلامية، مع كتاب جمال حمدان "شخصية مصر".. ثلاثة شهور مرت منذ تركت النص وكنت بالكاد قد قمتُ من رقدتي عندما آليتُ على نفسي العودة إليه.. وكان العلم في هذه المرة على تثرية وتوثيق المقدمة التحقيقية للنص.. لم يجعلني بتلر أغيّر شيئاً ذا بال مما حققته أو من تقديراتي، ولكنه استحق أن أضيف وأوثِّق به فصلاً تركته عنواناً ورؤوس فقرات بلا متن، عن القيمة التأريخية لنص النقيوسي وكيف أثُر بعد اكتشافه وغير مجرى آراء علماء التاريخ.. كما كان لكتاب بتلر فضل معاونته لي في تسجيل ثبت بتاريخ أحداث الغزو، في فصل مستقل.. أما الجداول التاريخية عن أباطرة بيزنطة التي توفرت لي فقد مكنتني من إضافة هوامش تحقيقية ثابتة تخلو من التقديرات الاحتمالية.. وأخيراً فقد استفضت في مناقشة حجج جمال حمدان التي حاولت تبرئة العرب من تخريب نظام الريّ في الدلتا..

 

   وسيعبر القارئ بين الفقرة والأُخرى بهذا التنويه (إضافة لاحقة  ......  - انتهت الإضافة)، والذي يعني أن الفقرة أو الهامش قد أضيفت في المعاودة الثالثة له بعد الانتهاء من النص كله.. وغرضي الواضح من ذلك هو أن أحافظ على الشكل الأول الغالي على ذاكرتي، الذي كثتِب مع هوامشه دون مراجع ليثبت بعد توفرها دقته العالية، والذي كان نتاج ظروف ألمْ لم يكن من المتصور معها إنتاج أي شئ..

 

   وأخيراً وقبل التحول عن العمل فقد راجعته مراجعة هينة وأضفت له كلمة الختام في ديسمبر 2009.. وحتى في هذه المرة الأخيرة التي اقتطعتها من أعمال أُخرى متراكمة، طمعاً في مراجعة النص في صحة جسدية جيدة، فإنني أُصِبتُ بتمزق حاد في الكاحل مع ورم مؤلم صاحبَه وطال أمده، ضريبة بركة رحلة روحية علمية قصيرة، فكان أن احتُفِظ لهذا العمل بديمومة سمة معالجته تحت الألم الذي وُلِد فيه أصلاً، تحدياً له ورفضاً لترك فترته عقيمة باطلة من الإنتاج، وها هو يُخْتَتَم فيه ويعزيني عنه..

 

   والآن كما سيظهر لكل منصف في القراءة، فلقد تحريت الدقة القصوى في تحقيق وكتابة كل حرف، فلا أقل من أن يتحرى القارئ الدقة في القراءة.. ولا يصح ختام الفصل قبل الاعتذار للقارئ على ثقل اللغة التي كتبت بها المقدمة.. فالحال أنه في عدم قدرتي على التركيز تنزع عبارتي إلى التكاثف والتعقيد حيث يكون الغرض كله مركزاً على محاصرة الأفكار حتى لا تفلت واحدة، فلا تجد اللغة نصيباً من العمل على سلاستها ويسرها، فعذراً أظنه مقبولاً..

 

   وبعدُ، فلا عمل بلا عيب، وإلى هنا، إلى حتى هنا، حتى هذا المقدار الفائق عن طاقتي أعانني الرب!

 

 

 

 

3

 يوحنا النِقيوسي

 

   الحق أن الشذرات المتوفرة عن الأسقف يوحنا النِقيوسي في التاريخ لا تفي بحق هذا المؤرخ الخطير الذي كتب للتاريخ حولياته فلم يكتب التاريخ حوله الكثير!

   والمصدر الوحيد الذي أعلم عنه أنه ذكر شيئاً عن يوحنا النقيوسي هو كتاب تاريخ البطاركة في الجزء الذي كتبه أسقف الأشمونين الشهير ساويرس المعروف باسم ابن المقفع..

 

   يفيدنا "تاريخ البطاركة" عن صاحب هذا الاسم بقصتين.. فنعرف أنه في سنة 690 ميلادية كان أسقفاً مُقَدَّماً وناظراً على الأديرة وعلى (بعض) إيبارشيات الصعيد.. وكان من مجموعة الأساقفة الذين تولوا محاولة اختيار الباتريارك التالي للبابا يوحنا، وشارك في محاولة دفع مرشح آخر غير الذي تم اختياره بالفعل.. ويظهر أنبا ساويرس كاتب هذا الجزء من العمل الكبير "تاريخ البطاركة" رأياً ناقداً لهذا العمل ومعتبراً أولئك الأساقفة ساهين فيما حاولوا عن أقوال الرب..

  

   ونعلم مرة أُخرى أنه كان بالغ الصرامة إدارياً وأخلاقياً، إذ تورّط مرةً في الإفراط في تأديب راهب أفسد طهارة إحدى العذارى حتى مات جرَاء الضرب.. وأدّت به هذه النتيجة المؤسفة لتلقي حكماً بالعزل من الأسقفية، وصار الحكم المجمعي عليه بالصلاة كمجرد راهب، فرد عليهم رداً قاسياً متنبئاً عليهم بالابتعاد عن كراسيهم إلى حين عودته هو لقاء حكمهم الظالم.. ولا أملك ألا أشم رائحة المنافسة التي ظهرت من هذا الحكم ضد النقيوسي، والذي يؤكدها رد الفعل الغاضب من جانبه حيث تنبأ على حارميه بعدم البقاء على كراسيهم بمقابل ما اعتبره ظلمهم له.. كان التشاحن الشخصي ملموساً وأستبعد أن يكون الخلاف مبدئياً بحت من رد الفعل "النبوي" أو "الرغبوي" العنيف من جانبه..

 

   هاتان هما القصتان اللتان يحتفظ لنا تاريخ الكنيسة فيهما بشئ من التفصيل عن هذا الأسقف المؤرخ الفذ.. ومرجعي هو مخطوطة تحوي الجزء الثاني من تاريخ البطاركة، ومحفوظة برقم "301 Arabe" في مكتبة باريس الوطنية (انظر فصل 12 عن المراجع لتفصيل بيانات المخطوطة).. ولاستكمال غرض التوثيق، سأورد هنا السطور المعدودة التي عَرَضْت بها سيرة النقيوسي في العمل الكبير "تاريخ البطاركة":

  

   "فلما وصل مدينة الإسكندرية (البابا يوحنا وصل الخبر إلى جماعة الأساقفة أنه متوعك فدخلوا إليه وكان صحبتهم إغريغوريوس أسقف الفيس وأبا) يوحنا أسقف نيقيوس وأبا يعقوب أسقف أبواط وأبا يوحنا أسقف سخا وأبا  هدرا أسقف ملنديس وجماعة من الشعب وكانوا كلهم حزاناً .... لما أن مضى أبا يوحنا بالتدكار الجيد اجتمعوا الأساقفة. وكان مقدمهم أسقف الفيس إغريغعوريوس ويعقوب أسقف أرواط ويوحنا أسقف نقيوس وجماعة من الاساقفة والشعب المسيحي وتشاوروا مع كهنة الإسكندرية فأشركوا معهم الكاتب المتولي واتفقوا أن يقدموا جرجة الدى من سخا بطركاً من غير مشاورة الأمير عبد العزيز. وقالوا إن هو وجد علينا أو تقمقم قلنا له أن أبا يوحنا البطرك تقدم لنا أن يكون هذا يجلس مكانه من بعد وفاته وأخذ علينا عهود وأيمان بذلك فلم يمكنا مخالفته. ثم أخذوا الشماس جرجة أقسموه قساً وألبسوه إسكيم الرهبنة. ثم نادوا في البيعة أن في غد يقسم الباتريارك وسهو عن قول الكتاب الرب يعد رارا الأمم (التصحيح الأرجح أن الراء الأولى زائدة والنص يقرأ يعد أراء الأمم) ويبطل أفكار الشعوب ويوقف أمور الملوك (مز 33: 10 – بحسب السبعينية والتي استخدمتها الكنيسة القبطية ومنها الترجمة القبطية كما هو معروف). ولما كان بالغداة ألبسوه توب البطركية وأعدوا حوايجهم بتعظيم. وكانوا مجتهدين في إصلاحه واجتمعوا بأرشي دياقن المدينة وكان اسمه مرقس. وكان رجل فهم فاضل مميز في المدينة فمنعهم وقال إن لم  تجوا يوم الأحد على ما جرت به العادة في القوانين ويجتمع جميع أهل المدينة وإلا فما أوسمه وهذا أمر من الله لنقدم من اصطفاه أولاً وهو اسحق الراهب من أهل شبرا. فلما كان بالغداة وصل قوم من أصحاب الأمير وقالوا أين الدي أوسموه بطركاً وأين الأساقفة والكهنة الدين أوسموه يمضى بهم إلى مصر موكلين بهم فاخدوهم وساروا فلما كشفوا الأمر وجدوا الكتب تشهد أنه ليس الدي قال عنه أبا يوحنا البطرك في حياته فغضب الأمير عبد العزيز وبطل أمر جرجة وأمر بتقديم إسحق. وكان الأمر من الله فمضوا به الأساقفة وأوسموه ..."

 

 

   وفي معرض سيرة البابا سيمون الباتريارك الـ 42 يورد أنبا ساويرس هذه السطور عن مؤرخنا الأسقف يوحنا النقيوسي:

 

   "ثم أنه سلم الأبا يوحنا أسقف نقيوس تدبير حال الديارات لأنه كان خبير بتقلب الرهبان وقوانينهم وأعطاه سلطاناً عليهم وكانوا يعمروا القلالي بغير فتور والأراخنة يقومون بأحوالهم. ثم أن قوماً  من المحبين للشهوات أخرجوا عدرى من ديرها ودخلوا بها وادى هبيب وأوقعوا بها الفعل سراً. فلما ظهر ذلك من الرهبان كان بينهم قلق عظيم ما لم يسمع بمثله في ذلك الموضع فأخذ الأسقف الراهب الذي عمل الخطية وضربه ضرباً موجعاً وبعد عشرة أيام من تأديبه مات الراهب فلما شاع الخبر اجتمعوا جميع الأساقفة بكورة مصر سراً وسألوا الأسقف عن قضية الراهب فأخبرهم بها واعترف أنه الذي ضربه فأوجبوا عليه القطع لكونه تعدى الحد الواجب من أدبه فقطعوه فوقف في أن قطعوه وكانوا قالوا له ما أنت في حل أن تدنو إلى شئ من آلة الهيكل من الآن بل تأخذ السراير كراهب فنادا وقال للشعب كما قطعتموني ظلماً الرب الإله الذى أعرف اسمه يجعل جميعكم يا أساقفة غرباً عن كراسيكم إلى تمام الزمان الذي حكمتم علي فيه ثم أقاموا آخر اسمه مينا من دير أبو مقار عوضه. وكان رجلاً وجيه قوي الكلام محب الإخوة."

 

 

   وقد يتلقَّى كثيرون هذه القصّة بالصدمة، ولهم أن يعلموا أن قوانين الشركة الباخوميّة التي غلبت على أكثر الأديرة كانت تحكم بالجلد بجريد (من النخل غالباً) على الذين يتكلمون بغواية (PL, Vol.23, P.86, CLXIV)، فإذا كان ذاك هو الحكم على من يتكلّمون، فكان طيعيّاً في هكذا حال، أن يدعو ارتكاب الفعل من المدبِّر إلى أقصى العقوبة.. ولذلك فلا عجب أن يرى الأسقف مدبِّر الأديرة نفسه غير مخطئ خطئاً يستوجب حرمانه جرّاء عمله..

   على أن الأمر قد شطّ من مؤرِّخنا الذي يظهر معه أمانته في القسوة أو قسوته في الأمانة تجاه القانون..

   (سبق لي إبداء رأي في القصّة الباخوميّة كلها وليس هذا موضعها على كل حال، وانما هنا أنا أتحرّى قصة تاريخيّة بكل الدقة الموضوعيّة الممكنة)..

   ثم عاجلاً بعد سردهلهذه القصّة، يورد أنبا ساويرس إتمام نبوة يوحنا النقيوسي على حارميه بعد الفقرة السابقة مباشرة:

 

   "وبعد أيام قلايل تم كلام الأسقف القديس على الأساقفة المساعدين على قطعه وعلى كل الأساقفة فنزل عليهم أمراً كان في ذلك الزمان قوماً تشبهوا بالأمم وتخلوا عن نساهم الحلال واخذوا نسا عير الحلال تظهروا بجبتهم للشهوة وكانوا يقولوا أنهم نصارى فيردعهم الأساقفة ويمنعوهم من السراير المقدسة فمضى منهم قوم إلى الأمير وقالوا له قد منعنا أن نتزوج واخرجونا إلى أن نزني فغضب وجمع الأساقفة من كراسيهم إلى مدينة الإسكندرية فاجتمعوا أربعة وستين أسقفاً ولم يعلموا لماذا حضؤوا ولا السبب فيه.وكانوا في كل جمعة يسلموا على الأمير وكانوا أصحاب المقالات الغير أساقفة (وجرت أحداث لا تعني سياقنا إلى ان قال الكاتب:) ثم أمر في ذلك اليوم بام يمنع قداسات النصارى ..."

 

 

   وبهذه المداخلة من الأحداث أورد أنبا ساويرس ما أظهر به إتمام نبوة النقيوسي إذ أُبعِد الاساقفة الحارمين عن كراسيهم بحكم استبقاء استدعاء الأمير لهم بجانب ما تزامن معه من إيقاف القداسات..

   وليس لدينا ما نتحرى به عن دقة إتمام النبوة ببقاء ابتعادهم عن كراسيهم لحين تمام مدة الحرمان، ولكن واضح أن ظاهر الأحداث جرى مسانداُ لنبوة الأسقف يوحنا، لاسيما وأن أنبا ساويرس المؤرخ الذي أورد ذلك لم يكن متعاطفاً معه أو منحازاً له بلا شرط كما ظهر من تعليقه على القصة السابقة..

 

 

 

   هذا كل ما لدينا عن الأسقف يوحنا النقيوسي، ومن هذا القليل المذكور يمكن كتابة سيرة ذاتية تقريبية للأسقف المؤرخ يوحنا النقيوسي تفي بالغرض:

   - نعلم أولاً عنه أنه أسقف لميدنة نقيوس..

   - ثم نراه مشاركاً عن قرب في محاولة اختيار البطريك التالي للبابا يوحنا الباتريارك الـ 40 المنتقل سنة 686 م، إذاً فقد كان أسقفاً في الدائرة المتقدمة من مجمع الكنيسة القبطية قبل هذا التاريخ، فإذا كانت الأمور قد سارت الأمور على طبيعتها، فإن النقيوسي الذي احتل هذه الرتبة المتقدمة كان أسقفاً منذ سنوات ليست بقليلة قبل هذا التاريخ، ويمكن الاصطلاح على أن زمن سيامته أسقفاً لم يتأخر عن سبعينيات المئة السابعة على التقدير الطبيعي..

   - ثم هو يرتقي منصب النظارة على الأديرة وبعض الإيبارشيات في باترياركية البابا سيمون الباتريارك الـ 42 والتي دامت من 692م إلى 700م..

 

   وأما عن مزاياه وطباعه الشخصية فبجانب ما شُهـِدَ له به من علم كنسي أهّله لارتقاء منصب الإشراف الديري العالي،  فإن صرامته الأخلاقية والإدارية واضحة في قصة تورطه في ضرب الراهب المغتصب ضرباً أفضى إلى موته، ومن طباعه الواضحة قوة شخصيته التي ظهرت في مواجهته للمجمع الذي حكم عليه بنبوته القاسية عليهم..

 

   فإذا ما أضيف العمل الضخم للنقيوسي، حولياته، كمصدر للتعرف عليه، فإن كل ما كتبه أنبا ساويرس عنه يجد مصداقاً له في ذلك العمل الذي يظهر تقدم كاتبه في العلم تقدماً ملحوظاً جداً بمقاييس زمنه، مع اتساع درايته ورقعة معرفته بأحداث الزمن المعاصر له..

 

   هذا ما احتفظ لنا به التاريخ عن سيرة الأسقف المؤرخ يوحنا النقيوسي صاحب النص الثمين عن غزو العرب لمصر، وهو قليل كافٍ للغرض وإن كان النقيوسي يستحق أكثر أدبياً..

 

 

 

 

4

حولياته

 

   على عادة أدبيات ذلك العصر، فقد حملَ النِقيوسي على عاتقه حِمل كتابة حوليات منذ بدء الخليقة.. فمن بدء غرضه وتظهر غيرته الدينية.. ومثل هذا العمل يقتضى مرجعية الكتاب المقدس للعصور الباكرة، ويفصح بالطبيعة الإيمانية لتوجهات الكاتب.

 

   وحوليات يوحنا النقيوسي تمتد لـ 122 فصلاً، بدأها بخلق ىآدم وحواء، ليصل بها لحال المسيحيين تحت اضهاد العرب والمرتدين، ليختم الكل في الفصل الأخير بإعطاء الذوكسا للمسيح..

 

   ومن مؤسف الأمور أن الغزو الفارسي الأخير لمصر وطردهم الواقع قبل غزو العرب بعدة عقود (من 610 إلى 627م) قد ضاع من الحوليات.. 

 

   وفي عدة مواضع يظهر النِقيوسي معرفة بتفاصيل لم يروها غيره من المؤرخين مما يجزم باطلاعه على مصادر محفوظة في وقته وضاعت من يد التاريخ لولا ما سجله هو، ومن ذلك ما أورده في الفصل 84: 87 من تفاصيل دقيقة عن قصة مصرع هيباشيا وعن عملها كساحرة (بحسب نظرة المسيحيين السكندريين لها على الأقل)،  لم ترد عند سكراتس (انظر هامش 97) ، ومثل تفصيله لغزو العرب لمصر وإيراده ما لم يرد عند غيره لاسيما حملة العرب على الفيوم التي ضبطت تسلسل أحداث الغزو (انظر الفصلين التاسع والعاشر من هذه الدراسة).. ولا شك أن النقيوسي كانت تقع تحت يده كل مخطوطات وكتب كتّاب البطاركة السابقين بحكم تمتعه بمنصبه الكنسي الراقي والواسع النفوذ، وهو تفسير قوي ومقنع لمصدر معرفته، كما يمد القارئ بالاطمئنان لجودة مصدره..

 

   ومع أن يوحنا كاتب لما يُعرَف بأدب الحوليات، أو تجميع فصول التاريخ كله في مجلدات متصلة تختصر وصف الأحداث لطول امتدادها، فإن عمله الكبير انتهى في فصوله الأخيرة إلى الوصف الدقيق للحدث الخطير الذي وقع في أيام الكاتب، ففصّل له، مختصاً تاريخ خمس سنوات تقريباً باثني عشر فصلاً.. أي أن خمس سنوات حازت نسبة عشرة في المائة من حولياته التي تسجل لتاريخ يزيد على خمسة آلاف سنة بحساب زمنه..

 

   وعلى ذلك فإن النِقيوسي ينتقل في تسجيله للأحداث من منصة المؤرخ الناقل أو المحلل للماضي إلى منصة الشاهد الحاضر لما يكتب.. ومن موضع الملخِّص للقرون إلى المفصل للشهور والأيام.. غنها نقلة كيفية وليست كمية، ويكون  إذاً حديث الأسقف المؤرخ يوحنا النيقيوسي عن دخول العرب مصر ليس مجرد حديث مؤرخ، بل حديث شاهد معاصر للأحداث، متفاعل معها، ومهتم اهتماماً خاصاً بها، ومن هنا تزداد قيمة الفصول التي خص بها وصف دخول العرب مصر..

  

 

 

 

5

يوحنا –المؤرخ- في محكمة التاريخ

 

   سبق في الفصل الثالث عرض كل ما أورده التاريخ عن سيرة الأسقف المؤرخ يوحنا النقيوسي الذي خلا إلا من شذرات ارتبطت بتداخله في أحداث الكنيسة على مستوى القمة الإكليروسية.. على أن الشذرات التي جاد بها التاريخ عنه كانت كافية لرسم سيرة ذاتية كافية للتعرف على شخصية وظروف ذلك المؤرخ..

   وبدورها فإن هذه السيرة الذاتية التي عُرِضَت في الفصل الثالث ستكون كافية في هذا الفصل لتقييم أهليته مبدئياً كمؤرخ لغزو العرب لمصر، وهو ما يعنينا.. ومرة أُخرى أقول منذ متى كان مستحيلاً استخراج الكثير من الدلالات من القليل من البيانات؟!

 

   ولقد عرضت لنا قصتان عن النقيوسي في الفصل الثالث أوردهما أنبا ساويرس، وقد يجد فيهما من يأخذ مكان المعارضة لمصداقية النقيوسي، لأسباب مفهومة، بعض المادة التي يطعن بها على مصداقيته.. وأنا أعطي بعادتي الأولوية لرد الاعتراضات، ولذلك فسأبدأ بإزالة تلك الاعتراضات التي قد تنشأ:

   في القصة الأولى يمكن اتهام النقيوسي بعدم الأمانة والتحايل والاستعداد لتأليف قصة لم تحدث.. صحيح أن واقعة اختيار الباتريارك شابها التحايل والاستعداد للاحتجاج غير الصادق عند وقوع الخطر، ولكن صحيح أيضاً أن هذا الحدث ينبغي أن يُوضَع في منظور مخاوف الأساقفة المحتمل من تولي باتريارك مذعن للوالي الظالم عبد العزيز.. فالمبدأ عندهم لم يكن التحايل ولا الادعاء وإنما كان حماية الكنيسة من خطر قدروه هم، وهو الرأي الذي أثبتت أحداث التاريخ فيما بعد أن له ما يبرره.. فالتاريخ يدلنا على شر الأمير عبد العزيز الذي أوقعه على الكنيسة، وابتداعه لأنواع اضطهادات غير مسبوقة، وأن من غير المستغرب ولا المستحق للوم أن يتوجس المجمع من تعيين باتريارك مفرط الروحانية في مواجهة هذا الحاكم الذي يحتاج للتعامل معه درجة يقظة وسياسة عالية، وهو ما لم يظهر جلياً على البابا إسحق الذي زكاه سابقه البابا يوحنا..

 

   وأما اتهام النقيوسي بالاستعداد للكذب حين اللزوم فينبغي أن يوضع في مقابله عدة ظروف موضوعية أولها أن الأمر لم ينفرد به النقيوسي، وثانيها ان النتيجة لم تكن ستقع عليه وحده بل على كل المجمع الكنسي، وثالثها وأكثرها أهمية في الاعتبار الطبيعي أنه كان تحوطاً اتُّفِقَ عليه تحت تأثير الخوف من العقوبة الصارمة، وأهم من كل ما سبق الوضع في الاعتبار أن الخوف كان يتعدى شخوصهم للخوف على مصير الكنيسة كلها باعتبار حيثيتهم الكنسية المتقدمة..

   وإن لم يكن غرضي تبرير النقيوسي، فإن ما يعنيني موضوعياً أنه موقف إنساني طبيعي وفي ظروف عارضة استئنائية لا يعيب مصداقية المؤرخ في تأريخه، وهو ما يهمنا في المقام، بل وحتى يضع خطأه في درجة غير عالية القيمة أخلاقياً، فالكذب "خوفاً على قيمة كبرى" و"خوفاً من بطش حاكم غاشم" هو رد فعل، وله دافع قويّ، ولا يوضع على مستوى ابتداع الكذب كفعل أصيل ولغرض الإيذاء.. إن كل الظروف المخففة تجتمع لصالح النقيوسي هنا إنسانياً، والأهم أن القصة من أصلها لا تعيبه مؤرخاً..

 

   وأما قصة مصرع الراهب المنحرف فليس بها ما يشين الرجل بالضرورة، فواقعة التأديب هي عمل تقديري يخضع لأعراف الزمن، والواضح جداً لكل محقق أن رد النِقيوسي على حارميه يفصح باطمئنانه الداخلي لصحة موقفه رغم كل شئ.. ومرة ثانية فالقصة لا تقف على أي وجه كمطعن على مصداقية الرجل كمؤرخ، بل بالعكس فإنها قد تدعم هذه المصداقية نظراً لصرامته الأخلاقية التي ظهرت فيها، ومرة ثالثة فلست بمعرض تبريرها في ذاتها، وإنما دراسة مدى تأثيرها عليه كمؤرخ..

 

 

   على أن ما يعنينا من هذا في تقييم قدرات النِقيوسي كمؤرخ لحقبة الغزو العربي لمصر.. فلما كان المتوفر عنه لدينا أنه قد بلغ رتبة النظارة الكبيرة هذه بعد أقل من خمسين سنة من الأحداث المعنية، وكان أسقفاً بالفعل في سبعينيات المئة السابعة بعد ثلاثين عاماً فقط من تلك الأحداث، إذاً يُرجَّح أنه كان صبياً واعياً أو شاباً حدثاً في زمن تلك الاحداث عينها، ولو كان قد بلغ رتبة النظارة العالية وهو في الستين ورتبة الأسقفية في الأربعين لكان قد بلغ العاشرة وصار طفلاً مدركاً وقت الأحداث التي يؤرخ لها.. وحتى لو اخذنا بالتقدير الأحوط وقلنا أنه كان في سن الخمسين فأقل وقت نظارته، لكان قد نشأ وشبَ في محيط ذاكرة شعبية معاصرة تحكي القصة في سنينها الباكرة جداً، وتسلم الأخبار ممن كانوا بالغين وشهود عيان وقت حدوثها، بل وممن كانوا من المشاركين في الأحداث والمتأثرين بها، ولا زالت آثارها قائمة أمام عينيه.. فهو على كل الاحتمالات يسجل التاريخ بقوة شاهد عيان معاصر..

 

   وتزيد قيمته كمؤرخ من واقع حيثيته كأسقف لمدينة نِقيوس ومشرف على إيبارشيات الصعيد.. فبهذا الوضع الروحي والإداري الكبير يجمع مؤرخنا، مع معاصرته للأحداث، المعرفة الجغرافية الدقيقة بأماكن الأحداث، ثم والأهم من كل تلك الاعتبارات المهمة إتاحة الفرصة له على التعامل مع نطاق واسع من شهود العيان يستعرف منهم التفاصيل الدقيقة..

 

   لقد جمع النقيوسي من ثَمَّ الإحاطة التاريخية والجغرافية التفصيلية بالأحداث وبقوة شاهد العيان أصلاً..

   إذاً فمؤرخنا النِقيوسي مؤهل من حيث المبدأ مكاناً وزماناً ووظيفةً للعمل الخطير الذي عمله.. هذا هو يوحنا النِقيوسي من تأريخ الآخرين عنه: رجل خَبَر حقائق وتحرى عما لم يَخْبَره، ومَلَكَ إمكانية الوصول إلى ما يتحراه..

 

   يبقى لتقييم النقيوسي كمؤرخ الاطّلاع على سمات أهليته من ذات عمله...

 

   والآن وبعد الاطمئنان لتوفر الأهلية للنِقيوسي لما نترجمه له، سواء من واقعه المادي أو الشخصي، فإن تفاصيل تواريخه تزيد الثقة لحد الذهول من دقة كل الارقام التي انفرد بتسجيلها.. حتى أنني لم أملك نفسي من الذهول من حفظ هذه التواريخ الدقيقة عبر ورغم الرحلة الطويلة للمخطوطة بين اللغات وأقلام المترجمين.. ولما كان تعيين  التواريخ أكثرها قد انفرد بها النِقيوسي، فإذاً تنتفي شبهة تلفيق المترجمين المتأخرين لها، وإلا ما أتت بهذه الدقة..

 

   وتتصل الشهادة لصدقه ودقته حتى الواقع الجغرافي والديموغرافي الحاصل إلى اليوم، وإنه ليكتب وكأن جغرافية مصر أمامه في خريطة مفتوحة، وعلى كل نقطة منها كتاباً خاصاً بها للتاريخ يصف الأحداث فيها.. وكل ما قاله النقيوسي من تفاصيل جغرافية باقِ للآن في خريطة مصر التي لا تتغير إلا وتترك آثاراً تدل على التغير..

   ثم بعد كل ذلك، وبجانب ما في وصف المؤرخ يوحنا النِقيوسي من إحكام الدقة، فلا يملك منصف إنكار ما في أسلوب كتابة يوحنا من بساطة الصدق بالمثل وأكثر..

 

   إن من يقرأ الفصول الأخيرة في حوليات النِقيوسي ينظر لحال مصر الآن وكأنما بقي الوضع على ما هو عليه، وعلى المتضرر من شهادة هذا المؤرخ الشاهد اللجوء للصمت.. فبحق بقي الوضع على ما هو عليه.. فلازالت المدن والقرى بنفس أسمائها، ولازالت طباع أهلها مثل ما كانت عليه في تصوير النِقيوسي لها، ولازالت شهادة الأمثلة الشعبية الباقية على ألسنتهم تشهد لصحة ما سجله النيقيوسي (انظر كتيّب "الدعائيون يكذبون والأمثلة لا تكذب" للكاتب)، ولازالت الجغرافيا المصرية، رغم جفاف عدة أفرع من النيل، تحمل آثار جيولوجيا الماضي، ولازالت مياه النيل القابعة تحت الكنيسة المعلقة تتكلم بصوت أفرع النيل التي وإن جفت فإنها تتكلم بعد.. وكل ذلك يضفي على فصول يوحنا النِقيوسي شهادة فوق شهادة بروعة الصدق..

 

 

 

 

6

والتاريخ في محكمة المؤرخ يوحنا

 

   في الفصلين السابقين دخل النقيوسي مع حولياته محكمة الـ"تاريخ" مؤرخاً ليخرج بكل أوسمة الدقة والأهلية.. وهو الآن يدخل محكمة الـتاريخ وبالأحرى محكمة الـ"تأريخ" قاضياً ليحكم هو على مؤرخين أتوا بعده..

 

 

6-1) النِقيوسي يرد بتلر عن رأيه؟

 

   أسفت جداً وأنا أطالع كتاب "الكنائس القبطية القديمة" لألفرد بتلر، بترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم، إصدار هيئة الكتاب، عندما قرأت فيه هذا النص عن حصن بابلون: "وفي هذا الحصن أيضاً يتمركز مصير الأمم لأنه في هذا المكان ختم اليعاقبة باستسلامهم الخائن انتصار الإسلام السريع ومصيرهم هم أنفسهم المتمثل في الخضوع الأبدي".. ووجه الأسف هنا، غير بشاعة الحدث ذاته، أن هذا الحكم الظالم الجاهل يصدر من مؤرخ موضوعي وكبير هو بتلر.. الحكم ظالم وجاهل بيقين التاريخ، ويخالف مخالفة فجة للشواهد الظاهرة، بَلَهْ تلك التي تحتاج لاستجلاء..  فأولاً لم تتوفر ولا شهادة واحدة عن دعوة المصريين للعرب أصلاً.. ثم ثانياً أنه بعد دخول الأخيرين قامت ضدهم ثورات كثيرة من قبل المصريين سجلها المؤرخون العرب أنفسهم.. وأخيراً فإن حكم التخاذل والخيانة يلحق ببعض قادة الجيش الروماني، ودون ذلك ما هو معروف عن تراسل المقوقس مع نبي الإسلام، وإهدائه هدايا معروفة، ثم تعيين عمرو له حاكماً للإسكندرية بعد سقوطها! وهي كلها من واقع التاريخ الذي دونه المسلمون لا غيرهم.. وهذه كلها ليست مجرد شبهات على جريمة الخيانة، بل تقوم في ذاتها كجريمة، وتكفي لإعدام أية رتبة عسكرية أو مدنية في أعرق الليبراليات..

   ففي ضوء كل هذه الحقائق المتوفرة، كيف يمكن توجيه تهمة الخيانة للقبط من مؤرخ محترم؟! وإذاً وبحق وبكل الموضوعية فإن حكماً كهذا من بتلر المؤرخ المشهور بالاتزان والبحث الواسع لهو أمرٌ محبط.. ومما يصلح هنا لمعالجة حكم بتلر السالف تصدير شهادة النِقيوسي له، ولا مزيد!

   وإنني لأتذكر أمام هذا قراءة قديمة لكتاب بتلر الأشهر: "غزو العرب لمصر" سجل كثير من مذابح العرب ومقاومة المصريين وخذلان الرومان لهم.. فأحسب بعين الحكم الشامل أنه ربما يكون كتاب "تاريخ الكنائس والأديرة" قد كُتِبَ قبل اطلاعه على عمل تسوتنبرج الذي نـَشَر للمرة الأولى على المجتمع العلمي الغربي حوليات النِقيوسي..

   وبما ان كتاب غزو العرب مصر" قد كثتِب فيما أذكر في مطلع القرن العشرين، بعد نشر البحث عن النقيوسي بوقت كاف، يكون الترتيب الراجح هو قيام بتلر بتأليف كتابه "الكنائس القبطية" أولاً والذي أورد فيه حكمه التاريخي المخجل، ثم تلاه ظهور عمل تسوتنبرج عن النقيوسي، ثم لاحقاً بأكثر من عشر سنين قام بتلر بكتابة ونشر عمله الشهير "غزو العرب مصر"، والذي فيه كما أذكر أحكاماً دقيقة مفصلة تناقض ما جاء في كتابه الأول..

   ولو صح ذلك الترتيب لصح بنفس القوة الاستنتاج القاضي بأن المؤرخ القبطي الأسقف يوحنا النقيوسي رد المؤرخ الإنجليزي القس ألفرد بتلر عن رأيه..

   ولقد وضعت أمامي هذا الاحتمال وتوجهت لفحصه، وبالتحري وجدتُ أن كتاب "تاريخ الكنائس والاديرة القبطية" قد كُتِب سنة 1884 بعد ظهور عمل في 1883 تسوتنبرج بسنة واحدة.. وإذاً فيبقى احتمال ان بتلر لم يطلع على العمل الصادر في باريس بالفرنسية هو الأقوى لظهور كتابه سنة 1884 بما يقضي بأنه كان تحت العمل فيه بالفعل قبلها بسنوات.. والآن مع الحكم المعقول جداً بفضل النقيوسي على تعديل بتلر لرأيه، يبقى من نصيب الذنب على بتلر تجاهله لكل التاريخ الإسلامي القاضي بغير حكمه.. وما يبقى لاستكمال هذه الفقرة هو مراجعة كتاب بتلر "غزو العرب مصر" لفحص لأي درجة أقر بتلر بخطئه وماذا قال تحديداً عن فضل النقيوسي في ذلك..

 

 

   (إضافة لاحقة (أكتوبر 2008): رائع! الآن أمامي كتاب بتلر في أصله الإنجليزي، وأمامي أيضاً ترجمة محمد فريد أبو حديد العربية له.. ومعي جُل كتب التاريخ العربي حتى المقريزي، والآن متاح لي استكمال هذا الفصل الثمين فنياً، واستكمال هذا العنوان مع العنوانيين التاللين "سد فجوات المؤرخين العرب" و"مناقشة هامش برئ لأبو حديد" هي إضافة لاحقة ...

 

 

   ثَبَتت الرؤية: النِقيوسي يرد بتلر عن رأيه (راجع الفقرة الأولى في الفصل ثم تابع):

 

   صد كتاب بتلر "غزو العرب مصر" سنة 1902 أي بعد ثمانية عشر عاماً من إصداره لكتابه عن تاريخ الكنائس والذي ورد فيه حكمه المخجل، وبعد تسعة عشر عاماً من إصدار تسوتنبرج للنسخة الفرنسية لتحقيق مخطوطة النقيوسي.. أي كما توقعت..

   والمثير جداً أنه أبدى شغفه وشغف الدوائر العلمية لصدور نسخة تشارلز الإنجليزية الأكثر تحقيقاً للمخطوطة، وهي ذات النسخة التي ترجمتُ أنا منها في هذا الكتاب..

   وقد توالت فوق الطلب والحاجة الفقرات التي تقطع بتحقيق صحة الاحتمال الذي رجحته قبل توفر نسخ كتاب بتلر لي.. فقرات كثيرة وقوية تجزم بما سلف من تقدير عن ضرورة تغيير بتلر لحكمه بعد اطلاعه على عمل النِقيوسي.. وها هو بتلر يعترف بخطئه صريحاً وبحسب ترجمة أبو حديد التي أنقل منها دون تعديل:

          " فبدأنا درس التاريخ وكان الاعتقاد السائد أن القبط ساعدوا العرب ورحبوا بهم غير أننا اضطررنا إلى أن نعتقد أن التاريخ قد ظلم القبط في ذلك ظلماً فاحشاً" (ص37، فتح العرب لمصر، بتلر، ترجمة محمد فريد أبو حديد)..

          وفي موضع آخر يعترف بفضل النِقيوسي عليه وعلى غيره من المؤرخين في إنارة ظلمات هذه الحقبة فيقول: "لم يكن في الإمكان أن يُكتَب تاريخ الفتح العربي لمصر لولا أن عثرت البعثة البريطانية إلى بلاد الحبشة على نسخة مخطوطة من كتاب حنا" (المرجع السابق ص25)..

          وبالإجماع يصف عمل يوحنا النِقيوسي بأنه: "ديوان (حنا النقيوسي) عمدتنا الأعظم" (ص194، هامش 1، المرجع السابق)..

          وهذه هي الفقرة الناطقة بالحكم على بتلر نفسه من قلمه، يقول: "وهذا التاريخ [إشارة لتاريخ معركة تنيس في يوليو 642] له قيمة كبرى ودلالة عظمى، فإنه يدلنا على أن مقاومة المصريين للعرب استطال أمرها في بلاد مصر السفلى وظلت إلى ما بعد فتح الإسكندرية. وإذا ذكر أن أهل (تنيس) وما يليها من البلاد الواقعة في إقليم تلك البحيرة كانوا من القبط الخلص، تنبض قلوبهم بما تنبض به قلوب القبط، عرفنا أن وقوع تلك الوقعة في ذلك الوقت دليل جديد على فساد الرأيين الذين طالما خدعا الناس [وخدعا مؤرخين مثل المتكلم هنا] وتقادم عليهما الدهر وهما يكفران الحقيقة، وهما أن مصر سلمت للعرب بغير قتال، وأن القبط رحبوا بالعرب ورأوا فيهم الخلاص مما كانوا فيه." ص309، المرجع السابق..

          وما سبق على سبيل المثال في حدود ما توفر لي من وقت للإضافة..

  

   لقد أثبت في رأيي السابق على الاطلاع على كتاب بتلر "غزو العرب مصر" أن حكم بتلر عن الموضوع فيه كان جاهلاً وظالماً، وهاهنا يحكم بتلر على ذات رأيه بالانخداع وبتكفير الحقيقة..

   كما أنني أرى الآن مع هذه الشواهد أن بتلر حال رأيه الأول في كتاب "تاريخ الكنائس القبطية القديمة" لم يكن قد درس شيئاً عن القصة كلها، وبالتالي لم يكن له أي تقدير أصلاً، صحَ أم خاب، على الشواهد التاريخية المتوفرة في المصادر العربية ذاتها، وأنه أصدر رأيه الأسبق بطريقة التكلم حسب السماع Hearsay.. ولقد انتهى بالحكم على نفسه بأنه جاز عليه الانخداع برأيين "كفَّرا" الحقيقة.. حسن جداً، ويكفيني ويزيد..

 

 

6-2) سد فجوات المؤرخين العرب

  

   من حيث المبدأ فإن المؤرخ القبطي يبزّ دون شك كل المؤرخين العرب بحكم كونه رجل من رجال الكنيسة المصرية وكونهم من ذوي النزعة العربية المعروفة بالإهمال في دقة التآريخ.. فمن آثار العرب التأريخية نعلم أنهم كانوا يؤرخون بعموم السنة دون كبير اكتراث بتعيين اليوم، والسنة نفسها يعينونها بحادث وقع فيها أو ببعدها عن سنة وقع فيها حادث معروف، ودون الباحث أشهر الأمثلة على ذلك وهو التأريخ بعام الفيل لسنين كثيرة قبله وبعده.. وأما على الجانب القبطي فإن تحديد الفصول والأيام يفوق في قيمته التأريخية بما لا يُقاس في مقابل النزعة العربية المتساهلة، فالسنة القبطية الشمسية  عالية الدقة بحكم وظيفتها الزراعية وطبيعتها الفلكية.. يُضاف إلى ذلك كون النقيوسي ليس قبطياً عادياً بل هو من الرجال المبرزين للكنيسة القبطية صاحبة الاهتمام العالي جداً في الحساب الفلكي والتدوين الكنسي.. هذا من حيث المبدأ، وإن لم تغننا الملاحظة عن لزوم الفحص والمقارنة الموضوعية، وبالفعل ...

 

   ... لم يفدنا المؤرخون العرب بتفاصيل الغزو.. نعلم منهم تواريخ الدخول إلى الفرما وسقوط بابلون وسقوط الإسكندرية مرتين، ولكن لا نعلم خط السير.. ومن عبد الحكم إلى المقريزي لم يذكر احد شيئاً عن غزو الفيوم وسقوطها.. لم أجد في كل كتب المقريزي تفاصيل دقيقة ومنطقية لخط سير عمرو مع جيشه..

   ويذكر بتلر (في صفحة 485 من ترجمة "أبو حديد") عن غزوة عمرو لإقليم الفيوم في مايو سنة 640 أنه "لا يذكر هذا التاريخ غير حنا النقيوسي وحده"..

   والاستطراد في هذه النقطة الفنية سهل وثري، ولكنه فوق طاقتي وفوق طاقة المجال المتاح لهذا التقديم المبسط وإن طال، فاكتف بإثبات هذه النقطة الفنية التي تزيد ثبات تأريخ النقيوسي لغزو العرب مصر في موضعه الرفيع..

 

 

6-3) مناقشة هامش برئ لـ"أبو حديد"

 

   لا يمكن لمنصف ألا يحترم محمد فريد أبو حديد مترجم كتاب بتلر.. لقد اضطلع الرجل بترجمة علمية أمينة محترمة.. ولا يعيب ترجمته إلا ما صنعه أصحاب الطبعات التالية بها من حذف وتحايل، وقد عرضت مثالاً لهذا في مقال "رجسة الخراب – تسجيل بتلر لشهادة الباتريارك صفرونيوس" (ملخص القصة أن بتلر سجل في مقدمته الطويلة قصة باتريارك أورشليم صفرونيوس مع خليفة المسلمين عمر وكيف اكتأب عند رؤيته ووصفه باليونانية لمن بجانبه وهم مع عمر في كنيسة القيامة بأنه هو رجسة الخراب التي تنبأ عنها دانيال، وصمت بعدها الباتريارك، وكان واعظاً قديراً، حتى مات سريعاً.. سجل بتلر هذا ولكنه لم يظهر في طبعات هيئة الكتاب لترجمة "أبو حديد"، على أنني علمتُ من أحد القدماء الموثوقين أنه قرا هذا الكلام في كتاب بتلر، وكان يشير للنسخة العربية التي لم تكن غير ترجمة "أبو حديد".. تعجبت من الأمر مع تأكيد هيئة الكتاب في مقدمة طبعتها أن الطبعة نسخة تصويرية من الكتاب بحسب طبعته الاولى.. ولم يطل تعجبي عندما وجدت في ختام الفقرة أن الهيئة قامت بتصحيح الاخطاء المطبعية في الطبعة الاولى القديمة دون هوامش باستخدام "إمكانيات الهيئة الفنية"!!!.. والإمكانيات الفنية التي تسمح بتصحيح خطأ في الأصل تسمح بالأسهل بحذفه.. وواضح أن شهادة الباتريارك صفرونيوس هي خطأ كبير في عرف القائم بالعمل)..

 

   فماذا على أبو حديد في محكمة النقيوسي؟ عليه هذا الهامش الذي كتبه وورد في صفحة 197 برقم 1:

   "لم يكن من مذهب العرب ولا مما يوصيهم به الدين والخلفاء أن يقتلوا طفلاً او امرأة – ولعل ذلك خطأ من (حنا النقيوسي) دفعه إليه كرهه لأعداء بلاده ودينه ولو حدث شئ من ذلك لما تردد مؤرخو العرب في وصفه فإنهم لا يدعون شيئاً إلا وصفوه حتى ولو كان شديداً عليهم (المعرب)." (انتهى نص هامش "أبو حديد")..

 

   لا حاجة لـ"أبو حديد" أن يفترض بغضة النقيوسي لغزاة وطنه (فيما سماه "كرهاً")، ولم يكن ليجادله أحد أصلاً في أن النقيوسي لم يكن متعاطفاً معهم، فهذه طبيعة النفوس السوية، وهذا ما يقوله النقيوسي من حين لآخر صراحةً.. ولكن الحديث هنا حديث وقائع تاريخية لا حديث عاطفة ومبادئ مستحدثة وملصقة بأثر رجعي..

   وواضح جداً ان حديث "أبو حديد" حديث طوباوي افتراضي،  وسأكون حريصاً جد الحرص على عدم تحويل الفصل إلى فيض من النقد الديني ضد الإسلام، مكتفياً بإثبات المختصر جداً مما يكفل التفنيد السريع المتسم بالموضوعية لدعاوى "أبو حديد" النمطية:

 

   *هل لا يسمح مذهب العرب غزاة مصر تحديداً بقتل الاطفال والشيوخ؟

 

   يقول القرآن إن العرب عرفوا وأد البنات (وإن لم يصل لحد الظاهرة، وإن كانت المبالغة فيه تأتي لسبب مفهوم من قِبَل الدعائية الإسلامية، وإن كان يمكن إثبات قيام حالات شرف وتشريف للمرأة في الثقافة العربية في عمومها، ولكنه –وأد البنات- على كل حال وُجِدَ)..  

 

   ثم أن تاريخ سوسيولوجية العرب يحفظ لنا جل صفات تلك الطائفة العريضة من البدو، التي تُسمّى عند أشراف العرب أعرباً من قبيل تهوين الشأن والترفع عنهم، وهم الذين كانت منهم لحمة الجيوش الإسلامية وكانوا لا يرعون ذمة ومصدر معيشتهم هو الغزو  ومهاجمة القوافل للنهب والسلب..

 

   ونأتي لملاحظة طبيعة الحروب ألا يترك المحارب سلاحاً لا يستخدمه إلا إذا كان من ذوي المبادئ السامية التي لم يُعلَم اتّسام الأعراب بها، وهم الأشد نفاقاً وكفراً بحكم القرآن، ومن أسلحة المحاربين الإبادة للتخويف لاسيما في حال تكاثر أعداؤهم وهو الحال وقتها بالنظر لأعداد سكان البلاد مقابل أعداد الجنود..

 

   إذاً ومن كل وجه فإن اجتماع الغرض مع الاستعداد مع السوابق المرصودة يجعل حجة "أبو حديد" الأولى حبيسة الشعارات والنوايا الطيبة، وليس هكذا التاريخ..

 

 

   *هل لا يصمهم دينهم ذاته بذلك؟

 

   ولو فُرِض هذا جدلاً، فإن ذات دينهم يقول إن الأعراب أشد نفاقاً وكفراً.. وذات دينهم يقول إن أئمتهم وأشرافهم نُعِتوا بأن فيهم جاهلية (ورد هذا في غير حديث من ذلك نعت نبي الإسلام نفسه لأشد صحابه بأساً، عمر، بأنه امرؤ فيه جاهلية وغير ذلك).. وإذاً فإن دينهم يصفهم بذلك ولا يقم عليهم حداً من قبله، ولم يخرج أمر جاهليتهم عن حدود المعاتبة التي تخفي تفاخراً ملموساً بالطبع "الجاهلي"..

 

   كما أن التاريخ يرصد وقائع مخزية لمشاهير وعتاة صحابة نبي الإسلام، ودون الباحث القصص المعروفة عن خالد ابن الوليد وشأنه مع مالك ابن نويرة وزوجته وما قام به من قتل متعسف وزنا، ثم خالد ابن الوليد مرة أُخرى وقصة فتكه بأسرى العراق، وقصة انتقام عبد الـله ابن عمر ومبادرته بقتل كل من ظن فيهم قتل أبيه، ومعارك حصدت عشرات الآلاف بين أهل محمد وبعضهم البعض، وبين أصحابه وبعضهم البعض فقبل انقضاء خمسة وعشرين عاماً من موته وإذا ربيبه وابن عمه الذي حماه وأحب زوجاته وبعض الذين بشرهم بالجنة يشتبكون في معركة حصدت عشرات الألوف في معدودات الأيام على اختلاف التقديرات، وقُتِل فيها الزبير ابن العوام الذي قاد المدد في غزوة مصر، غدراً من أحد العرب الذين لاقوه في الطريق، ويضيق المجال عن تلخيص التلخيص للتقتيل والغدر بين لا العرب فقط ولا العرب المسلمين فحسب بل بين الخُلْص من أصحاب نبي الإسلام.. فهل منعتهم مبادئ دينهم من فعل ما فعلوا؟

 

   ثم من كان قادة الجيوش العربية؟ عمرو ابن العاص ومعروف تاريخه الأخلاقي والعائلي وليس غريب عن سيرته نذالته في خدعة التحكيم المشهورة، والزبير الذي حارب عليّ ابن أبي طالب نفسه ابن عم محمد، وفرّ عند هزيمته فقتل غدراً من عربي مسلم آخر في فراره..

 

   وعودة للتسليم الجدلي بأن مبادئ الإسلام تمنع من قتل الأطفال والشيوخ، فإنني أعفو عن الدخول في هذه الساحة، مكتفياً بذكر عدة مبادئ وأحكام معروفة في الإسلام.. فمن مبادئه أن الضرورات تبيح المحظورات، وفي الحرب فسحة كبيرة لاحتشاد الضرورات التي يقدرها رجال حرب لم يخل تاريخهم من مواقف متوحشة ونذلة.. ومن الأحكام هذا الحكم "الفقهي" العجيب الذي يسير على نحو أن قتل الطفل الكافر هو خدمة له لا جريمة لأنه ليس على الطفل تكليف بالإيمان، فقتله يدخله الجنة، أما إن كبر وبقي على كفره مات في النار.. لا أقول إن المسلمين عمّموا هذا الحكم الثابت عندهم، ولكن أقول إن الدين الذي يفسح مكاناً لهذا الحكم ولا يخرج صاحبه مجللاً بالعار من حظيرته، لا يمكن أن تمنع بقية مبادئه من قتل الأطفال باليقين الذي تكلم به "أبو حديد"..

 

 

   *هل أخطأ النقيوسي في بغضته لأعداء دينه أم أن شهادته تأتي مؤيدة بمنطق دين أعداء دينه؟

 

    ثم لأذهب لما بعد آخر مطاف الافتراض، وأفترض ما يصعب افتراضه بأن القوم قد عملوا بالوصية الطيبة وما إلى آخره، فكيف بهم يطبقون حكم دينهم المعروف والثابت ويضعون الاختيارات الثلاثة –الارتداد أو السيف أو الخضوع والجزية- محل التنفيذ؟ أضع هذا السؤال القاطع الذي لا يمكنه الإفلات من الإجابة الوحيدة التي هي أن قتل الأطفال والنساء كان نتيجة حتمية للتطبيق الدقيق لحكم القرآن نفسه، ويمكن الحساب المنطقي لذلك ببساطة:

   معروف بلا جدال أن ثلاثة اختيارات وُضِعَت أمام أهل الكتاب في الحروب مع المسلمين: الإسلام أو الجزية أو الحرب.. فأي اختيار اختاره النساء والأطفال؟ واضح أنهم بقوا أمناء لدينهم، وواضح أنهم كانوا من المدن المقاوِمة أي ممن رفضوا الاستسلام ودفع الجزية، وواضح أن الأطفال كانوا كثر وأن ظروف جيش العرب لا تسمح بأسرهم لأسلمتهم فيما بعد، فماذا تبقى للعرب من اختيارات فرضها دينهم؟ السيف لا غير!

   صحيح أن تاريخ الإسلام عرف كثيراً من الحالات الشاذة عن الحكم القرآني والتي تم فيها الإغضاء عن تنفيذ الحكم عند توفر المنفعة، ومنها حالات قام بها محمد بنفسه كالإبقاء على إحدى يهوديات خيبر حية رغم رفضها الإسلام والزواج به لتبقى جارية تحت إمرته لسبب مفهوم، صحيح حدث ذلك وتكرر حدوثه ولكن حتى تلك الحوادث، التي بٌنِيَت على المنفعة لا الأخلاق والرحمة، لا يملك "أبو حديد" الاحتجاج بها، ولا يملك الراصد إلا الإقرار بأن جيش العرب الداخل لمصر أوفى أحكام القرآن "حقها"..

 

   والآن فعندما تتفق ضرورات منفعة العرب في مصر مع ثوابت في دين العرب مع طبيعة وثقافة الجنود مع شهادة مؤرخ بحجم النقيوسي فلا يبقى مطلب لأحكام القرآن ولا مدخل للاحتجاج ضد شهادة النقيوسي ولا عزاء لـ"أبو حديد" وإن كان له احترامي..  – انتهت الإضافة)

 

 

 

6-4) الدعاية الوطنية والدعائية المصروية

 

   وكالحريّ بأهل الدعاية الوطنية المتزنين أن يجدوا في النقيوسي فرصة للإشادة بمؤرخ وطني نظر لكل الفرقاء الأجانب نظرة مصري وطني مخلص، فالرومان لديه محتلون لوطنه، والعرب أيضاً وافد جديد يستبدل احتلالاً  أبشع باحتلال أهون (والباء تدخل على المتروك!)..

   وهذه دعاية لا بأس بها وبغرضها الطيب خلا كونها، إذا بولغ فيها، تجافي الموضوعية التي لا حيلة لأهل البحث الأمناء في تجنبها..

   وأما المتطرفون من أصحاب الاتجاه "المصروي" الهوية والهوى فكالمعهود منهم أن يركبوا الشطط ولا يكتفوا بتوصيف النقيوسي على هذا النحو، بل لعلهم يبالغون في جعله عدواً بالتساوي للجميع لا فرق عنده بين احتلال واحتلال.. وهنا أقول بكل موضوعية، وأنا المصري قلباً وقالباً: لا عزاء لغير الموضوعيين:

   فالنظرة التقييمية الموضوعية ترى في ميزان العصر كله كفتين: الدين والمعاملة، في زمن ما كان للحس الوطني كفة راسخة على الميزان..

   وبكل الموضوعية يخلص الدارس إلى أن النقيوسي كان ينظر للفريقين نظرة رفض، ولكن على معيار ديني ومذهبي وليس وطني، وعلى معيار إنساني حين يجد منهم الاضطهاد أو التضييق على معيشة شعبه.. ولذلك كان يميز بين الرومان والعرب مرتين: مرة باعتبار الأولين منحرفين مذهبياً فحسب بينما الأخيرين أصحاب دين معادي شيطاني، ومرة باعتبار الأخيرين دائمي البربرية والوحشية، والأولين ارتكبوا من حين لآخر أعمال تعذيب....   

 

   لقد قدّم النقيوسي شهادته حالمة كل سمات البنت الشرعية لمعايير عصره، فيلوم وينتقد بمعايير عصره والتي هي أولاً المعيار الديني المذهبي، ومعه ثانياً المعيار الإنساني الدائم الذي هو حكم الإنسان على الحاكم بحسب مصالح المعيشة اليومية.. وعلى هاتين الكفتين وزن النقيوسي نقده للفريقين، ولذلك نلمس تمييزه بين الرومان والعرب رغم كل شئ، والمدقق يلمس أنه يلوم الرومان ليس بحنق بقدر ما هو بتوبيخ على ما سببته هذه المعاملة من دخول العرب وانتصار دينهم الذي هو دين الوحش، وفي كل ذلك ففكرة المعيار "الوطني" كانت غائبة لاسيما في بلد اعتاد حكم الغرباء كمصر، ولقد كان الزمان غير الزمان ولا عزاء لأهل الدعاية في بحث موضوعي..

   (وقد عدت لمناقشة هذه القضية مرتين، مرة في الفصل الفرعي التالي عن "الدعائية الإسلاموية"، ومرة في الفصل الثامن عن "الحس النبوي لدى النقيوسي"، حتى وجدتُ من الأوفق إفرادها في فصل مستقل أخذ موضعه في نهاية هذا الفصل السادس.. 

 

   على أن الدعائيين المصرويين أقل فجاجة من غيرهم من الدعائيين الإسلاميين الذين وصلت وقاحتهم لافتراض أن النقيوسي أشاد بالعرب وبعدلِهم ورحمتهم (هكذاّ) وسُحقاً للنص ولمن يقرأه كما يقول لبسان حالهم... 

 

 

 

 

6-5) الدعائية الإسلامية

 

   وهي بمثابة المتهم الداخل محكمة النقيوسي من باب سيئي السمعة.. وهي أهون الجميع في ضبط ثبوت التهمة، وإن كان استدعاءها سيلوِّث خِضمّ الموضوعية السائد.. والمتهم هنا ليس شخص بعينه، وإنما النزعة الدعائية الوقحة الادعاءات المستهجنة من كل العقلاء..

   ولا أقصد هنا أن أستدعي للمحاكمة الخرافات المعروفة عن دعوة القبط للعرب لإنقاذهم، بَلَهْ ترجّيهم، وما هو متكرر من قبيل حسن معاملة العرب للقبط وحسن التعايش 1400 سنة.. كل هذا كلام لا يرقى لمستوى التفنيد ولم تكن من حاجة للنقيوسي لمحاكمة هذا الكلام، فالنصوص التاريخية الإسلامية ذاتها تغني وتزيد وتملأ الساحة.. 

   وإنما المتهم هنا هو  الدعائيون الذين يحاولون انتهاز جهل الناس بنص يوحنا النقيوسي ليختطفون اسمه ويروجون إلى أن المؤرخ القبطي الأسقف قد برأ العرب وأشاد بهم وشهد لعدالتهم! نعم قالوها! ومنهم "الدكتور" محمد عمارة (انظر مقال "حالة عُمارة" المخصص لتحليل ونقد مسار عمارة في الدعوة والدعاية)

 

   وكأنما النص غير متاح ولا مقروء ولن يوجد من يفتش عنه ويترجمه أو يعيد نشر ترجمته الأولى..  والطريف في سياق هذا الباب أن "أبو حديد" في الفصل السابق تكفّل بحمل رد على ذلك! إن فريد أبو حديد كان منطقياً وموضوعياً عندما علّق على رصد النقيوسي لوحشية العرب بأنه " دفعه إليه كرهه لأعداء بلاده ودينه ".. وناقشتُه في هذا وعلّقت بالمقابل (انظر الفصل السابق)، ولكن أن يُقال إن النقيوسي أشاد بالعرب؟! أو على الأقل شهد بحسن معاملتهم للقبط؟؟!!.. فهذا أعجب ما يقال وأسهل ما يُفَّنَد..

 

   فكرت في تجاهل هذه الفقرة لفجاجة الدعائيين فيها، ولكن في تقدير لاحق فكرت فيما المانع من الحكم على الدعائية الفجة بموضوعية صارمة؟

   على أن تناولي للفكرة بموضوعية يتعدى مجرد تكذيبها، وهو أهون من الكتابة فيه، وإنما سأعمد هنا للتفتيش عن الفقرة أو حتى السطر الذي شجّع الدعائيين على الاتكال على اختطافه حين اللزوم والتعلل به.. ترى أين هذا السطر؟ لقد قرأت النص عدة مرات لأعثر على ما يمكن لهواة الدعائية الفجة أن يعتبروه نقطة انطلاق لهم، وفي كل مرة لا أجد بين دفقات السطور الأليمة النائحة إلا سطرين يذكر الأول عودة الباتريارك بنيامين ويذكر الثاني أن عمرو لم يأخذ من ممتلكات الكنائس ولم ينزع للنهب وحافظ على ذلك كل أيام حياته، وبين السطرين سطر يحمل "سمة قبطية أصيلة" يعلل سبب انتصار المسلمين بغضب الرب على الرومان لسبب فساد عقيدتهم واضطهادهم للقبط.. هذا هو النص الوحيد الملائم للغرض..

   ولكن عندما ينهب الناهب البيوت ويقتل النفوس شيوخاً ونساءً وأطفالاً ويترك الكنائس ثم إنه لا يتوقف عن النهب إلا بعد استتباب الأمر وتدفق الجزية على خزائنه فإنه يوصَف بحنكة السياسة وبإتقان تقدير الأمور ونفاد البصيرة السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكنه لا يُوصَف بالإنصاف..

 

   والنص، الذي يصلح لغرض الدعائيين (بعد الحرص على "قصِّه" بعناية)، هو ثلاثة سطور وردت في مقدمة الفصل 121: "(1) وعاد آبا بنيامين، باتريارك المصريين، إلى مدينة الإسكندرية في السنة الثالثة عشرة[1] بعد هروبه من الرومان، وذهب إلى الكنائس واطمأن عليها كلها. (2) وقال كل واحد: "إن طرد (الرومان) هذا وانتصار المسلمين يرجع إلى شر الإمبراطور هركيول واضطهاده للأرثوذكس عبر الباتريارك كيروس. وكان هذا هو السبب في خراب الرومان وخضوع مصر للمسلمين. (3) وزاد عمرو قوة كل يوم في كل مناحي أنشطته. وانتزع الضرائب التي فُرِضَت، ولكنه لم يأخذ شيئاً من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكب أي عمل من [أعمال] السلب والنهب، وحفظ ذلك عبر كل أيامه."

   هذا كل ما هنالك من بين مئات السطور.. وفيه يتضح أن عمرو انتزع الجزية، فما حاجته للنهب؟ إن عدم قيامه بالنهب هنا مرفوع لحكم المنطق ولحكم طبائع الأمور لا لحكم الدين الإسلامي.. فمواصلة النهب تعطل المنهوبين المستسلمين عن العمل لإيفاء الجزية.. وتدمير كنائسهم يثير مشاعرهم ولعله يخرجهم عن طور الاستسلام..

   إن هذا لا مجال لمدح صاحبه إلا مدح الخبير بأن حلب البقرة أربح من قتلها، وأن إثارة مشاعر الثور وهو يحرث غير نافعة!

   المنطق مختل كالعادة ومعكوس للضرورة الدعائية، وأما شهادة النقيوسي المنطقية بحق فهي أنهم كانوا ينهبون في فترة الحرب (فصل 115 فقرة 4 وفقرة 7 على سبيل المثال حيث يظهر في عام الصمود كيف عمد عمرو إلى السلب والنهب لحين أن ينتصر).. حتى إذا حل "الاستسلام" نزع العرب لمساومة الناس على إعفاء كنائسهم مقابل تحملهم لفحش الضرائب جزية وخراج وما شاء المسمى من الأسماء..

 

   وبعدً، فأكرر أن تناولي للـ"حجة" الدعائية الإسلامية ليس بغرض تكذيبها، وإلا وقعت في إيضاح الواضح، وإنما بغرض تحليلها وتفنيد الجزء المختطف من جانب الدافعين لها.. وأما هواة تكذيب الأمور الواضحة الكذب فدونهم النص كله..

 

   وعلى كل حال فالفقرة الأخيرة في هذا الفصل "الرومان والعرب في ميزان النقيوسي" تجمع وتدرس النصوص التي تشرح موقف النقيوسي من الرومان في مقابل العرب، وفيها ما يفيد غرض هواة تجميع النصوص التي تكذّب هذا الادعاء الفج..

 

   إنه من الفجاجة المفهومة أن يعتِّم الدعائيون الإسلاميون على النقيوسي ونصه والنصوص المثيلة، ولكنه من الفجاجة الهزلية أن يختطف أولئك النقيوسي تحديداً للترويج لدعاواهم! ولم يكن للدعائيين أن يدخلوا محكمة تاريخ ولا تأريخ إلا لرداءة الزمن الذي أجاز لهم التحلي بألقاب علمية والتحدث بصفة مؤرخين في زمن تاه الفارق - لا اقول بين التأريخ والتاريخ - بل بين "الحواديت" والتاريخ..

 

 

 

 

6-6) الدعائية الرومية

 

   ثم هناك دعاية ثالثة خافتة الصوت، ولكنها قائمة، ولا يلتفت لها احد، هي الادعاء الرومي بممالئة القبط للعرب لإقصائهم، والمتطرفون منهم يدعونها خيانة.. ولقد مرّت للآن دعايتان غير موضوعيتين وتخالفان الحقيقة، والآن فعلى الأقل يقف أصحاب هذه الدعاية الرومية الموقف الأكثر حرجاً أدبياً، فدور الجيش الرومي المتخاذل، ودور الباتريارك الرومي الخائن، الظاهران من شهادة النقيوسي وغيره، كفيلان بوضعهم الموضع المحرج موضوعياً وشخصياً، والشواهد الدالة على هاتين الحقيقتين سيتكررا كثيراً في غير موضع من البحث والنص، فلا داعي لإثال المقدمة بتكرارهم.. ويزيد على التخاذل الثابت على بعض قادة الجيش الرومي، والخيانة الثابتة على كيروس، يزيد عليهما، مما يضحد دعوى خيانة القبط وتحالفهم مع العرب ضد الروم، شهادة النقيوسي التي تظهر النظرة القبطية الكامنة والظاهرة المتعاطفة تجاه الروم رغم كل شئ، وهي الدعوى التي سيتحراها ويثبتها الفصل القادم..

 

 

 

6-7) الرومان والعرب في ميزان النقيوسي

 

   هذا مبحث تاريخي خطير جداً ولم أعرف أن أحداً قام به قبل ذلك، وإن كنت لا استبعد أن يكون هناك من فعل دون أن يصل لعلمي..

   ثلاث مرات توقفت عند أهمية هذا الفصل، مرتين في مناقشة "الدعائية المصروية" و"الدعائية الإسلاموية" (في هذا الفصل السادس)، ومرة في رصد وتحليل الروح النبوية عند النقيوسي (الفصل الثامن)، وفي كل مرة أجد أن الموضع يحتمل بالكاد الإشارة للنقطة، دون حشد متنها فيه، حتى سلَمتُ بالقيام بإفراد فصل مستقل له، وما منعني عن ذلك من البداية إلا علمي بأن إدراج مبحث خطير كهذا لا يصح إيجازه في الحدود التي تسمح بها طاقتي القريبة من الاستنفاد وقت كتابة العمل.. وبسبب تهربي أولاً من إفراد فصل مستقل له فإنه عند تراجعي كنت قد ضبطت الفهرس وراوبطه، وتناثرت الإشارات في المتن تبعاً له، ولما لم تكن لي طاقة لتعديل الفهرس وما يلزمه من تعديل الروابط، فقد أضفت هذا المبحث المهم في فصل فرعي بين فروع هذا الفصل السادس عن التاريخ في محكمة النقيوسي، ولعل طبعات جديدة يشاؤها الرب لهذا العمل يظهر فيها هذه المبحث في فصل مُفرِد له..

 

   وإن النتيجة القاطعة التي سأخلص إليها من قراءة الفقرات المعنية بهذه القضية في نص النقيوسي هي أن العرب لم يـُوضَعوا أبداً في كفة واحدة مع الرومان، ولا هما تساوا في الميزان ولو على كفتين..

   إن ميزان النقيوسي واضح وصريح في التمييز النوعي والكمي بين الفريقين من جهة نظرته كمسيحي وكمصري لهما: فالعرب بربر وهمج والرومان قساة.. العرب أعداء للصليب وأصحاب دين الوحش، والرومان هراطقة منحرفين عن جهل.. العرب وثنيون، والرومان مسيحيون رغم كل شئ..

 

   وهذه النتيجة التي سيصل إليها البحث ترد على كل الدعايات غير الموضوعية المخالفة لواقع الأمور.. ترد على الدعاية العربية في استنجاد المصريين بالعرب ومحبتهم لهم، وترد على الدعاية المصروية التي تظهر النقيوسي كوطني يرفض كل المحتلين بنفس القدر، وترد على الدعاية الرومية الخافتة فهي تضيف لدور الجيش الرومي المتخاذل ودور الباتريارك الرومي الخائن ما يزيد ضعف تلك الدعاية مع إظهار الموقف القبطي المتعاطف مع الروم رغم كل شئ..

 

   والآن سأعمد لتحليل فراق نظرة النقيوسي للعرب عنها نحو الرومان من عدة نواحي دقيقة: نظرته لموقف  عقيدة كليهما لمذهبه الديني، وطبيعة تعامل كليهما مع المصريين، وطبيعة رجائه لنهاية كل منهما، مع مقابلة بين نظرته نحو المقوقس ونحو عمرو باعتبارهما رأسي الفريقين.. وأهم نقاط المقابلة ستكون في الحقيقة الشاملة في كل النص التي هي نظرة النقيوسي الدائمة للجيش الروماني كجيش مدافع عن المصريين من العدو الأوضح والأوقح.. وسيظهر في تلك النقاط التباين النوعي والكمي والسببي والشعوري في وعي يوحنا النقيوسي تجاههما وفي نظرته نحوهما..

 

 

   "مسيحيون وإن ضلوا"

   مقابل

   "أعداء الرب وصليبه"

 

   ويبقى أن أهم فارق بين الفريقين عند النقيوسي كان ينبع من فارق نظرة كل منهما للرب ولصليبه ولعبيده المؤمنين به.. فالرومان ضالين غير فاهمين يكرمون المسيح بجهل، والعرب أعداء الإله وأعداء المسيح وأعداء صليب الرب وأعداء المسيحيين، ووثنيون وإسماعيليون، ودينهم هو دين الوحش الذي هو نبيهم.. والكلام للنقيوسي:

   "والآن فإن كثير من المصريين من المسيحيين الزائفين فقد أنكروا الإيمان الأرثوذكسي المقدس والمعمودية المعطية الحياة، ودخلوا دين المسلمين، أعداء الإله،"(121: 10)..

   "هؤلاء الذين يذلوننا، الذين لا يريدون أن يملك عليهم ملك الملوك ورب الأرباب، الذي هو يسوع المسيح إلهنا الحقيقي." (121: 8)

   "ونحن أيضاً نؤمن أنه سيهلك أعداء الصليب،  كما يقول الكتاب الذي لا يكذب" (120: 33)..

   "وأسلم المسيحيين إلى أيدي أعدائهم." (121: 7)..

   إذاً فالعرب دائماً عند النقيوسي أعداء: أعداء الإله أعداء المسيح أعداء الصليب أعداء المسيحيين..

 

   وهم وثنيون إسماعيليون:

   "وأحب هؤلاء الرجال الثلاثة الوثنيين  وأبغضوا المسيحيين" (120: 30)..

   " ومالوا جميعاً مع أولئك الوثنيين..." (121: 10)..

   "ولكن الإله، حامي العدل، لم يهمل العالم، وإنما جازى أولئك الذين أثموا : لم يرحم أولئك الذين تعاملوا بخيانة ضده، وإنما أسلمهم لأيدي الإسماعيليين." (116: 13)..

"وعندما تبرق دينونة الإله على هؤلاء الإسماعيليين ..." (120: 33)..

   ووصْف العرب بالإسماعيليين وإن ارتضاه العرب لأنفسهم بل وفخروا به فإن استعمال الأسقف المسيحي له لا يكون على سبيل تسمية الفريق بما يحب أن سمي نفسه به، فلا يمكن إهمال الدلالة الكتابية للاسم مع أسقف عالم كالنقيوسي، وإسماعيل كان دائماً في الكتاب المقدس وحشياً يده على كل واحد ويد كل واحد عليه مضطهداً لابن الموعد مرفوض من الميراث السماوي..

   ويصل النقيوسي لأعلى درجات التمييز بين العرب والرومان من حيث مضادة الفريقين لعقيدته عندما يقول:

   " وقبلوا التعليم المقيت الذي للوحش، الذي هو محمد،" (121: 10)..

 

   وأمام هذا فإنه يضع الرومان في موضع من يكرم المسيح عن جهل، ومن له كنيسة معترف بها أنها كنيسة للمسيح وإن اضطهدت وإن ضلت، ولهم أتقياء يتنبأون وتصدق نبواتهم، وفوق كل شئ فالنقيوسي يصادق على حسن نيتهم تجاه المسيح واعتقادهم بأنهم ليسوا على خطأ:

   "إنهم فعلاً يظنون أنهم يكرمون ربنا المسيح بفعلهم كذلك، بينما هم قد وُجِدوا ضالين في إيمانهم." (117: 8)..

   " لأنهم ليسوا خدام المسيح: ومع ذلك فهم يظنون أنهم كذلك في فكرهم." (117: 8)..

 

   وهم مسيحيون بلا تحفظ على وصفهم هكذا من جانب النقيوسي:

   " فلم يعش ليرى عيد القيامة المقدسة لربنا يسوع المسيح كما تنبأ المسيحيون عنه." (120: 38).. والمسيحيون هؤلاء هم المصلين في الإسكندرية من شعب ورهبان خلف البطريرك الخلكيدوني كيروس، فهم بداهةً خلكيدونيين وبطبيعة الحال فأكثرهم ليسوا قبطاً بل يونانيين ولاتينيين (رومان بحسب الوصف الدارج المعمم للطائفتين اليونانية واللاتينية وقتها)..

 

   وفي فقرة لطيفة يصادق النقيوسي على صحة نبوة المصلين الخلكيدونيين في الإسكندرية الذين تنبأوا بموت كيروس قبيل عيد القيامة لوقوع مخالفة طقسية قام بها الشماس ليتملق البطريرك الخلقيدوني.. قصة المخالفة واردة في (120: 14-17) ومعها عدم تصديق بعض الناس (خلكيدونيين على الأرجح) ولا يعلق النقيوسي عليها في وقتها ولكنه في (120: 38) يظهر أنه أوردها بالقبول التام من جانبه عندما يقول:

" فلم يعش ليرى عيد القيامة المقدسة لربنا يسوع المسيح كما تنبأ المسيحيون عنه."..

 

 

 

   وليس معنى ذلك أن النقيوسي يجابي الرومان أو يغض البصر عن انحرافهم المذهبي من وجهة نظره، ولكنه كان ينظر ويشخص بدقة وبشمول رؤية دون أن تعميه حقيقة عن أُخرى، بميزان عصره كما هو مفهوم أي بمعيار المذهب أولاً ومعيار السلوك ثانياً.. ولهذا فالرومان لهم نصيبهم العادل من التوبيخ:

   "ولكن الإله، حامي العدل، لم يهمل العالم، وإنما جازى أولئك الذين أثموا : لم يرحم أولئك الذين تعاملوا بخيانة ضده، وإنما أسلمهم لأيدي الإسماعيليين.[2] (14) ومن ثمَّ أخذ المسلمون الساحة وغزوا كل أرض مصر. فبعد موت هركيول، فإن البطريرك كيروس في طريق عودته لم يُوقِف بشاعاته واضطهاده لأناس الإله، ولكن أضاف عنفاً لعنف." (116: 13-14)..

 

   يُلاحَظ من الدارس الدقيق أن توبيخ النقيوسي لهرقل هو على شره (بمعيار مسيحي أخلاقي وقد وضح من تاريخه انتشار الفساد الأخلاقي في القصر)، أي أنه لا يزال يعامله كمسيحي ويؤسس حكمه عليه بالشر على أساس مسيحي.. ويُلاحَظ أنه يحتفظ لكيروس بلقبه الكنسي رغم كل شئ.. ويُلاحَظ أهم الملاحظات انه يعتبر اضطهاد الرومان خيانة، والخيانة تصدر من ذات الفريق وليس من العدو.. فالرومان في أسوأ أوضاعهم في انتقاد النقيوسي بالنسبة للعرب هم خونة أمام أعداء صرف..

   من سابق الفقرات تكرر إظهار جهلهم بفحوى الخطأ في معتقدهم.. هي إذاً عند النقيوسي خيانة أمام عداوة: خيانة مبنية على جهل وغشومة أمام موقف عدائي مبدأي لا جدال فيه ولا رجاء معه..

 

 

 

   الارتداد المذهبي ليس كالارتداد لدين الوحش

 

   فإذا كان الفريقان مختلفي الهوية تماماً ومتضادي الموقف بالنسبة للمسيح، وإذا كان الاختلاف واضح عند النقيوسي، فالطبيعي أن يختلف حكمه على المرتدين للناحيتين.. وقد كان..

   بالفعل ينظر النقيوسي لعموم التابعين للرومان ممن مالئوا المذهب الخلكيدوني بنظرة تتسم بالتماس الظروف المخففة، وهي ما لا يتمتع بها عنده المرتدون للإسلام..

   عدة لقطات تلمع فيها نظرة النقيوسي المخففة نسبياً نحو الخلقيدونيين، حتى أن أقسى الفقرات التي نحا النقيوسي فيها بالنقمة والتوبيخ عليهم لم تخلُ من لمحات التعاطف:

   "ولكن الإله قد تمهل مع المرتدين والهراطقة الذين اعتمدوا مرة ثانية خضوعاً لأباطرة مستبدين." (117: 7)..

 "إنهم فعلاً يظنون أنهم يكرمون ربنا المسيح بفعلهم كذلك، بينما هم قد وُجِدوا ضالين في إيمانهم." (117: 8)..

 " إنهم بالفعل لم يرتدوا طوعاً، ولكنهم يضطهدون أولئك الذين لا يتفقون معهم في الإيمان." (117: 8)..  "حاشا من الإله (هذا الاتفاق) ! لأنهم ليسوا خدام المسيح: ومع ذلك فهم يظنون أنهم كذلك في فكرهم." (117: 8)..

   إن الخلكيدونيين(الرومان ومن تبعوهم) دائماً وبكل حماس النقيوسي المذهبي كسمة أهل عصره ضالين وهم في ضلالهم يصلون لكونهم أعداءً للمسيح، ولكنها دائماً عداوة عذرها الجهل و الإجبار معاً.. وهنا نقطة مهمة، فالإجبار بمفرده لا يمثل عذراً جيداً عند النقيوسي، ولذلك فهو دائماً قرين الجهل الذي يسوغ له التماس الظروف المخففة لهم، ويسوغ له أن يرى رغم عداوته المذهبية معهم حقيقة أنهم حسنو النية يكرمون ربنا المسيح في ظنهم وإن جهلوا..

 

   وأما المرتدون للإسلام فهُم:

   في صف ومعاونون   "لهؤلاء الذين يذلوننا، الذين لا يريدون أن يملك عليهم ملك الملوك ورب الأرباب، الذي هو يسوع المسيح إلهنا الحقيقي. " (121: 8)..

 " والآن فإن كثير من المصريين من المسيحيين الزائفين فقد أنكروا الإيمان الأرثوذكسي المقدس والمعمودية المعطية الحياة، ودخلوا دين المسلمين، أعداء الإله، وقبلوا التعليم المقيت الذي للوحش، الذي هو محمد،  ومالوا جميعاً مع أولئك الوثنيين، وأخذوا أسلحة في أيديهم وقاتلوا ضد المسيحيين."(121: 10)..

   وقصة "يوحنا الخلقيدوني" تجمع طرفي المعنى في قصة واحدة.. فهو عنده مصري (الأرجح قبطي) خلقيدوني، صار مسلماً معاوناً للعرب، إذاً فهو مرتد عن المذهب أولاً ثم عن الدين ثانياً.. فكيف تعامل النقيوسي مع الارتدادين  وقد وقعا في شخص واحد ووردا في صلب رواية قصيرة واحدة؟

   "والآن فإن كثير من المصريين من المسيحيين الزائفين فقد أنكروا الإيمان الأرثوذكسي المقدس والمعمودية المعطية الحياة، ودخلوا دين المسلمين، أعداء الإله، وقبلوا التعليم المقيت الذي للوحش، الذي هو محمد،  ومالوا جميعاً مع أولئك الوثنيين، وأخذوا أسلحة في أيديهم وقاتلوا ضد المسيحيين. وواحد منهم، اسمه يوحنا، الخلكيدوني الذي من دير سيناء، اعتنق إيمان الإسلام، ورذل قانونه الرهباني، ورفع السيف، واضطهد المسيحيين الأوفياء لربنا يسوع المسيح." (121: 10-11)..

   لقد اعتبر يوحنا النقيوسي، الأسقف القبطي، ذلك الخلكيدوني مسيحياً راهباً رغم خلقيدونيته، وهو بهذا الاعتبار صار محلاً للوم على ارتداده عن المسيح، وعلى رذله لقانونه الرهباني، وإلا فمن أي وجه يُلام في معيار أسقف قبطي لو لم يكن معترفاً بمسيحيته ورهبانيته معاً؟ 

   إن الارتداد هو أقسى جريمة يرتكبها الواحد في حق دينه، ومعه تستوي كل الأمور، فإذا كان النقيوسي يميز جيداً بين الارتداد المذهبي نحو الرومان، والارتداد للإسلام ومشايعة العرب، ويلتمس للأول ظروفاً مخففة بينما لا ينظر للثاني إلا على أنه شر وهلاك وعداوة للرب ولصليبه فإن هذه النظرة تحسم تأكيد الفارق الشاسع بين الفريقين في عمق وعيه..

 

 

   الرومان أقسى من البربر في "بعض أعمالهم" التي تصدر عن "بعض أشخاصهم"،

   والعرب بربر في ذات "جنسهم" وعموم اعمالهم

 

   تحديد المسئولية على أشخاص معينين هي سمة دائمة الظهور في لوم النقيوسي الواقع على الرومان، وغالباً فإن المسئولية تكون على واقعة محددة ومحدودة الزمن والأثر أيضاً، ولم يحدث أن تعدت نقمته على الرومان لشمول عموم جنسهم..

   ففي شاهد قوي جداً يقع في ذروة تعليقه على الأحداث وهو يعلّق على سقوط مصر، وهي مناسبة تفتح الباب لصب نقمته على كل الرومان أو أكثرهم لو كانت لديه منها عليهم، نسمعه يتكلم بكل رزانة فيخص بالشر هركيول دون جنسه، ويخص بالاضطهاد كيروس دون عموم رعيته في (121: 2) عندما يقول: "وقال كل واحد: "إن طرد (الرومان) هذا وانتصار المسلمين يرجع إلى شر الإمبراطور هركيول واضطهاده للأرثوذكس عبر البطريرك كيروس. وكان هذا هو السبب في خراب الرومان وخضوع مصر للمسلمين. "..

   ومثله ما ورد في ختام فصل 116: " فبعد موت هركيول، فإن الباتريارك كيروس في طريق عودته لم يُوقِف بشاعاته واضطهاده لأناس الإله، ولكن أضاف عنفاً لعنف " (116: 14).. وواضح هنا أن المسئولية تقع في وعي النقيوسي على شخص محدد هو كيروس وان الجريمة تقع على مجموعة محددة هم من وصفهم بـ"أناس الإله" وهو تعبير يطلع عادة على رجال الإكليروس (في الكتاب المقدس كان يُطلًق لقب رجل الـله على الأنبياء، وإلى الآن يتسمى الكاهن في الكنيسة القبطية "رجل الـله")..

   وفي شاهد آخر (فصل 117) يظهر في أعنف فقرات النقيوسي ضد الرومان فإنه يظهر أن عملهم محل نقمته كان عملاً محدداً وهو جريمة تعذيب بعض المصريين الأرثوذكس في حصن بابلون وقطع أيديهم في البصخة المقدسة.. فمع بشاعة الجريمة التي لا محل للدفاع عنها فإنها تحليلياً حادثة محددة لم يُذكَر أنها تكررت ولم تقع على عموم الشعب بل على مجموعة حبيسة واضح أنها نشطة المقاومة الدينية ضد المذهب الحكومي الخلقيدوني..

   وملاحظة مهمة جداً مضافة من هذا الشاهد هي أن النقيوسي لا يسجل رأيه الشخصي فقط، بل يسجل رأياً عاماً "قاله كل واحد..."!

   فالشر في الجانب الروماني والفظائع دائماً محددة الشخص أو العمل عند النقيوسي، بل وعند "كل واحد"، ويقع ذلك على دائرة محددة من الناس..

 وأما البربرية عند العرب فسمة عامة.. وحتى عندما يختص عمرو  بها فإنه يسببها بانتمائه لجنس هذا طبعه: " لأن عمرو لم يرحم المصريين، ولم يحفظ العهد الذي قطعوه معه لأنه كان من جنس بربري " (120: 36)..

   والملفت في هذا الشاهد أنه يأتي في سياق حديث النقيوسي عن موت كيروس حسرةً من أعمال عمرو ضد المصريين، وتظهر في روايته لمحة تعاطف مع كيروس رغم كل شئ.. وسيأتي الحديث عن هذه النقطة في مقابلة عمرو والمقوقس عند النقيوسي..

   إذاً فشر العرب، كما يراه النقيوسي نابع من طبيعة جنسهم!

   وهو واقع على عموم المصريين، وليس في عمل محدد، بل هي سمة تعامل، والحال خلاف ذلك مع الرومان، إذ لم يحدث أن النقيوسي رصد إيذاءً جماعياً بالغاً على عموم المصريين في معاملة الرومان.. وأما مع العرب ففي عدة مواضع تبلغ حدة أنينه ما يعبر ببلاغة لا اصطناع فيها عن درجة الإيذاء وعموميته:

   "فكان النير الذي وضعوه على المصريين أثقل من النير الذي وُضِع على إسرائيل من فرعون، الذي دانه الإله دينونة عادلة، إذ أغرقه في البحر الأحمر مع كل جيشه بعد الضربات الكثيرة التي ابتلى بها البشر والماشية." (120: 32)..

 "ولا يمكن لأحد الإحاطة بالأحزان والنحيب الذي جرى في تلك المدينة. لقد باعوا حتى أطفالهم في مقابل المبالغ الكبيرة التي وجب عليهم دفعها شهرياً. ولم يكن ثمة من يعينهم، وحطم الإله آمالهم، وأسلم المسيحيين إلى أيدي أعدائهم." (121: 7)..

 

 

   خلاصة النقطة أن البربرية بين الرومان والعرب في وعي النقيوسي وشهادته هي بربرية أعمال أمام تعامل، وأشخاص أمام جنس، وحوادث أمام ديمومة..

 

 

   نكهتان للصبر

 

   بين صبر النقيوسي على الرومان، وصبره على العرب فروق كيفية وكمية وسببية..

   يقفز بين سطوره ما لا يفوت الدارس الملاحظ، عندما يقول ملتمساً الصبر على الرومان:  "كيف إذا لا يكون أفضل لنا أن نحتمل التجارب والعقوبات التي يبتلوننا بها؟" (117: 8)..

   السؤال النافذ أولاً هنا:  ما مغزى أن يدعو النقيوسي للصبر على ابتلاء الرومان بينما لم يعد جيش روماني في وقت كتابته؟  والاستنتاج الذي أضعه هو أنه بما رآه من العرب، وبعودته نفسياً لتلك الأيام السالفة، فإنه وجد الصبر عليها مستحقاً للامتداح! لقد تجاوز الواقع وفي خياله الشعوري لم يملك قلمه من القفز لامتداح الصبر على ابتلاء الرومان، دون التفات إلى أنه لم يعد هناك رومان يكون للصبر عليهم فرصة!

   لقد امتدح الصبر على الرومان للدرجة التي جعلته ينسى الواقع ويتعايش معه كأنه يتمنى أن يكون في حال الصبر عليهم وهم ليسوا بموجودين ولا هو تحت نيرهم أصلاً،  الشئ الذي لم يزلف إليه قلمه قط في حديثه عن احتمال المصريين لظلم العرب، وهذا يقود إلى وضع خط تحت ملاحظة نفسية أُخرى تظهر من لغة النقيوسي:

   إن الصبر كفضيلة هي محل امتداح دائماً ولاسيما مع رجل دين، ولكن التجربة الشعورية التي تراكمت عند النقيوسي لم تسمح له، فيما ظهر، من امتداح فضيلة الصبر عندما تكون على العرب، وإنما اكتفى بالنظر لرجاء الخلاص منهم دون امتداح صريح للصبر على بلائهم، وفيما هو ينتظر الخلاص فقد صب جام كلماته عليهم:

    " فكان النير الذي وضعوه على المصريين أثقل من النير الذي وُضِع على إسرائيل من فرعون، الذي دانه الإله دينونة عادلة، إذ أغرقه في البحر الأحمر مع كل جيشه بعد الضربات الكثيرة التي ابتلى بها البشر والماشية.  وعندما تبرق دينونة الإله على هؤلاء الإسماعيليين فليصنع بهم كما صنع قبلاً بفرعون ! ولكنه بسبب خطايانا أنه [أي الرب] سمح لهم أن يصنعوا ذلك بنا. ورغم ذلك ففي عنايته الدائمة فإن إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح سوف ينظر لنا ويحفظنا: ونحن أيضاً نؤمن أنه سيهلك أعداء الصليب،  كما يقول الكتاب الذي لا يكذب." (120:  32-33)..

 

   فإن كان الفرح مع الصبر على الرومان، وانعدامه مع العرب، في لغة النقيوسي، له هذا العنصر النفسي الواضح في وعيه الباطن، فما هو السبب الظاهر له والذي قدم به سبب الفرح مع الرومان وبرر به غيابه مع العرب؟ إنه أمر خطير الدلالة:

   لقد رأي أن ابتلاء العرب هو بسبب "خطية الشعب"، وهي سمة قبطية أصيلة وممتدة عبر العصور حتى وقتنا في النظر إلى سبب الشر الواقع بالإنسان، لاسيما عندما يأتيه ذلك من مصادر لا تنبع إلا الشر إن أنبعت أي ممن أو مما لا فائدة لتوبيخه من أي وجه على شره، وكثيراً ما كان يُنظَر للكوارث الطبيعية على أنها بسبب خطايا الشعب.. قابل هذا مع اضطهاد الرومان الواقع على المصريين بسبب انحراف الأولين عن الإيمان وليس خطية الأخيرين على أي نحو، بل على العكس فإن الأخيرين اظهروا بداهة شرف الحفاظ على إيمانهم وإلا ففيم اضطهدوا؟

   فأي الفريقين "أكرم" في ظلمه؟ يظهر من وجه سطحي ما أن المقابلة هي في صالح العرب، فهم مؤدب لاستحقاق المصريين للتأديب بسبب خطاياهم، بينما الرومان مضطهد دون وجه حق يقع اضطهادهم على أبرياء يتحملون الاضطهاد احتمال الشرفاء المتمسكين بإيمانهم وليس على خطاة استحقوا واحتاجوا للتأديب.. ولكن في عمق المقابلة بين المدخلين نرى أن العرب يقفون كفريق لا ينبغي توقع الخير منه ويمثلون شراً يقع على الخطاة لتأديبهم.. هم أداة تأديب كالأوبئة وكوارث الطبيعة وكهجوم البربر... وأما الرومان فإنهم ضالون عن عدم فهم وعن مظنة غشيمة بأنهم يدافعون عن المسيح وفيهم رجاء الفهم والعودة وهو الرجاء الذي يفسر تلطف النقيوسي في الحديث عنهم.. 

  

   إذاً فإن صبر النقيوسي على العرب تباين كماً وكيفاً وسبباً ونتيجة عنده عن الصبر السالف على الرومان، ومحصلة كل ذلك عنده تظهر في قسوة عباراته التي يصف بها خاتمة رجائه لنهاية أمر العرب في مصر والتي عبر عنها بكلمات لم يحدث أن قال ما هو قريب منها على الرومان.. وأبداً لم يحدث أن وصل في قسوة حديثه على الرومان أنه تمنى عليهم أن الرب " يصنع بهم كما صنع قبلاً بفرعون" وذلك "عندما تبرق دينونة الإله على أولئك الإسماعيليين"..

 

 

   في عمق وعي النقيوسي:

   المصريون والرومان في جبهة إلهية واحدة  أمام العرب 

 

   وأمر ملفت جداً جداً يقبع في عمق وعي النقيوسي.. لقد كان ينظر للقبط والرومان على أنهما في سلة تأديب واحدة من الرب وإن اختلفت أسباب التأديب، وبالمقابل لهما معاً، فإن العرب يقفون كاداة تأديب بيد الرب..

   فالرومان قد سقطوا أمام العرب تأديباً لهم لاضطهادهم للقبط، انظر مثلاً:  " هكذا عاقبهم الإله لأنهم لم يكرموا البصخة الفادية لربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي أعطى حياته لهؤلاء الذين يؤمنون به. نعم، كان لهذا السبب أن الإله جعلهم يولون ظهورهم لهم (أي للمسلمين). " (117: 4و " وقال كل واحد: "إن طرد (الرومان) هذا وانتصار المسلمين يرجع إلى شر الإمبراطور هركيول واضطهاده للأرثوذكس عبر البطريرك كيروس. وكان هذا هو السبب في خراب الرومان وخضوع مصر للمسلمين. " (121: 2)..

   والقبط ابتلاهم الرب بالعرب بسبب خطاياهم: "ولكنه بسبب خطايانا أنه [أي الرب] سمح لهم أن يصنعوا ذلك بنا. " (120: 33)..

   إذاً فقد نظر النقيوسي للعرب على أنهم جنس بربري وقع الابتلاء به على رأس القبط بسبب خطاياهم مثلما وقع على رأس الرومان بسبب انحراف إيمانهم، وهو في هذا يضع على نحو ما القبط مع الرومان في سلة تأديب إلهي واحدة مع اختلاف أسباب التأديب، ويضع العرب مقابلاً لهما معاً كأداة تاديب لا يقع اللوم عليها لأن الهمجية طبع فيها..

 

 

   الجيشان الروماني والعربي: الصديق والعدو!

 

   وهذه نقطة بديهية لا تحتاج لأدنى تحليل لمعونة القارئ على استيضاحها، ويكفي الإحالة لقراءة النص.. لقد كان الجيش الروماني  دائماً هو الجيش الصديق في الحرب كما يظهر في لغة النقيوسي، حتى إذا ما تعرض لملامة فهي ملامة الناكص عن عمله! أو ملامة الخائن له!.. والمتراخي والخائن بداهة يقفان أصلاً في صف الأصدقاء.. ودائماً كان المصريون يحفزون الرومان على الحرب ضد العرب، حارب أولئك أم تخاذلوا أم خانوا! ودائماً كان المصريون في المعارك في صف الرومان في واقع الأحداث وفي رضا لغة النقيوسي عن ذلك التحالف.. ودائماً أمكن لمس الأسى في لغة النقيوسي عند تخاذل بعض قادة الرومان أو عند خيانة بعضهم.. هذه النقطة عن استوفيت شواهدها من النص فإن النص كله سيُدرَج هنا في هذه الفقرة!

 

   على أن السؤال اللازم هنا، قبل ترك القارئ ليتحرى تلك الحقيقة من النص، هو: دائماً كان الرومان أعداءً مذهبيين ومضطهدين عند النقيوسي، فما دلالة أن يتحولوا في نظره لأصدقاء أمام العرب؟ لا تفسير إلا ذلك المبدأ العريق: عدو عدوي صديقي! وفي هذا يظهر بلوغ عداوته للعرب والتي حوَلت عداوته للرومان إلى صداقة.. ولا يمكن إغفال أنه لم يكن يعبر عن نفسه ولكن عن عموم نظرة المصريين خلا أولئك الذي ارتدوا ناحية العرب.. وبديهي أنني لا أورد رأيي الشخصي هنا، وإنما أرصد نظرة النقيوسي وأحللها..

 

 

   المقوقس يقابل عمرو في جملة واحدة

 

   وأخيراً فإن مقابلة الرومان بالعرب عند النقيوسي يلخصها تقابل عمرو مع "المقوقس" في جملة واحدة عنده:

 "وأصاب الأسى البطريرك كيروس بشدة بسبب الكوارث التي حلت بأرض مصر. لأن عمرو لم يرحم المصريين، ولم يحفظ العهد الذي قطعوه معه لأنه كان من جنس بربري " (120: 36)..

   إن نبرة التعاطف مع كيروس والأسى عليه لا تخطئها أُذُن متمرنة على القراءة.. فرغم سابق انتقاده لكيروس ونعيه عليه اضطهاده للمصريين "الأرثوذكس"، فإنه يميز.. يميز الأسى الذي أصاب كيروس على حال المصريين.. إن الخصومة المذهبية، والنقمة المبنية على غباء وقسوة كيروس لم تعمه عن رؤية حسرة كيروس على المصريين ولا عن موته بحسرته تلك.. ولم تدفعه أبداً لوضع لكيروس (للمقوقس) وعمرو  في سلة واحدة.. أبداً.. فقد كان عمرو من جنس بربري ولم يتوقع منه ما ميزه عند كيروس المضطهـِد للمصريين من أسى عليهم.. لقد كان الرجل يميز..

   وبعدُ، فهذه مقابلة في جملة واحدة بين رأس العرب ورأس الروم تلخص كثير من جوانب نظرة النقيوسي للفارق بين فريقين..

 

 

   الخلاصة أن...

 

   ...تحليل نظرة النقيوسي من كل الوجوه، كميا وكيفيا ودينيا وواقعيا، تجاه العرب والرومان يقطع بأنه كان يميز في وعيه الظاهر والباطن بين الفريقين تمييزاً شاسعاً وأحياناً ضدياً.. وإن انتقد كليهما فإن الدافع والنوع والمقدار في انتقاده اختلف دائماً واختلافاً كبيراً.. ويمكن باختصار القول أن انتقاده للرومان كان انتقاد أسى الملامة فيه هي ملامة الأخ لأخيه الغبي، وأما انتقاده للعرب فقد كان انتقاد رفض لا مجال للرجاء معه إلا رجاء حلول نقمة الرب عليهم..

 

 

 

  

7

الجغرافيا في تاريخ النقيوسي

 

   مع انحيازه العروبيّ الملحّ، فإن د. جمال حمدان أشفق على ضميره العلميّ وأقر بأن العرب الذين حكموا مصر يتحملون مسئولية الإهمال في مواجهة زحف البراري على الدلتا.. ولكنه جنّد كل ما أمكنه من التدبيج المنطقي لحصر مسئوليتهم عند ذلك الحد، حد الإهمال في المواجهة، وتبرئتهم من مسئولية التسبب في إحداث الظاهرة من الأصل.. وسار لهذا الغرض في طريقين: الاستناد لشهادة بتلر، ومحاولة الاستدلال من خط السير العسكري للجيش العربي..

   وهذا الفصل يفتح الباب، بمفتاح النقيوسي، لمناقشة هذه القضية البيئية الجغرافية الخطيرة جداً المعروفة بـ"زحف البراري" في الدلتا أي تقحّل قطاعات واسعة في دلتا مصر وتحولها لبراري زاحفة جنوباً لتجور على المساحة الخضراء وتردها للخلف..

 

   والنقيوسي، وإن لم يكن من عين غرضه، يقدم لنا دليل مسئولية جيش الغزو العربي على التسبب في إحداث هذه الظاهرة المؤسفة.. لقد ضبط النقيوسي الجيش العربي وهو يحرق الأرض والزرع، ويردم الترع ويعيد حفر غيرها في غير موضع الزراعة، وضبط خط سيره وأسبابه المنطقية، وفي كل هذا كان يسد طرق هروب القوم من مسئوليتهم عن كارثة البراري، وكأنه بهذا التصوير الدقيق والمحكم يُعنِي أن يعلّق في رقاب جيش الغزو العربي جريرة البراري الزاحفة، ويثبت عليهم تهمة جريمة جغرافية تمتد عبر التاريخ لتصب لعنة آثارها على جيلنا الجائع..

   وإذا كان د. جمال حمدان الجغرافي المحترم قد آلى على نفسه هَمّ دفع التهمة عن العرب فلزم إحضاره لمحكمة النقيوسي مع كل الاحترام الواجب..

   ويدخل الجغرافي العالم للمحكمة بأربعة خطوط أوردها للتدليل على حكمه في مرجعه الضخم "شخصية مصر"، في الجزء الأول، الفصل الثالث، في فقرة بعنوان "نشأة البراري قديمة أم طارئة"، ص226.. وخطوط أدلته هي التسمية العربية لبعض المناطق، وشهادة المؤرخين عن الحال قبل العرب، وشهادة المؤرخين عن الحال بعدهم، ثم خط سير الحملة العسكرية العربية.. هذه هي أربعة دفاعات حمدان عن العرب فيما يخص اتهامهم بالتسبب في تدمير أفرع النيل الكثيبرة..

   والواقع أن المنطق المجرد يتكفل بتحييد "أدلة" حمدان وإعادة الموضوع لدائرة عدم الحسم، مع الميل لمسئوليتهم عن إنشاء او على الأقل ترسيخ أسباب نشوء ظاهرة البراري.. وأما مع شهادة يوحنا النقيوسي فإن الموضوع لا يبقى غائماً وتثبت الرؤية.. ويمكن القول بثقة مع هذه شهادة يوحنا النقيوسي الدقيقة التي لا يشوبها شائبة منطق أو جغرافيا أو تاريخ إن العرب الذين غزوا مصر لا تتوقف مسئوليتهم على الإهمال في مواجهة زحف البراري، ولكنهم أفسحوا لها أصلاً الطريق لتزحف وتتوسع وتكتسب مزيداً من الأراضي الخصبة، وما أشبة حال البراري الزاحفة على خصوبة الأرض بحال العرب الذين أفسحوا لها الطريق..

   وسيكون عمدة الامتحان الفاحص لدفاع حمدان عن العرب هو شهادة النقيوسي، مع ما يجوز إلحاقه بالضرورة من أحكام منطق الدراسة..

 

 

   1. الزعفران

 

   أول خطوط دفاع حمدان هو أن العرب أطلقوا على منطقة الزعفران هذا الاسم، وبالتالي تبع منطقه، فإن المكان الذي هو الآن براري قاحلة كان في عصرهم منطقة خصبة في وقت العرب، وبالتالي فإنهم، حسب منطقه الدفاعي، لم يحولوها لبراري:

   "أرض الزعفران، هذا التعبير ، العربي بالطبع، يشير بلا جدال إلى ان الخصوبة كانت ما تزال قائمة إبان العصر العربي."

   وفي هذا المنطق صورة محزنة دالة على مايئول إليه الدفاع المسبق بالمفكر والعالم.. هل تنشأ البراري لحظياً؟ وهل لا يبقى الاسم الدال على مكان حتى بعد زوال الصفة التي تسمى المكان بها؟ السؤال الأول يجيبه الجغرافي الكبير بنفسه عندما يقول في ذات الصفحة: "شهادة المخزومي تنص على حلول الخراب وعمومه في نهاية القرن 10 الميلادي ، فإن ذلكإانما يشير الى نهاية الكارثة لا بدايتها."

   وإذاً فهو يشير، كما هو الحال بالطبيعة، إلى أن الكارثة تأخذ مئات من السنين لتتميز بدايتها من نهايتها، وطالما هو يبرئ العرب منها فهو يحيلها على مرحلة سابقة عليهم يرجح أنها فترة غزو الفرس في بداية المئة السابعة الميلادية، وإذاً فهو يرى، كجغرافي، أن كارثة البراري قد تأخذ نحو ثلاثمئة سنة  لتمييز أولها عن آخرها.. فماذا يمنع أن يسمى العرب منطقة خصبة بالزعفران بينما يتسببون هم أنفسهم في دخول عناصر تخريبها الذي لن تظهر آثاره إلا بعد عدة مئين من السنين؟ إذا كان الخراب قد نشأ قبلهم بعدة عقود من السنين (في فترة غزو الفرس) على تقدير حمدان ومع ذلك فإنهم لم يروا نتيجته المخربة فيما ظهر من تسميتهم للمكان بالزعفران، فكم بالأولى ان يكونوا هم أنفسهم المتسببين فيه فتكون نتيجة الخراب الأخيرة أبعد عن أعينهم بمقدار تلك العقود؟

   وأما السؤال الثاني المفترض عن تسميتهم للمكان بالزعفران وبقاء التسمية مما يدل على دوام خصوبة الأرض في عصرهم، فإن الإجابة مضحكة بحق.. ألم تبقى المنطقة للآن حاملة اسمها الدال مرة على خصوبتها الضائعة دون أن يتغير؟ إن التسمية قد تبقى مع زوال سببها وهذه طبيعة تاريخ الجغرافيا الذي يقوم كشاهد على كثير مما يحاول المجرمون ستره..

   المنطق المجرد يبطل الحجة الأولى للعالم مع الأسف الخالص على طبيعتها المتهافتة.. وأما مع النقيوسي فإن لديه ما هو أقوى من إبطال الحجة، لديه إلزام الحجة.. فلنسمع:

 

   رد النقيوسي

 

   وأما الآن فإن النقيوسيّ يفيدنا بمعلومة مهمة عن حادث قرب المنطقة المعنية.. يقول:

    "في مدينة دمياط صدوه أيضاً عن الدخول ففكر في إحراق محاصيلهم" (115: 3)

   وتفكير عمرو في إحراق المحاصيل قد نٌفِذ فعلاً، وإلا كيف عُرِف ما فكر فيه إن لم يكن قد نفذه؟ وماذا كان يمنعه من تنفيذه؟ وهو بعد قليل في ذات الفصل يقوم بإحراق مدينة قريبة من حصن بابِلون بحالها..   

   والسؤال هو ما مدى تأثير هذا الحريق؟ وكم مرة عمد العرب لتكرار هذه السابقة في الثورات اللاحقة التي يعرفها التاريخ؟ وما مدى تساهل العرب وسماحهم للفلاحين بالعودة لاستصلاح الأرض المحروقة والتي اختبر العرب منها منعتها للأهالي منهم (مع المياه) حتى اضطروا مسبقاً لحرقها..

   لا يمكن مع هذا السلوك الواضح العدوانية تجاه الأرض أن نسقط من الاعتبار العرب كمخرب أول بين المتهمين بالتسبب في تخريب المكان الذي شهدوا هم أنفسهم بخصوبته الفائقة..

 

 

   2. شهادة بتلر

 

   يورد حمدان شهادة بتلر  "الذي يصف المنطقة بانها لم تكن لها نظير او منافس في مصر جميعاً حتى قرن واحد قبل الفتح ولكن كفت الحال عن ان تكون كذلك طوال ذلك القرن." وفي هامشه يشير لكتاب بتلر في أصله الإنجليزي ص351..

   ورغم أن الترجمة بتصرف ولكنها تعبر عن مقصد بتلر.. ولكن ما لم يذكره حمدان هو أن بتلر ينقل من كواترمير الذي ينقل بدوره "نقلاً منحولاً" من المقريزي والمسعودي (هامش 2 ص351 كتاب بتلر في أصله الإنجليزي) الذين يتحدثون عن تواريخ مدن سابقة عن زمنهم، والحق أن المؤرخين العرب يؤخذ منهم ما يعاصرونه، وأما القديم فإنهم ينهلون من مصادر خرافية ويخلطون بين الصالح والطالح..

   وقبل أن نذهب بعيداً وبعد صفحة واحدة، فإن بتلر يسترسل في نقله من المصادر القديمة فيثبت من كاسيان وصفه لمدينة تنيس أنها كانت جزيرة محاطة بالبحيرة من كل جانب (المرجع السابق، ص352، هامش 1).. وكاسيان أتى لمصر كمؤرخ للحركة الرهبانية في المئة الرابعة، وإذاً فقد كان حال البحيرات مستقراً وكانت البراري القائمة الآن غير قائمة وقتها رغم وجود البحيرات المالحة التي بلغ بها الأمر إحاطة مدينة عظيمة مثل تنيس..

   وفي العموم فإن حال البحيرات المالحة في شمال الدلتا معروف منذ القديم وقبل العرب، ولم تتوسع تلك البحيرات ولا تسببت في الاقتطاع من أرض الدلتا وكانت الحال مستقرة.. إذاً فلا جديد في أمر البحيرات، ولا تبرئة في قول بتلر المنقول في النهاية من المقريزي والمسعودي للعرب..

   وهنا انقل من ذات كلام د. حمدان ما أخذه هو نفسه على بتلر أنه يلقي باللوم على العرب في مسئولية البراري "في غموض" فيقول سابقاً في ذات ص326: " فقد ربطه بالعصر العربي كثيرون  "صراحة مثل ويلكوكس وكريج وهيوم وليونز، وفي غموض مثل بتلر واميلينو..."، ويعلق: "اتهام باطل وغير مقبول ، ولا نقول وجهة نظر متحيزة.".. إن حمدان هنا يضع في طريق الاستشهاد بالثقات يائساً كلمة عارضة وردت عند بتلر يفترض فيها أن البراري ظهرت سابقاً على دخول العرب، ليضعها في طريق إجماع جل التاريخيين والجغرافيين على مسئولية العرب على ظهورها مثل وِلكوكس وكريج وغيرهما والذين منهم بتلر نفسه.. فهل لو توقف الأمر عند اسم واحد مثل بتلر مدقق فيما ينقل (ولكنه هاهنا تحديداً ينقل) وقبل حمدان بهذا المنطق، يحق لي بالمقابل أن أضع شهادات مضادة أوردها هو نفسه أولاً لذات بتلر ثم لإميلينو ثم لثقات الجغرافيين مثل كريج وويلكوكس، وأحسم النتيجة من ثم لصالح اطروحتي؟ لا فليس هذا هو المنهج ولا المنطق..  وإنما إذا كان للأخذ من العلماء شهادة في قضية خلاف أو بحث، (وليس قضية علم مجرد) فإنما مرجع ذلك هو منطق فحصهم وإحكامه.. ومن هنا فإنني آخذ بشهادة ويلكوكس ورفاقه لاتفاقهما دون تعمد منهم مع شهادة معاصرة مقنعة هي شهادة النقيوسي..

   أمر أخير واكثر أهمية لرد حجة حمدان الثانية قبل أن يدخل النقيوسي ساحة الرد عليها.. إن وضع الدلتا كان مستقراً رغم وجود البحيرات من قبل المئة الرابعة، أي من قبل دخول العرب باكثر من ثلاثمئة سنة.. ورغم تهديد البحر الطبيعي، فإن براعة نظام الري الذي واجه أي غزو للبحر عبر فترات متباعدة هو أمر ثابت شاهدنا عليه هو حمدان نفسه فيما نقله عن جغرافيين معتبرين مثل كريج وويلكوكس دون تحفظ من جانبه عليه، فيقول في ص223 من ذات عمله الكبير "شخصية مصر ج1 فصل3" وقبل ثلاث صفحات من احتجاجه بما نقله عن بتلر: "إن بذرة من المستنقعات كانت دائماً في أقصى شمال الدلتا منذ عهد هيرودوت... من الناحية الأخرى، لا سبيل إلى الشك عند البعض في أن كل نطاق شمال الدلتا كان منذ فجر العصور التاريخية أرضاً عامرة معمورة تزرع إلى سيف البحر ذاته ... وكان توزيع المياه فيها أثناء الفيضان يتم عن طريق فروع النهر ، وكان يحف بهذه الفروع أراضي ضفاف عالية ... أما تصريفها فكان يتم في نوفمبر بواسطة قنوات صرف تقع في الاراضي المنخفضة ... وفي أيام البطالسة والرومان كانت منطقة البراري باكملها تزرع ، بينما عرفت المنطقة المتاخمة للبحيرات في المراحل التالية (أى العربية بالطبع) باسم "أرض الزعفران" كناية عن الخصب والعطاء."

   فرغم بدئه بان بذرة المستنقعات كانت قائمة، وهو ما لم يعترض عليه أحد ولا أنا، فإنه يشهد في حديثه على أسلوب ري وتصريف يعتمد على فروع النيل الواصلة إليها بكل وضوح وتصريح في النص، ويصف النتائج الدائمة المترتبة على نظام الري والصرف المحكم من "أراضي عامرة ومعمورة تزرع إلى سيف البحر ذاته"..

   فما هو الدليل أن الوضع قد تغير فقط قبل مئة سنة من غزو العرب؟ ما نقله بتلر عن كواترمير عن المقريزي والمسعودي؟ لا مزيد من التعليق، في مواجهة بتلر نفسه الذي حمَل العرب المسئولية "في غموض" ومواجهة شهادات التاريخ الثابتة أن بحيرة المنزلة لم تنشأ قبل غزو العرب بمئة سنة بل أبعد من ذلك وحتى قبل زمن كاسيان على الأقل (يثبت إسهال أن البحيرات كانت موجودة منذ عهد بعيد ولم تتسبب في نشوء البراري في الدلتا كما هي الآن..

   إن دليل حمدان هنا ينتهي في واقعه إلى المقريزي والمسعودي اللذين يخالفان شهادة شهود عيان وتسقط شهادتهما غير الموثقة والمنقولة كعهدهما وعهد مؤرخي العرب من القديم دون فحص..

 

   رد النقيوسي

 

   زفي عدة مواضع يظهر النقيوسي سبيل العرب في تعاملهم مع نهر النيل ونظام الري والصرف، وهو يسبق ذلك في غير موضع فيقدم علة عداوتهم للمياه وتخوفهم منها مما تكون لهم من خبرة سيئة معها في حربهم.. يقول النقيوسي:

   "ولم يكن المسلمون قادرين على إيقاع أية إصابة بالمدن الواقعة على النهرين،  لأن الماء عمل كَسور، ولم تستطع الخيول دخولها لعمق الماء الذي أحاطها."  (114: 4).. ويعود فيكرر بعدها:

   "نفد صبره على إخضاع المصريين قبل ارتفاع النهر." (115:2)..

   وهم على كل حال لم يكتفوا بإبقاء الموضوع مرهوناً باحتمالات إن كانوا قد انتقموا من نظام الري أم أنهم تصالحوا مع النهر بعد استقرار الأمور لهم، فالنقيوسي يذكر واقعة ردم وواقعة إعادة حفر كلاهما به ما به من دليل على إساءة استعمال النهر لمصلحة أغراضهم الحربية، وعدم مبالاتهم بنتيجة ذلك الردم وذلك الحفر على التربة: 

   "وأجبرهم (المسلمون) على حفر قناة تراجان (مرة أُخرى)، والتي كانت قد خربت لوقت طويل، لكي يوصلوا المياه عبرها من بابـِلون في مصر إلى البحر الأحمر." (120: 31).. وقناة تراجان هذه والتي إلى الآن تُسمى بخليج أمير المؤمنين والتي أراد منها عمرو فتح الطريق بينه وبين الحجاز لأغراض تبدو تجارية وقد تحمل في طياتها أغراضاً حربية وتآمرية (لما هو معروف في التاريخ من كثرة ما بين العرب من نزاعات دامية واهتمامه بسرعة العودة لرأس مملكته لو جد جديد).. إننا في زمننا هذا نعاني حسبما يقول خبراء الجيولوجيا والزراعة من فتح مشروع توشكى غير الحصيف والذي أهدر مياهاً مهولة المقدار، فهل خليج تراجان هذا كان أقل إهداراً في وقتها؟

   على ان المصيبة الحق تكمن في نهج ردم الترع، وقد رأينا كيف عجز العرب أمام حواجز المياه، وكيف تكونت لديهم خبرة سيئة معها، وها هم يبدأون بالفعل في ردم ما يمكن ان يشكل عليهم خطر من قنوات نيلية:

   "عندما استولى على مدينة الإسكندرية جفف القناة حسب تعليمات المرتد ثيودور...." (121: 4)..

   ومفهوم أن ثيودور المرتد خاف على سلامته من عودة جيوش الرومان فأعطى لسادته الجدد تلك النصيحة المدمرة.. ويمكن أن يكون مفهوماً بعدها أن العرب، الذين لهم خبرة حربية مرة أصلاً بالقنوات، قد تعلموا الدرس.. والسؤال هو: أولئك الذين ردموا بالفعل، كم مرة كرروا عملهم؟ لاسيما مع الثورات التي يعلمنا التاريخ أنها وقعت، والتي يمكن لنا بدون التاريخ أن نتوقع حدوثها؟

 

 

   3. شهادة المخزومي

 

   قد يبدو عجيباً أمر استشهاد حمدان بالمخزومي، التي لا تحكي شيئاً عن بدأ نشوء الظاهرة، أو على الأقل المتسبب في اتساعها تسبباً رئيساً، وإنما تقف عند حدود الشهادة بوجودها مستفحلةً في زمنه.. ومع ذلك فإن حمدان أوردها تحت بند "ثالثاً" وكأنما فيها شهادة لصالح نظريته الدفاعية، وها هو ما اورده حمدان على أي حال، يقول:  "شهادة المخزومي تنص على حلول الخراب وعمومه في نهاية القرن 10 الميلادي ، فإن ذلك إنما يشير الى نهاية الكارثة لا بدايتها."!!

   فليكن.. ولكن السؤال هو عند بدايتها.. فما الذي أدخلها في دفاعيات حمدان؟ إن منطق حمدان، لمن لم يلتفت هنا، هو تعقب أي شهادة قد تقوم عليها مسئولية المسلمين عرب أو غيرهم، ولما كانت  شهادة المخزومي تشير للبراري في زمن الحكم الإسلامي التالي للعرب، فإن حمدان حرص على أن يؤكد من عندياته أن المخزومي أشار إلى نهاية الكارثة وليس بدايتها.. وهنا أتفق مع حمدان، كل من منطلقه، هو من منطلق تبرئة المسلمين، وأنا من ثبوت مسئولية العرب عندي عن الكارثة بفضل شهادة النقيوسي..

   على أن المؤسف مرة جديدة أن أعراض الحكم المسبق المدفوع بالعاطفة يظهر على تقدير د. حمدان العالم الجدير بالتقدير رغم هذا.. يشهد هنا على د. حمدان د. حمدان في صفحة سابقة فيقول ص223:

    "وحسبنا بعد هذا كله على أية حال شهادة المخزومي التي تحدد أيضا (بداية أو نهاية ؟) نشأة البراري بحوالي 961 ميلادية حين كان قد تم الخراب واكتمل هجرها، وأياً كان فلقد ... إلخ"

 

   إذاً فُلدينا من حمدان الإفادة بـ"(؟)"، وإذاً فلنا منه "وأياً كان"، وإذاً فإن حمدان لم يحسم أمره إن كانت شهادة المخزومي هي عن نهاية أم بداية الكارثة، ذلك التردد قبل ثلاث صفحات من تحوله المفاجئ دون أي فحص من جانبه لما طرحه هو نفسه من علامة استفهام، فيفاجئنا ودون حيثيات إجابة سوى شهادة بتلر المنقولة عن المسعودي والمقريزي المختطفة كما سلف فحصه..

   الشاهد من هنا أن الجغرافي الكبير يجزم بغير ثقة علمية ولا تعليق!

   ولا تعليق أيضاً من جانب النقيوسي حيث أن الحجة هنا لا تدافع عن غزو العرب ولكن عن حكام المئة العاشرة وهم ليسوا متهمين في موضوع قضيتنا الدقيق..

   وأما وأن الجغرافي الكبير قد حكم بأن المئة العاشرة شهدت نهاية الكارثة لا بدايتها، فهو يعود بنا للسؤال عن بدايتها دون جواب مقنع من عنده حتى الآن، على أنه يطرح بعدها دليله الرابع:

 

 

   4. خط سير الحملة

 

   "خط سير الحملة لا يتفق مع هذا التخريب المزعوم . فالعرب في زحفهم التزموا حافة الصحراء، غالبا متجهين نحو الصالحية - ومنطق طبيعي بالنسبة لفاتحين رعاة أن يلتصقوا بطريق صحراوي . وفي قلب الدلتا ، فانهم زحفوا من نيقيو الى أتريب فبوصير فسخا ومنها إلى دمياط . معنى هذا أنهم لم يتقدموا في الدلتا شمالاً الى ابعد من سخا ، الأمر الذي يوحي بانهم لم يكونوا بحاجة الى مثل هذا التقدم لأن ما كان يقع في أقصى الشمال إنما كان ببساطة مهجوراً من قبل ، كان براري من قبل..."

   هذا هو نص حجة حمدان الرابعة والأخيرة لتبرئة الغزو العربي من مسئولية إنشاء أو التسبب في نشوئ ظاهرة زحف البراري في الدلتا..

   وقبل الاستماع لـ"حكم شهادة" النقيوسي على ذلك فإن قليل من المنطق يجيب على الحجة.. النتيجة توقفت عنده عند قوله "الأمر الذي يوحي بانهم لم يكونوا بحاجة إلى مثل هذا التقدم..." ولكنه لا يتوقف مع المنطق البسيط عند هذا الاحتمال، فالأمر، طالما ظلت المعرفة بالتفاصيل غائبة، يوحي أيضاً بأنهم احتاجوا لمدد انتظروه، والأمر يوحي أيضاً بأن هناك مناطق احتاجوا لتأمينها جنوباً، والأمر يوحي أيضاً بأن الفيضان قد أتى فأوقف زحفهم في منطقة كانت وقتها تمتلئ بالفروع والترع.. ويظل الأمر يوحي ويوحي، ومتى أتى الوحي والاحتمال بطل الاستدلال، على أن النقيوسي يوحي لنا بالتوقف عن سرد الاحتمالات فعنده الخبر اليقين...

 

   رد  النقيوسي

 

   وفي فصل مستقل من هذه الدراسة التقديمية لنص النقيوسي الثمين  أُفرِد لخط سير الحملة العربية الغازية لمصر تفصيلاً مدققاً مشوهداً من واقع نص النقيوسي.. وفيه يظهر سبب عدم إيغال العرب في التنقل شمالاً في الدلتا بل ولا حتى غرباً فيها..

   إنه نفس السبب الذي لأجله صار العرب أولاً متهمين بتخريب نظام الري: إنه توقفهم سنة عن التقدم بسبب احتماء المصريين بقنواتهم النيلية والذي بسببه صارت بينهم وبين قنوات النيل نقمة ونية تصفية بقدر الإمكان بحسب هواجسهم الحربية..

   لقد تعطل تقدم الغزو حوالي سنة.. وفيها انتظر العرب المدد.. وفيها تحولوا للصحراء حيث يتحركون أبرع من تحركهم بين قنوات الري (كما يقر د. حمدان نفسه في نص حجته: " ومنطق طبيعي بالنسبة لفاتحين رعاة أن يلتصقوا بطريقة صحراوي").. وفي هذه الصحراء اتجهوا للفيوم جنوب غرب وتركوا الدلتا حتى أتاهم المدد فاسقطوا حصن بابلون ومن ثم مصر (المحروسة) أي قطاع جنوب الدلتا ومن ثم بقية مدن الدلتا..

   في الفصل التاسع من هذه الدراسة ثبت بوقائع الغزو، وفي الفصل العاشر تصور  يمنطق ترتيب وقائعه، وفيهما الرد اليقين على أي تمحك احتمالي..

 

 

   خلاصة حمدان:

 

   "و الخلاصة أن الأرجح ، إن لم يكن المؤكد ، ان نشاة البراري سابقة للعصر العربي . ومن الجائز انها ترتبط بتلك الفترة المضطربة كثيراً والغامضة نوعاً التي كانت الدلتا فيها مسرحاً للصراع المسلح الروماني - الفارسي ، بكل ما تعني من أخطار على الري والزراعة. فيما عدا هذا فإذا كان للعرب - ومن بعدهم - ثمة مسئولية يلامون عليها تاريخياً ، فتلك هي التقصير والجمود ازاء التوسع القانوي البطئ للبراري ثم التبلد العاجز والتعود المعيب عن استصلاحها قرون عددا".

 

    فهذا ما انتهى إليه د. جمال حمدان، أن يلجأ لحلقة غامضة في التاريخ ليفترض فيها ما شاء له الغرض أن يفترض من حدوث وعدم حدوث.. وأن يكتفي بتطييب خاطر ضميره العلمي بتحميل العرب ومن بعدهم مسئولية الإهمال وعدم التصدي لظاهرة هم أبرياء من نشوء أصلها..

   وواضح تكراره لكلمات التوبيخ "تقصير جمود تبلد عجز تعود معيب"، ولعله بها يسعى لحل مشكلة التبرئة الكيفية أصلاً من تهمة خطيرة بمبالغة كمية في ملامتهم على تهمة أقل خطراً، كأنه يوازن بذلك الأمر أمام ضميره، ولكن (كمّ x  كمّ) لا يساوي (كيفْ) يا دكتور!

 

   وأمام خلاصة حكم د. حمدان أضع أمام ضميره العلمي خلاصة شهادة يوحنا النقيوسي ومع سؤال:

   تقول في خلاصة حكمك  " كانت الدلتا فيها مسرحاً للصراع المسلح الروماني - الفارسي ، بكل ما تعني من أخطار على الري والزراعة"طيب والصراع المسلح العربي –الروماني\القبطي يا دكتور؟ أليس بالأولى، والعرب أهل خوف من المياه وكراهة لها؟ أليس بالأولى يا دكتور وحقبة الفرس تبقى احتمالية بلا شهادة بينما تقوم الشهادة الواضحة على تفاصيل غزو العرب وأعمالهم الوحشية؟ أليس بالأولى أن تقع المسئولية على رأس العرب يا دكتور؟

   إن حرق الأرض وردم الترع والفروع، وإعادة حفر القديم الذي أثبتت التجربه العمليه فشله، وكل ذلك سواء ردم أو إعادة حفر أو حرق كان لأسباب حربية محضة بلا روية هندسية، هل كل ذلك لا يتسبب في إنشاء ظاهرة البراري أو على الأقل دفع تقدمها دفعاً طفرياً للأمام؟ العلم ومنطقه حاضر دائماً، والدور على الضمير!

 

 

 

 

8

الروح النبوية في شهادة الأسقف المؤرخ

 

   أذهلني الأسقف المؤرخ يوحنا النقيوسي فوق كل شئ فيما حملته شهادته من روح نبوية في نظرته للأحداث.. فإذ هو فيما بعد حديث عهد بالعرب وخلفياتهم، لم يتردد في وصف دينهم بأنه دين الوحش! الذي هو نبيهم نفسه!! لقد كان مفسراً أروع مما كان مؤرخاً..

   وهو دائماً ينظر من حين لآخر للمستقبل بنظرة نبوية رجوية (من الرجاء) مستمداً إياها من أحداث الكتاب المقدس الماضية..

 

   وكان بلا تردد أكثر ما لفت انتباهي كشغوف بالتفسير وبتاريخ التفسير هو قول النقيوسي: " والآن فإن كثير من المصريين من المسيحيين الزائفين فقد أنكروا الإيمان الأرثوذكسي المقدس والمعمودية المعطية الحياة، ودخلوا دين المسلمين، أعداء الإله، وقبلوا التعليم المقيت الذي للوحش، الذي هو محمد..."  (121: 10)

   إذاً فهذا النص الرؤيوي المحيّر وجد تفسيره المنتظر عبر أجيال وبلا أي تردد لدى الأسقف ذي الرؤية الواضحة بمجرد تعامله مع غزاة مصر بدينهم الحديث..  ويكمل فيصفهم بالوثنيين دون أن يغيّم الأمر عليه حديثهم عن الإله الواحد وعن الأنبياء، ولاسيما حديثهم عن المسيح والعذراء، فيقول عمن مالئهم من المصريين: " ومالوا جميعاً مع أولئك الوثنيين،... " (121: 10).

 

   إنه لمن المثير لاسترعاء الانتباه أن نصاً كتابياً طالما حيّر المفسرين وطالما شغف القراء به لوعة غموضه يجد جرأة التفسير المباشر وبلا تردد عند النِقيوسي فور  تعامله مع العرب المسلمين!

 

   على أن الإشارة الأكثر مدعاةً لملاحظة الرؤية النبوية بعد حديثه عن الوحش هي تكراره لوصف العرب بالـ"إسمعيليين":  "ولكن الإله، حامي العدل، لم يهمل العالم، وإنما جازى أولئك الذين أثموا : لم يرحم أولئك الذين تعاملوا بخيانة ضده، وإنما أسلمهم لأيدي الإسماعيليين" (116: 13)، ويعود فيقول: "وعندما تبرق دينونة الإله على هؤلاء الإسماعيليين فليصنع بهم كما صنع قبلاً بفرعون" (120: 33).

 

   وحتى في نظرته للخلاص وللعقوبة التي ستحل بما صنعوه من وحشية ضد المؤمنين فهي عنده أيضاً نبوية الطابع تستدعي سابق الوعود وترجو مقبل التحقيق.. فهو يستدعي عذاب الإسرائيليين في مصر بما يحمله بداهةً من صبر الرب على ظلمهم حتى صعد أنينهم إليه ورأي الرب وعلم الرب، ثم هو يترجى بريق دينونة الرب بحسب وعد الكتاب الذي لا يكذب، فهو حديث يفيض بالروح النبوية والرجوية في استناده للماضي واستشرافه للمستقبل، ولنسمع النقيوسي يقولها بكلماته: "وكان النير الذي وضعوه على المصريين أثقل من النير الذي وُضِع على إسرائيل من فرعون، الذي دانه الإله دينونة عادلة، إذ أغرقه في البحر الأحمر مع كل جيشه بعد الضربات الكثيرة التي ابتلى بها البشر والماشية. وعندما تبرق دينونة الإله على هؤلاء الإسماعيليين فليصنع بهم كما صنع قبلاً بفرعون ! ولكنه بسبب خطايانا أنه [أي الرب] سمح لهم أن يصنعوا ذلك بنا. ورغم ذلك ففي عنايته الدائمة فإن إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح سوف ينظر لنا ويحفظنا: ونحن أيضاً نؤمن أنه سيهلك أعداء الصليب، كما يقول الكتاب الذي لا يكذب." (120: 32-33).

 

   إذن، ففي المجمل، فإن الأسقف يوحنا النقيوسي تَحمَّل بفكر نبوي كثيف سواء في استدعاء الماضي أو في رجاء المستقبل مثلما هو حاله في وصفه للحاضر..

 

  

   ومن مظاهر نزعته النبوية التي تمدنا بشاهد مزيد على تأكيد تمييزه في النظرة النبوية بين العرب والرومان (تمييزاً بين خصومة انحراف الأخ وخصومة مجابهة العدو) هو إيراده بالقبول الواضح لنبوة رهبان وبعض شعب الكنيسة الخلكيدونيا في الإسكندرية على  باترياركهم كيروس بعدم البقاء لحين الاحتفال بعيد القيامة بسبب مخالفة الشماس للقراءة الصحيحة في عيد الصليب وتغييرها لتملق عودة الباتريارك: ففي (120: 14-17) يورد القصة عن نبوة أولئك ذوي الغيرة الطقسية التي توقعوها على الباتريارك كيروس، ويختمها بقوله "إن الناس لم يصدقوا،" ليفاجئنا في (120: 38) بتعليقه على موت الباتريارك في خميس العهد بهذه العبارة المثيرة: " فلم يعش ليرى عيد القيامة المقدسة لربنا يسوع المسيح كما تنبأ المسيحيون عنه."..

   إذاً فإن حاسته النبوية المسيحية تغلّبت على خصومته المذهبية، فرأى في مخالفة طقسية حدثت في كنيسة مخالفة لمذهبه ما يبرر نبوة النقمة على باترياركهم، ورأى دون تحفظ في الغيورين على الطقس في كنيسة مخالفة مذهبياً له مسيحيين، ورأى في نبوتهم نبوة صحيحة تحققت!

 

 

   ولاشك، في الجهة المقابلة، أن النقيوسي أسرف في تلك النزعة النبوية حينما حوّل الدعوة الرغبوية المنسوبة للباتريارك ساويرس ضد الأباطرة البيزنطيين حول عدم ميراث ابن أحدهم لعرش أبيه طالما بقوا على ولائهم لخلكيدونيا، فيقول: "حدث أن ساويرس العظيم، باتريارك إنطاكية، كتب إلى سيزاريا النبيلة بهذه الفحوى: "لا ابن لإمبراطور روماني سيجلس على عرش والده، طالما قامت شيعة الخلكيدونيينفي العالم." (116: 6) فهذه "النبوة" فشلت عدة مرات ومناقشتها في هامش 58  من هوامش التعليق على النص..

 

   ويبدو أن الحاسة النبوية كانت طاغية على شخصه، فلا ننسى أنه أطلقها مغضباً على مجمع الأساقفة الذي خفض رتبته لزمن عقاباً على ضربه الذي أفضى لموت الراهب المغتصِب (في الفصلين الثالث والخامس من هذه الدراسة التفصيل لذلك).. على أن هذه النبوة، مع ما بها من شبهة نزعة شخصية،  قد تحققت بحسب شهادة كتاب تاريخ البطاركة، وهو أمر يقوي حيثية الأسقف يوحنا النبوية على كل حال..

 

 

   ومع ذلك فإن المسحة النبوية في نظرته لكارثة الغزو العربي الإسلامي  تتميز عن مشاهده النبوية الأُخرى تميزاً واضحاً في ثلاث سمات:

       * فإن نظرته النبوية على العرب اتسمت بالمرجعية الكتابية، بخلاف تبنيه لنبوة ساويرس على الخلكيدونيينونبوة مسيحييّ الإسكندرية على كيروس والتي هي نبوات محدثة..

       * كما اتسمت بالمبادرة في الإدراك أو الأصالة، إذ هو فيها لم يكن مثنياً على نبوة شاعت مسبقاً، ولكنه كان مبادراً بوضع التفسير الكتابي غير المسبوق على العرب ودينهم..

       * ثم أنها اتسمت بالعمومية الخالية من المسحة الشخصية كما في نبوته على الأساقفة حارميه..

 

   إن تميز روح نبوة النقيوسي على العرب جليّ، فواضح أن تحيز النقيوسي لـ"نبوة" ساويرس تخلو من هاتين السمتين (الكتابية والأصالة) فهو في قبوله لنبوة ساويرس كان يحرص على تبعية وولاء لصاحب اسم مكرم بحماسة مذهبية واضحة، بينما نبوته المضادة على الأساقفة الذين حرموه بها ما بها من نزعة شخصية مباشرة بجانب أن القصة كلها عارضة، وأما نظرته النبوية على العرب غزاة مصر وعلى دينهم فهي كتابية صرف، بجانب أنه صاحب مبادرة في التفسير إذ أنه طرح نظرته النبوية هذه في أول عهد مصر بالعرب كمسلمين وغزاة، وبلا شبهة ترديد كلاماً مُعَمَّى ومنقول سلفاً بتقليد..

   فيالها من نظرة نبوية على العرب المسلمين وهم في بكور عهدهم في مصر حكاماً جدداً والأسقف المؤرخ يواجههم بنبوة لا كالنبوات، وما أجدرها بالدراسة من علماء تاريخ التفسير الكتابي (لقيمتها التفسيرية)، ومن علماء تاريخ مصر (لدلالاتها التاريخية)..

 

 

  ولعل هذا الفصل على قصره يحمل أهم الملاحظات لي على النص، لأنني أظن أن مثله هو ما ستخلو منه أية دراسة موضوعية للنص والتي فيها يصرف الدارسون التقليديون جل اهتمامهم في القيمة التاريخية المحض، فإن التفتوا لمثل هذه الملاحظة فلا يتوقفون عندها بما تستحقه من الاستدلال..

 

 

 

 

9

ثّبْت بتطور تواريخ ومواضع الأحداث

مشوهداً من النص

 

 

   ( إضافة لاحقة: في السياق الأول لكتابة هذا التقديم أثبتُّ أولاً هذا العنوان ثم أجّلت رصد المتن لوقت لاحق، وفي غضون التأجيل تحصّلتُ على كتاب بتلر وبه جزء كبير وقيّم من الثبت المطلوب معمولاً بدقة تاريخية محترمة، وقد أفرد له بتلر ملحقاً خاصاً في كتابه.. وعلى هذا فلم أجد سبباً لتكرار المجهود ونقلت مادة بتلر كما هي وأضفت عليها ما لم يعتن بذكره وشوهدت الجميع من نص النقيوسي، وأضفت أخيراً التصوير النهائي لسير عمليات الغزو العربي لمصر في سياق منطقها الجغرافي والعسكري..

 

   والثبت الذي أورده بتلر عُمْدته هو النقيوسي كما يظهر من ملاحظات بتلر نفسه، فقد نقل بتلر في ملحقه المعني عن  "أبو صالح" والحموي وابن عبد الحكم والسيوطي والمقريزي وابن خلدون، إلى أن قال: "ولكن ضوءً جديداً تماماً قد أُلقِي على كل من التاريخ والتزمين بعمل يوحنا أسقف نيقيوس القبطي" (ص 532).

 

   وناقش بتلر بعد ذلك دقة تواريخ النقيوسي فيعتمد بعضها بلا جدال ويفحص بعضها الآخر فيخلص لخطأ منقديها ويبرره بخلطهم بين الدورة المدنية الرومانية والدورة السنوية "القمرية" التي استخدمها النقيوسي (ذات الدورة الأبقطية التي اعتُمِدَت سابقاً في هذا الكتاب وتم فحصها والتيقن من دقتها – راجع الهوامش)، وهناك تفاصيل قيمة كثيرة أوردها بتلر يمكن مراجعتها في عمله ص533..

 

   إذاً فكل الإشارات المنقولة من بتلر الواردة في هذا الفصل هي بترجمتي عن:

   The Arab Conquest to Egypt and the Last thirty Years of the roman dominion, Alfred Joshua Buler, 1902, Oxford at the Clarendon Press, appendix D “On the Chronology of the Arab Conquest”, PP. 544-545  - انتهى التنويه عن الإضافة اللاحقة)

 

 

 

الثبت التاريخي للغزو العربي لمصر

 

 

   1) 12 ديسمبر 639  ---  دخول جيش عمرو إلى العريش --  المصدر: ابن عبد الحكم   (بتلر)

 

   2) يناير 640  ---  سقوط البيلوزيوم [الفرما] --  المصدر: يوتيخوس وياقوت الحموي (بتلر)

 

   3) مايو 640 ---  زحف عمرو إلى الفيوم  --  المصدر: النقيوسي المصدر "الوحيد" (بتلر)    

   علّق بتلر بان النقيوسي هو المصدر الوحيد مكرراً ثناءه السابق بوضوح قيمة النقيوسي في التأريخ لغزو العرب مصر.. وفي الواقع فإن الفصول المحفوظة من حوليات النقيوسي تبدأ بالحديث عن هجوم العرب على الفيوم (فصل 111).

 

 4)  ؟؟ ---   زحف عمرو على هليوبوليس (غير مُثبَتَة عند بتلر)    

   122: 4 عند النقيوسي..

  

   5) 6 يونيو 640 ---   وصول المدد  --  المصدر: ساويرس، غير ثابت (بتلر)

   فصل 112: 6  عند النقيوسي..

 

   6) يوليو 640  ---   معركة هليوبوليس بعد احتلال مدينة مصر (القديمة الآن) (بتلر)

   سقوط هليوبوليس بعد استقواء عمرو بالمدد ورد في 112: 9 عند النقيوسي..

 

   7)  ؟؟  ---   سقوط تندنياس (أم دنين) --  (غير مُثبَتَة عند بتلر)           

   فصل 112: 10 عند النقيوسي..

 

   8) ؟؟  ---   سقوط الفيوم وباويط              --  (غير مُثبَتَة عند بتلر)           

   بعد سماع دومنتنيانوس قائد حامية الفيوم بنتيجة المعارك في الجبهة البشرقية هرب، فلما علم المسلمون بهروبه عادوا لإسقاط الفيوم وباويط اللتين سبق وهاجموهما – فصل 112: 12 عند النقيوسي..

 

   9) ؟؟  ---   سقوط أتريب ومنوف والسيطرة على المواصلات النيلية شمالاً وجنوباً --  (غير مُثبَتَة عند بتلر)           

   فصل 113: 3 عند النقيوسي، ويسترط فيصف وقوع الرعب على كل مدن مصر..

 

   10) صيف 640 –  ربيع 641  ---   فترة عجز عن التقدم العسكري صرفها الجيش العربي في محاربة مدن الدلتا بلا طائل بدأها بالزحف على سخا ثم دمياط ولم يفلح فلجأ لحرق محاصيلها ومن هنا تحول لسياسة الإحراق وكررها حتى تحول يائسا (من إحراز تقدم في الشمال) إلى الجنوب لأنصنا--  (غير مُثبَتَة عند بتلر)           

   فصل 115 عند النقيوسي، ويعين المدة في 115: 1 بأنها سنة وبالحساب يتضح أنها حوالي ثلاثة أرباع السنة، وأما تعيين السنة فهو حسب النقيوسي تبدأ بصيف السنة الخامسة عشرة من الدورة والتي توافق سنة 640 م لتتفق تماماً مع بقية التواريخ المترابطة ومع سير الأحداث ولم يعد ذلك الاتفاق مدهشاً للمتابع مع النقيوسي..

 

   11) سبتمبر 640  ---   بدء حصار حصن بابلون (بتلر)

 

   12) أكتوبر 640  ---  معاهدة كيروس [مع عمرو] التي رفضها هركيول (بتلر)

 

   13) مارس 640  ---   خضوع أنصنا --  (غير مُثبَتَة عند بتلر)           

   فصل 115: 10 عند النقيوسي..

 

   14) 9 إبريل 641  ---   سقوط حصن بابلون (بتلر)

   فصل 115: 10 عند النقيوسي أولاً، ويعود ليذكر سقوط الحصن في 117: 3 ويعين يومه تماماً باليوم التالي لعيد القيامة، وهو اليوم الذي اعتمده بتلر وعرض مقاربة الطبري له مع مخالفة مؤرخين مسلمين آخرين..

 

   15) 13 مايو 641  ---   سقوط نقيوس (بتلر)

   فصل 115: 10 عند النقيوسي..

 

   16) نهاية يونيو 641  ---   الهجوم على الإسكندرية (بتلر)

   فصل 119: 3 عند النقيوسي..

 

   17) 14 سبتمبر 641  ---   عودة كيروس (بتلر)

   فصل 120 عند النقيوسي ويروي فيه تفاصيل ومشاهد العودة ببعض الاستفاضة..

 

   18) 8 نوفمبر 641  ---   استسلام الإسكندرية (بتلر) 

   فصل 120: 28 عند النقيوسي..

 

   19) شتاء 641-642  ---   إعادة حفر قناة تراجان (بتلر)

   فصل 120: 31 عند النقيوسي..

 

   20)- 21 مارس 642  ---   موت كيروس (بتلر)

   فصل 120: 37-38 عند النقيوسي الذي يروي تفاصيل دقيقة مثيرة ويعين موته بيوم خميس البصخة..

 

   21) 14 يوليو 642  ---   تنصيب خليفة كيروس (بتلر)

 

   22) 17 سبتمبر 642  ---   إخلاء الإسكندرية من الرومان (بتلر)

 

   23) شتاء 642-643  ---   الحملة على بنتابوليس [الخمس المدن الغربية] (بتلر)

   فصل 120: 34 عند النقيوسي..

 

   24) خريف 644  ---   عودة [البابا] بنيامين (بتلر)

   فصل 121: 1 عند النقيوسي.. وورد أنها السنة الثالثة عشرة من هروبه وتتفق هذه الشهادة مع التاريخ الذي أثبته أنبا ساويرس في عمله العظيم "تاريخ البطاركة"..

 

   25) نهاية 645  ---   ثورة مانويل (بتلر)

 

   26) صيف 646  ---  سقوط الإسكندرية مجدداً أمام العرب (بتلر)

   فصل 121: 4 عند النقيوسي الذي يعين التاريخ بدقة تامة مرة جديدة، فهو يشير إلى السنة الثانية من الدورة القمرية التي توافق سنة 646 ميلادية المعينة من المصادر المستقلة الأُخرى..

 

 

 

 

10

تصور شامل لمنطق سير أحداث الغزو

 

   والآن فإن الثبت المعروض في الفصل السابق والذي يظهر التسلسل التسجيلي فيه بديعاً وموافقاً بالغ الموافقة للتسلسل الزمني، يهدي لنا وصفاً تفصيلياً منطقياً لسير المعارك ما على الباحث إلا صياغته ورصد التعليقات الفنية التي يكاد الثبت وحده ينطق بها...

   ... لقد دخل العرب من سيناء المدخل الطبيعي لأهل الصحراء إلى مصر، وهناك وجد الجيش صعوبة طبيعية في قهر حصن بابلون أحصن المواقع الرومانية في مصر بالنظر للعدد القليل نسبياً لهم ولعدم استهلاك كتائب الحصن في جبهات لم تكن قد فُتِحَت بعد في المعركة..

   ومع حصار العرب جنوباً عند حصن بابلون فقد حصرتهم شمالاً عن الدلتا الحواجز النهرية الطبيعية التي تملأ الدلتا متمثلة في الأفرع الكثيرة للنيل والترع البينية عبرها، ولما لم يكن لهم اعتياد عليها فكان طبيعياً أن يبحثوا عن موضع آخر في الأمام لا شمالاً ولا جنوباً، ولم يكن موضع مثل هذا إلا الفيوم..

   ومن هنا فإن حديث النقيوسي عن الفيوم كأول مواقع النزال في العمق المصري كان مصيباً غاية الإصابة في اتفاقه مع المنطق العسكري الجغرافي.. والآن فإن الفيوم الواحة القابعة في الصحراء والمنعزلة نوعاً تمثل أفضل بدء للجيش العربي، فمن ناحية هم يحاربون في ميدان لا يختلف عن موطنهم الأصلي الذي اعتادوا الحروب فيه، ومن ناحية فإن الحامية الرومانية أقل استعداداً والمدد يحتاج لوقت للوصول إليها، ومن هنا نجح الجيش العربي نجاحاً نسبياً في هجومه الأول على الفيوم..

   وأما تحول عمرو إلى باويط فهو أمر طبيعي لأن باويط تقع عند بدء تفرع بحر يوسف (فرع خارج من النيل موازياً له حتى ينحرف غرباً نحو الفيوم) حتى موازي للنيل وخارج عنه) والاستيلاء عليها هو أمر لازم لتامين موقع المعركة في الفيوم، بجانب ما لباويط من تشابة مع بيئة الغزاة الأم..

   وقد حدثت طفرة واضحة عند وصول المدد الذي كان العامل الأكبر في حسم معركة هليوبوليس التي مهدت لسقوط حصن بابلون..

   وفيما بين سقوط هليوبوليس وسقوط بابلون حارب الجيش الغازي بكل شراسة في الموضع الطبيعي التالي وهو مدن الدلتا العليا (مصر المحروسة) والسفلى نحو البحر، وقد حقق نجاحاً نسبياً دون أن يستولي على أكثرها بسبب تناثر المدن وكثرتها واحتمائها نوعاً بالحواجز المائية رغم أن المياه لم تثمل في ذلك العام عنصر حماية بارز لعدم تزامن فصل الفيضان مع المعارك، وإن مثلت عنصر قلق دائم للعرب..

   والآن وبعد تكاثر عدد المدن والقلق الناشئ من المياه فإن الجيش العربي لجأ لسياسة الإحراق أولاً ثم التحول للجنوب نحو أنصنا في محاذاة النيل (بعد أن أسقط  الجبهة الغربية متمثلة في الفيوم وباويط أولاً)..

   الأمور العسكرية تسير مساراً طبيعياً جداً للآن وترد على كل الأسئلة الافتراضية كمثل لماذا لم يبدأ العرب بمدن الدلتا الواقعة في الطريق من سيناء لمصر ومنها إلا بقية مدن الدلتا السهلة في عمق الغرب والشمال، او كمثل لماذا لم يركز العرب كل هجومهم على حصن بابلون وما الذي الجأهم للتطرف نحو الفيوم..

   وفي النهاية حكمت طبيعة مصر كدولة زراعية ذات ثروة مكشوفة يصعب حمايتها تزيد موقفها تعثراً الظروف السياسية والنزاعات الأهلية والشخصية بين القادة وحال القصر البيزنطي، حكموا بالسقوط المنتظر..

 

   لقد رٌفِع الذي يحجز من الوسط وتكرر في مصر ما حدث في سوريا (لفهم المغزى من هذا السطر راجع كتاب "ضد المسيح")..

 

 

 

 

11

عن حافظ النص الشماس غبريال

 

   رغم حالة التعب التي جعلتني أستريح لمجرد فكرة أنني وصلت لما أريد من النص، وحان وقت راحة واستشفاء قصير لمعاودة العمل الكثير الآخر، ولكن إحساساً بالدين العلمي والتاريخي للشماس غبريال أرقني فقلت إن إضافة فصل قصير عن الشماس غبريال أمر واجب يخجل أمامه أمر تعبي.. ولكن ما إن بدأت في إضافة هذا الفصل للتحقق من سيرة الشماس وجدتُ أن نيره هين جداً إذ لم يترك هو الكثير عن نفسه، ولا وجدتُ أنا من المتاح القليل أمامي شيئاً عنه.. إذاً فلم يترك الشماس العزيز لي، بعد تنويه قصير عن فضله، إلا فرد الاحتمالات ووضع الإصبع على نقاط الانطلاق لمن يريد مزيداً من البحث عنه..

 

   ماهي المعلومات التي وفرها لنا الشماس غبريال عن نفسه؟ أولاً رتبته كشماس وثانياً اتصاله بالدوائر الحاكمة العليا في أثيوبيا، وثالثاً إجادته للغتين العربية والجعيزية، ورابعاً اللقب الذي سمى نفسه به "ابن الشهيد يوحنا كولوبوس".. وليس لي في ظل القليل المتاح إلا طرح ثلاث قضايا للبحث:

 

   * هل الشماس غبريال قبطي أم حبشي؟

 

   إن نقطة البحث الأقوى لإجابة السؤال هي فحص اللغة الجعيزية المكتوب بها النص، فـ"لغته تظهره" هي قاعدة أبدية.. وللأسف لم يفدني المصدر العلمي الوحيد المتاح لي الذي درس المخطوطة بإجابة هذا السؤال.. فقط يقول تشارلز في مقدمة ترجمته أن الطالب يمكنه التعرف على أن النص مترجم بشكل حرفي من العربية للجعيزية.. وهذا لا يجيب السؤال..

 

   لا يبقى أمامنا سوى الترجيح من الشواهد الأُخرى.. والترجيح يميل لأن يعرف الحبشي اللغة العربية عن أن يعرف القبطي اللغة الحبشية.. وإلى هذا اليوم فالأمر جارْ هكذا.. ولكن لا يخرج الأمر عن باب الترجيح العددي لأن رجال الكنيسة القبطية الذين اضطلعوا بخدمة الكنيسة الأثيوبية واتصلوا بها تعلموا لغتهم وأجادوها، ولو كان غبريال واحد من هؤلاء فلا يُستَغرَب إجادته للغة الجعيزية بل العكس يكون مستغرباً..

 

   ولكن رتبة غبريال كشماس تعود لترجح كفة كونه حبشياً، فرجال الكنيسة القبطية الذين يخدمون في الحبشة يكونون عادة أساقفة أو كهنة، بينما يصح بالأغلبية العددية أن يكون الرهبان الحبشيين في مصر من ذوي رتبة الشماس أو بلا رتبة كهنوت أصلاً..

 

   أما اتصاله بملكة الحبشة فهو أمر لا يرجح أي الاحتمالين، فمن يكون في مكانة علمه ويكون قائماً على عمل كهذا يكون اتصاله بالملكة وقبوله للتكليف منها أمر طبيعي أياً كان جنسه..

 

   (إضافة لاحقة: لا يبقى سوى وضع المعلومة المهمة التي أوردها عن نفسه، عدا كونه شماساً، موضع البحث، فقد ذكر غبريال أنه "ابن الشهيد يوحنا كولوبوس"، وهو ما يزيد ترجيح كونه حبشياً، لا قبطياً كما قد يُظَنّ للوهلة الأولى من ربط نفسه بأب رهبان قبطي أثير، إذ كان للأحباش دير يُعرَف باسم دير إيلياس الحبشي يقع قليلاً جداً جنوب دير القديس يوحنا القصير، وسقط سقف كنيسته وهُجِر متزامناً مع سقوط سقف كنيسة القديس يوحنا القصير وإخلائه! (القديس يؤانس القصير، ص44، دير القديس أنبا مقار – المواعظ والاعتبار، ج2، ص88، المقريزي)، ويزيدنا المقريزي معلومة خطيرة للغرض فيقول: "دير الياس عليه السلام وهو دير للحبشة وقد خرب دير بو يحنس كما خرب دير إلياس اكلت الأرضة أخشابهما وصار الحبشة إلى دير سيدة بو يحنس القصير وهو دير لطيف بجوار دير بو يحنس القصير." (المقريزي، ج2، ط2، ص509، مكتبة الثقافة الدينية، التحميل لصورة ضوئية للكتاب من مدونة "خزانة التراث" khezana.blogspot.com )

   ورغم ما عُهِد من اضطراب بعض سطور المقريزي وخلطه للأسماء ولكن حتى الثابت رغم الخلط أن الأحباش ارتبطوا بدير يوحنا القصير مكانياً وأنهم هجروا ديرهم إما لما سماه المقريزي "دير يوحنا القصير المجاور لدير يوحنا القصير (ولو صح الكلام لكان المقصود ديراً صغيراً ملحقاً بالدير الخرب)، أو أنهم رحلوا مع سكان دير يوحنا القصير إلى حيث رحل الأخيرين إلى دير أنبا مقار القريب كما هو ثابت من تاريخ المنطقة..

 

   وإذاً فقد كان للأحباش معرفة لصيقة بالقديس يوحنا القصير، وكان ديرهم في وادي النطرون قريباً جداً منه، حيث كان يمكنهم تعلم اللغة العربية والحصول على المخطوطات المهمة لترجمتها، مع ما يصح من تأثرهم به واستشفاعهم والانتساب إليه روحياً.. – انتهت الإضافة اللاحقة)

 

   نتيجة الترجيح تميل في تقديري بوضوح لكون الشماس غبريال حبشياً ترهب في وادي النطرون ليس أمامنا بعد ذلك في تحديد جنسية الشماس المترجم إلا الترجيح الذي يميل كثيراً جداً الآن إلى كونه حبشياً، ولحين أن يحسم مصدر علمي السؤال الأول عن اللغة..

 

   ولكن ما معنى كونه ابن "الشهيد" يوحنا كولوبوس؟ هناك إشكالية في هذه العبارة:

 

   * ما معنى تلقيبه لنفسه بأنه ابن الشهيد يوحنا كولوبوس؟

 

   نعرف من الفصل الذي ختم به غبريال عمله أنه أتمه سنة 1602م.. ونعرف من تاريخ أديرة وادي النطرون أن دير آبا يوحنا القصير (كولوبوس) قد هُجِر سنة 1413م! (القديس يؤانس القصير، ص43، دير القديس أنبا مقار)..

   كما نعرف جيداً أن آبا يوحنا القصير لم يُذكَر عنه في سيرته أنه شهيد ولا هو أمر محتمَل أن يكون شهيداً إذ هجر البرية سنة 407م بعد هجوم البربر وأقام في برية البحر الأحمر (الصحراء الشرقية) قرب السويس..

   ومع هذا اللبس فإن الجملة يمكن حل مشكلاتها بافتراضات معقولة، وتترك لنا بعد ذلك ترجيحاً جيداً عن محل انتساب الشماس غبريال:

 

   من المعروف أن "كولوبوس"، وتعني القصير باليونانية، هو لقب آبا يوحنا القصير الذي كثيراً ما كان يُستَخدَم في أصله اليوناني الوارد هنا أي "كولوبوس".. والأرجح جداً أن الشماس غبريال يشير إلى ذلك الأب راهب القرن الرابع الشهير.. ورغم أن الدير كان مهجوراً من الرهبان ولكنه ليس من المستبعد انتساب الشماس غبريال روحياً لهذا الأب، وهو أمر غير مستغرب في أدبيات الأرثوذكس عموماً.. فليس بالضرورة أن يكون الانتساب لاسم قديس منتقل أمراً ينحصر في رهبان ديره وإن كان هذا هو الشائع..

 

   واستبعاد هذا الاحتمال لا يترك لنا إلا احتمالات بعيدة جداً كأن يؤخَذ الكلام على ظاهره فيكون "يوحنا كولوبوس الشهيد" هنا هو شخص آخر تسمى باسم مركب تيمناً بيوحنا القصير وصار شهيداً وكان والداً بالجسد للشماس غبريال؛ أو أن يكون الشماس غبريال راهباً في أحد الأديرة الأُخرى المسماة باسم يوحنا القصير في الصعيد، وإن لم يُعرَف عن أحد هذه الأديرة أنها كانت عامرة في وقته.. 

 

   فإذا أخذنا بالاحتمال الأكبر يصح أن تكون كلمة شهيد خطأً في الترجمة أو خلطاً بينها وبين لقب قديس وهو خلط وارد لاقتراب سياق المعنيين، ويصح أيضاً أن تكون استخداماً تكريمياً للقديسين عموماً درج الناس وقتها عليه..

 

   والآن فإذا قُبِلَت العبارة على أرجح معانيها فإنها تسحب النظر ليوحنا القصير الذي نعرف عنه أن جسده نُقِل لدير أنبا مقار سنة 1413 بعد سقوط سقف الدير، فينسحب النظر بالتبعية إلى دير أنبا مقار، وهناك يمكن لأمرين أن يجتمعا معاً من سيرة الشماس غبريال: الأول أن انتسابه للقديس يوحنا القصير يجعله قريب الاحتمال من مكان تواجد جسده الذي كان وقتها في دير أنبا مقار مستقراً منذ حوالي مئتي سنة، والثاني أن الدير كان مخزن أكثر المخطوطات قيمة علمية وتاريخية، وهو الدير الذي اجتمع فيه أنبا ساويرس المؤرخ مع لجنته التأريخية والتي اضطلعت بتسجيل "تاريخ البطاركة"، والآن فالحوليّات النقيوسي التي ترجمها الشماس غبريال لا يبعد أبداً أن يكون مكان حفظها هو هذا الدير..

 

   إن هذه العبارة القصيرة قادت هذا البحث القصير إلى هذه النتيجة الخطيرة، وهي تدعو للتفتيش عن سيرة الشماس غبريال في تراث دير أنبا مقار.. فهل من باحث؟

 

   * معروف عند الملكة وقائد الجيش

 

   وهو أمر طبيعي في مملكة تحكمها مبادئ تقوية وتقاليد مسيحية لا يجادل عليها أحد، أن يحظى علماء الرهبان والمتقدمين في المعرفة من ذوي الرتب الكهنوتية بتعضيد الحكّام لإنتاجهم العلمي والديني.. ولعل باحثاً تكلّفه غيرته البحث عن توثيق أكثر لسيرة الشماس مما قد يوجَد في وثائق تلك الفترة الحبشية في نحو نهاية المئة السادسة عشرة ومطلع المئة السابعة عشرة التي حكمت فيها الملكة ملك موجاسا أو مريم سينا بحسب اسم معموديتها..

 

 

   والآن وبعد البحث القصير في النقاط الثلاث السابقة بحسب الذي توفر عن الشماس غبريال فما تجمع للخلاصة هو

ترجيح كون الشماس غبريال أحد الرهبان الحبشيين الذين أقاموا في وادي النطرون بالقرب من ديرهم الحبشي وبالقرب من دير القديس يوحنا القصير، وأنه كان عارفاً - مقيماً أو متردداً – على موضع سكنى جسد شفيعه، أي دير أنبا مقار حيث حظي بالاطلاع على نسخة عربية للعمل الثمين لحوليات يوحنا النقيوسي.. وكان الشماس من العلماء ولايبعد أن يكون من المتقدمين في المكانة الاجتماعية في بلده، ولعل ذلك بسبب علمه وتقواه، إذ نراه معروفاً عند الملكة مريم سينا وقائد الجيش الأثيوبي أثناسيوس.. ومرة جديدة يكون لنا كثير المعرفة من موجز الإشارات!

   وهذا التصوير المختصر الذي خلص لنا من تلك الإشارات القليلة يحدد للباحث ويوصي بموضعي بحث لمعرفة المزيد: وثائق دير أنبا مقار، ووثائق الملكة مريم سينا، والشماس الحافظ لهذا النص الثمين يستحق المزيد من البحث..

 

 

 

 

12

مراجع الترجمة والتحقيق

 

   # أولاً النص الإنجليزي لمتن حوليات يوحنا النقيوسيّ أهدانيه الصديق المدهش الهاوي للبحث د. جرجس جمال نقلاً عن موقع ترتوليان tertullian.org  للرائع Roger Pearse..

   والمترجِم والمحقق للنص الإنجليزي هو دكتور ر. هـ. تشارلز عن المخطوطة الجعيزية التي حققها تسوتنبرج للإنجليزية:

    *THE CHRONICLE OF JOHN, BISHOP OF NIKIU, TRANSLATED FROM ZOTENBERG'S ETHIOPIC TEXT BY R. H. CHARLES, D.Litt, D.D., CANON OF WESTMINSTER FELLOW OF THE BRITISH ACADEMY, PUBLISHED FOR THE TEXT AND TRANSLATION SOCIETY BY WILLIAMS & NORGATE, OXFORD, 1916.

   ومن مقدمة تشارلز أخذتُ البيانات عن المخطوطتين الجعيزيتين مع بعض البيانات عن رحلة النص مما ورد في الفصل الأول من الدراسة التقديمية..

 

 

   # وللتعرف على يوحنا النقيوسي نفسه فقد سعدت بالحصول على المرجع الوحيد الذي سجّل شيئاً عن سيرة يوحنا النقيوسي، أعني كتاب تاريخ البطاركة الذي كتبه أولاً أنبا ساويرس أسقف الأشمونين ومعه المجموعة العلمية المحترمة التي كونها، وتابع كتابته بعده بعض أفرادها (في المئتين 10 و11)، ومنه أخذتُ المعلومات النادرة المتاحة عن تاريخ الأسقف يوحنا النقيوسي كاتب الحوليات وناقشتُها واستخرجتُ منها حيثيات أهلية النقيوسي كمؤرخ للغزو العربي في الدراسة التقديمية للترجمة..

   ومن المخطوطة أيضاً استعنت مرة أو اثنتين بتوثيق تاريخ عودة الباتريارك البابا بنيامين من هروبه فوافقت النقيوسي مجدداً..

   ونص تاريخ البطاركة قرأته من نسخة إلكترونية لصورة ضوئية للمخطوطة المحفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، والتي أُهدِيتُها مع مجموعة هائلة من صور المخطوطات من الأخ عصمت  ذكري في لوس أنجِلِس:

   * Bibliotheque Nationale, Department des Manuscripts, Paris, Department des Manuscript “Arabe 301.”  

   والمخطوطة هي الأولى من اثنتين تحفظان العمل كله، والثانية برقم “302 Arabe” بذات المكتبة..

   وعلمت فيما بعد أن الكتاب قد أُعيد طبعه حديثا في مصر على أجزاء، كما حصلت فيما بعد على ترجمة إنجليزية له من موقع ترتوليان المشكور جداً..

 

 

   # والآن عندما بدأت العمل في النص لم تكن أمامي بجانب النص الإنجليزي محل الترجمة، وذاكرتي،  إلا كتب مبسطة عمومية تنتمي لمكتبة متواضعة مما خف حمله ولم يثقل مضمونه.. وعمدتُ إلى هوايتي الأثيرة في استنطاق القليل لاستخراج الكثير المُتَيَقَّن (والأكثر --مع فتح باب الاحتمالات).. وبإكمال نقص هذه المجموعة المتواضعة بذاكرة قوية البنية، وإن ضيّق عليها المرض وفقر التغذية، فإن مقدمة البحث وهوامشه تم إنشاؤها وبسطها بما يليق ويرضي رغم كل شئ..

   وعلى هذا فقد ارتبطت تلك المراجع بالعمل ذاته ارتباطاً عاطفياً أقوى من ارتباطها الفني.. وها هي تلك المجموعة العزيزة:

 

 

   # أخذتُ من الكتب التالية تحقيقاً بموقع بعض البلاد ومعاني أسمائها لاسيما من خرائط بسيطة في الكتب الثلاثة الأخيرة :

 

   * هردوت يتحدث عن مصر، ترجمة من الإغريقية د. محمد صقر خفاجة – شرح وتقديم د. احمد بدوي، هيئة الجغرافيا.

   * مصر الرومانية، نفتالي لويس – ترجمة د. فوزي مكاوي، سلسلة الألف كتاب الثاني عدد 138، هيئة الكتاب.

   * آلهة مصر، فرانسوا دوماس – ترجمة زكي سوس، سلسلة الألف كتاب الثاني عدد 11، هيئة الكتاب.

   * الأديرة الأثرية في مصر، ك. ك. والترز، ترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم، المشروع القومي للترجمة– 272، المجلس الأعلى للثقافة.

 

 

   # ومن هذه النسخة ورغم أخطاءها المطبعية في الأرقام واختزال الشرح وتداخل الفقرات، نعم رغم كل ذلك، كان عليّ أولاً إصلاح الأخطاء ثم حساب تاريخ عيد القيامة في وقت الأحداث:

 

   * الجغرافيا الفلكية للكتاب المقدس، لبيب يعقوب صليب، ملتزم الطبع والنشر مكتبة مار جرجس.

 

 

    # وفي قراءة عارضة مع عكوفي على العمل وجدتُ رأياً لبتلر يتماشى مع الدعاية الإسلامية المضادة لواقع التاريخ عن ترحيب القبط بالعرب، فأخذت الرأي وفندته في الدراسة التحقيقية وتوقعت أن بتلر لابد قاله قبل ظهور عمل النقيوسي واطلاعه عليه، وقد ثبت هذا التوقع.. ورأي بتلر المشار إليه وجدته في:

 

   * الكنائس القبطية القديمة في مصر، ألفريد بتلر،  ترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم،  مراجعة وتقديم أنبا غريغوريوس، ج1، سلسلة الالف كتاب الثاني -- 130، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993.

 

 

   # وكتاب صغير الحجم عدت إليه لأستوثق من دقة تقديري لإخلاء دير القديس يوحنا القصير سابقاً عن زمن حياة الشماس غبريال مترجم النص للعربية،  والذي نسب نفسه ليوحنا القصير، والكتاب هو:

 

   * القديس يؤانس القصير الملقب "كولوبوس"، رقم 4 في سلسلة "قديسو برية شيهيت"، دير القديس أنبا مقار، برية شيهيت، الطبعة الأولى 2004..

 

هذا اسم الكتاب كما ظهر، وإن كنت، مع ما في ذلك من خروج عن السياق، أود تصحيح أمور شلكية في اسم الكتاب وبياناته، فيؤانس الأدق كتابتها يوأنس، وتعبير "يؤانس القصير الملقب كولوبوس" توحي بأن "القصير" تخالف كولوبوس في الاستخدام كأن تكون جزءً من الاسم وليست لقباً، بينما هي مجرد ترجمة عربية لكلمة كولوبوس، فالتعبير غير موفق التركيب، وأخيراً فإن نطق شيهيت هو نطق مختلق بحسب الشكل الصوتي المخترع الممسوخ للغة القبطية في نهاية المئة التاسعة عشرة، وصحيحه هو شيهات كما يرد حتى الآن في كثير من الكتب التي تعود طباعتها إلى حتى منتصف المئة العشرين..

 

 

   # وفيما بعد، وإذ قد أخذ العمل الشكل المستحق لمكافأته بمزيد من الجهد والتوثيق، لم أبخل عليه بالتحصل على مراجع حقيقية تأكدت من بعضها على بعض الحقائق، وما أضفت منها فقرات أثبت الإشارة لها في ذات موضع الإضافة، وها هو ثبت بها:

 

    *The Arab Conquest to Egypt and the Last thirty Years of the roman dominion, Alfred Joshua     Buler, 1902, Oxford at the Clarendon Press.

 

  * فتح العرب لمصر، بتلر، ترجمة محمد فريد أبو حديد، تاريخ المصريين، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

   وهو ترجمة الكتاب الإنجليزي أعلاه، والكتاب مع ترجمته هو أهم الكتب التي أخذت منها فقرات للتعليق أو للتوثيق في الإضافات اللاحقة..

 

   * وصف مصر، جمال حمدان، الجزء الأول، دار الهلال.

 

   * ولمزيد من التأكد من دقة حساب تواريخ أعياد القيامة التي تكررت مرتين في نص يوحنا النقيوسي فقد نقلت عن عدة مواقع إلكترونية طريقة الحساب بحسب الكنيسة اليونانية وجدولاً مهماً أثبته في الهامش المعني وللأسف لم أسجل في ملفاتي عنوان تلك المواقع..

  

   وفي بحثي عن توسيع لتوثيق الجانب الروماني من التاريخ لإثراء التعليقات في الهوامش نقلت بعض الحقائق والصور المعنية عن موقع الموسوعة المجانية: 

    * www.wikipedia.com, under “List of Byzantine Emperors

 

   ومن موقع نداء الإيمان (الإسلامي) حمَّلت كتابَـيّ:

 

   * الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني.

 

   * أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير.

 

   وقد أذهلني ما قرأت في الفقرات القصيرة عن الزبير ابن العوام قائد المدد لجيش الغزو العربي لمصر.. اتفاق مذهل في التفاصيل مع ما كتبه النقيوسي الذي أثبت بهذه التفاصيل أنه إما شاهد عيان مدقق أو ناقل مدقق عن شهود عيان مدققين بدورهم!

 

 

   # ولا تفوتني الإشارة اللازمة والشكر المُستَحَقّْ لموقعي الأرشيف archive.org  وموقع نداء الإيمان  al-eman.com الّذَيْن حمّلت منهما عيون كتب التاريخ التي كتبها المؤرخون المسيحيون والمسلمون المعروفون، فبجانب المراجع المثبتة أعلاه تحصَل لي من التحميل الاطلاع على مجموعة الكتب التاريخية المعنية للتأكد وإثراء الخلفية مثل الكنائس القبطية لـ"ابو صالح" الأرمني، وتاريخ ابن عبد الحكم، والبداية والنهاية لابن كثير، وفتوح البلدان للبلاذري، وتاريخ ياقوت الحموي، وتاريخ "أبو الفدا"، والخطط المقريزية..

 

 

   # ومن مدونة  "خزانة التراث العربي"  www.ljizana.blogspot.com  أخذتُ صورة نسخة مطبوعة من الجزء الثاني من كتاب الخطط المقريزية (طبعة مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الثانية، 1987) لإسناد معلومة أُضيفَت لاحقاً في الفصل 11 من الدراسة التقديمية عن الشماس غبريال المترجم الجعيزي للنص..

  

 

   # وأخيراُ فلابد أنني وقت تدويني للهوامش قد استعنتُ بكتاب من هنا أو هناك، لا يحضرني حصر لهم، ولابد أنهم مثبتون في موضع النقل، فمن عادتي إثبات مصدر كل ما أنقله لاسيما عندما تكثر المصادر العارضة التي لا تحتمل إثباتها في ثبت مستقل كهذا..

 

   صحيح من غير المعتاد تحويل ثبت المراجع إلى فقرات وتعليقات تصاحب كل مرجع، ولكن صحيح قبل ذلك أنني كتبتُ الترجمة والدراسة في وضع غير معتاد ولا ضير على القارئ المهتم بموضوع الترجمة فقط من بعض السطور المزيدة إن كان فيها راحتي.. كما أنني قد سبق أن أشرت إلى أن الموضوعية البحتة لا وجود لها في إنتاج الشخص، ومن سماتي الشخصية أنني أتدخل بالتعليق كلما أمكنني ذلك وطالما كان التعليق منظماً لا يخرج متابعي عن الغرض ولا يربكه، وأرى أن عزل تعليقاتي على مراجعي في فصل مستقل لا يخل بهذه التحفظات!

 

   والآن نهاية أمر خير من بدايته، ويعلم الرب ويستشف القارئ الأريب مدى معاناتي في كتابة تلك الفقرات حتى وصلت لنهايتها التي وإن لم أرض الرضا الكافي عن أسلوبها، ولكني راض وشاكر عن احتوائها للأفكار التي أظن أن فيها قيمة تستحق القراءة وتعين القارئ المتابع على مصادقة و استيعاب ذلك النص الثمين...

 

 

 

 

كلمة ختام

نهاية البداية وبداية النهاية

 

   ... ولقد عاودت النظر لفصول هذه الدراسة المتواضعة، في شهر ديسمبر 2009 وذلك تحت دفع  الأخبار المذهلة عن تغطية سموات الكنائس في القاهرة والجيزة بالأنوار ولاسيما طيف العذراء، وهو وقت يظهر فيه لذوي حبة خردل من التمييز أن الرب يفتقد مصر جديداً ويعيد إظهار زيارته لها، وأنه إن كان قد ضربها ضارباً فها هو يعاودها شافياً..

   ولا يمكن لمن بذل مجهوداً مضنياً في عمل كهذا العمل أن يفوته تذكره مع هذه الأحداث والتي فيها يعود حفدة المرتدين عن الرب إليه متبرئين من عمل أولئك، والتي فيها يشرف الرب على الحرب بمظلة الأنوار السمائية..

   ولذا فقد تذكرت النِقيوسي الذي كان أول من رصد ضربة الغزو وضربة التعذيب ثم أوجع الكل ضربة الارتداد، تذكرته وهو البادئ بتسجيل كل هذا، فأحببت أن أختم نهاية بدايته ببداية نهاية الأمر كله..

   وإنني في معاودتي النظر لفصول هذه الدراسة المتواضعة، وإذ لم يمَكِّنني الوقت والجهد لترميم ثغراتها فإنني أضفت هذه الكلمة الخاتمة والتي كتبت بعد 1370 سنة من بدء دخول الجيش العربي الغازي لمصر في مثل هذا الوقت من السنة..

   ولعل الأسقف يوحنا النقيوسي يتابع معنا ويرى رجاءه البعيد الذي طرحه على الرب يظهر كسحابة قدر كف.. وهنا ولاسيما هنا يُقال بكل حق أن نهاية أمر خير من بدايته، وليفهم القارئ..


 

النص الثمين

 

ثبت عربي بمحتويات الفصول مُلحَق بالمخطوطة الجعيزية

 

  

   تحمل المخطوطة الجعيزية B المحفوظة في المتحف البريطاني ثبتاً عربياً سابقاً على المتن الجعيزي به ترقيم للفصول معنوناً بأهم وقائع كل فصل بالتوالي.. ولكن مطابقة عناوين الفصول مع متونها تثبت أن الترقيم قد انزاح واحداً للخلف بدءً من الفصل 65..

   ففي عنوان الفصل المرقم بـ 65 حدث خلل من الناسخ فيما يبدو فوضع تحت الرقم عنواناً يشير لمتن الفصل 66 وهو: "عن باني كيسارية (قيصرية)".. وظل هذا الخطأ متوالياً في الترقيم حتى ترقيم الفصلين 117 و118 اللذين تقاسما عنونة أحداث الفصل 118 بحسب الترقيم السليم..

وقد عمد دكتور تشارلز المترجم والمحقق الإنجليزي لإثبات الرقم الصحيح المتفق مع المتن بين قوسين مع تسجيل الترقيم الوارد في متن المخطوطة خارج الأقواس..

 

   وجدير بالذكر أن تشارلز  استنتج في مقدمته أن هذا التضارب ناتج من احتفاظ النسخة العربية بما فُقِد من (أو لعله لم يُثبَت في) النسخة الجعيزية..

 

   ونظراً لاضطلاعي بعنونة الفصول من وجهة نظري في ترجمتي، وحتى لا يغيب ثبت بهذه القيمة الفنية عن معرفة القارئ فإنني أثبت ترجمته هنا من النص الإنجليزي لتشارلز:

 

فصل 110 (111) عن ظهور المسلمين في محيط الفيوم وهزيمة الرومان المقيمين هناك.

 

فصل 111 (112) عن المواجهة الأولى لعمرو مع الرومان في مدينة أون (أي هيليوبوليس).

 

فصل 112 (113) كيف تجمع كل اليهود في مدينة منوف بسبب خوفهم من المسلمين، ووحشية عمرو والاستيلاء على ممتلكاتهم حتى (أخيراً) غادروا بوابات مصر [المحروسة #] مفتوحة وهربوا للإسكندرية. وكيف تكاثر رجال أشرار في بداية الشر وبدأوا يساعدون (عمرو) في تدمير شعب مصر.

 

فصل 113 (114) كيف أهان شعب سمنود عمرو لدرجة رفضهم قبوله : وعن رجوع كلوديوس إلى الرومان : وكيف أمسكوا أمه وأخته – إذ كان قد أخفاهم في الإسكندرية – لأنه كان قد انضم وساعد المسلمين.

 

فصل 114 (115) كيف أخذ المسلمون مصر [المحروسة انظر هامش 17 بفصل 112] في السنة الرابعة عشرة من الدورة [دورة السنوات القمرية الـ19 وتوافق سنة 641ميلادية \ 357 قبطية – أنظر هامش 41 الملحق بمتن الفصل] وجعلوا حصن بابلون يفتح بواباته في السنة الخامسة عشرة [642 ميلادية \ 358 قبطية – أنظر هامش 41].

 

فصل 115 (116) عن موت الإمبراطور هركيول وعودة كيروس الباتريارك [كيروس (قورش) أو المقوقس] من المنفى ومغادرته إلى مصر [العتيقة] ليدفع الجزية للمسلمين.

 

فصل 116 (117) كيف أسلم الإله الرومان إلى أيدي المسلمين ورَفـَضَهم بسبب تشككهم [في الإيمان الصحيح] وانقسامهم واضطهادهم الذي ألحقوه بمسيحيي مصر.

 

فصل 117 (118) كيف امتلك عمرو بشاتي، التي هي نيقيوس : و(عن) هروب القائد دوميتيان [ورد في المتن باسم دومنتيانوس] ودمار جيشه في النهر، والمذبحة العظيمة التي حدثت في مدينة بشاتي، وفي بقية المدن -  حتى أتى عمرو إلى جزيرة صاوونا [الأرجح صان الحجر لأن أونا تعني حجراً في اللغة القبطية – أنظر هامش رقم 56 #] – التي كانت في منحنى أبصاي [لعلها بشاتي أي نيقيوس] وجزيرتها في اليوم الثامن عشر من شهر جبنوت [الاسم الجعيزي المقابل لشهر بشنس القبطي]، في السنة الخامسة عشرة من الدورة [الشمسية للسنين].

 

فصل 118 كيف تملك المسلمون كيساريا (قيصرية) فلسطين ومحاولات أخذها [سقوط نيقيوس وكيساريا وردا معاً في فصل 118.. فواضح أن كاتب المقدمات أصابه خلط لطول هذا الفصل نسبياً].

 

فصل 119 عن الزلزال العظيم وخسائر الأرواح في كريت سواء في جزيرتها أو في كل مدنها التي حولها [ليس في النص شئ من ذلك!.. وأما فصل 119 فيتناول انقلاب المصريين المتحولين للإسلام على المسيحيين، وبعض التفاصيل عن اضطرابات في عرش الكُنستانتِنية].

 

فصل 120 عن كيروس باتريارك الخلكيدونيين– هو نفسه الذي ذهب إلى بابلون وإلى عمرو  أمير المسلمين وأخذ الجزية في سفينة [حاوية] ودفعها إلى يديه. وبعدها زاد عمرو ضرائب المصريين: وعن موت كيروس الخلكيدوني بعد ندمه على تسليم مدينة الإسكندرية إلى أيدي المسلمين. [في هذا الفصل ما هو أهم: لاسيما الفقرة 29]

 

فصل 121 عن عودة أبا بنيامين باتريارك مصر من منفاه في مدينة ريف (حيث كان) أربع عشرة سنة، ومنها عشر سنوات لأن الأباطرة الرومان نفوه، وأربع تحت سلطان المسلمين. وعن بقية التاريخ مع ختام هذا العمل. [الختام المقصود أتى في المتن في فصل مستقل رقمه 123].

 

فصل 122 [123] ختام ثاني لهذا التاريخ.


النص الثمين

 

ترجمة متن فصول حوليات يوحنا النقيوسي الاخيرة الخاصة بغزو العرب مصر، والتي تمثل شهادة معاصرة للاحداث

 

مع هوامش مُفَصَّلَة متابِعَة للنص بالتحقيق

 

فصل 111

نحو الفيوم – سقوط بهنسا - مذابح بهنسا وباويط

 

(1)[3] والآن كان ثيودور هو القائد العام في مصر. وعندما أعلمه رسل ثيودوسيوس والي أركاديا [الفيوم][4] بموت يوحنا قائد تحصيل الضرائب المحلية،[5] فإنه تحول بكل القوات المصرية وقواته الاحتياطية[6]، وزحف إلى لوكيون، وهي جزيرة.  (2) وعلاوة على ذلك فإنه خشي، بسبب الخلافات السائدة بين سكان الإقليم، أن يأتي المسلمون ويستولوا على ساحل لوكيون ويزيحوا جماهير المسيحيين الخاضعين للإمبراطور الروماني. (3) وكان نحيبه أشد حزناً من مرثاة داود على شاول حين قال: "كيف سقط الجبابرة وبادت آلات الحرب"،[7] ذلك أن الأمر لم يقتصر على مصرع يوحنا قائد القوات، بل أيضاً كان يوحنا القائد، الذي من  مدينة ماروس، قد ذُبِح في معركة وخمسون من الفرسان [ذُبِحوا] معه. (4) وسأخبركم باختصار بما حل بالسكان السابقين للفيوم: (5) كان قد تم تعيين يوحنا وقواته، تلك القوات التي ذكرناها للتو، من قبل الرومان لحماية الإقليم. وقد وضع هؤلاء حراساً آخرين بقرب صخرة مدينة لاهون للحراسة الدائمة، ولإمداد قائد القوات بالمعلومات عن تحركات أعدائهم. (6) فحصلوا من ثَمَّ على بعض الفرسان وفرقة من الجنود ورماة، فخرج هؤلاء زاحفين لقتال المسلمين بغرض منع تقدمهم. (7) وبعد ذلك حوَّل المسلمون زحفهم للصحراء واستولوا على عدد كبير من الخراف والكباش من المرتفعات بدون دراية من المصريين. (8) وعندما وصلوا إلى مدينة بهنسا، كانت كل القوات على ضفاف النهر قد أتت (للإغاثة) مع يوحنا، ولكن لم يتمكنوا، في تلك المرة، من الوصول للفيوم.[8] (9) وعندما سمع القائد ثيودوسيوس بوصول الإسماعيليين، تقدم من مكان لمكان ليرى ماذا يمكن أن يقع من هؤلاء الأعداء. (10) وأتى هؤلاء الإسماعيليون[9] وذبحوا بلا رحمة قائد القوات وكل رفاقه. وفوراً أجبروا المدينة على فتح أبوابها، وأعملوا السيف في كل من استسلموا، ولم يبقوا على أحد سواء شيخ أو طفل أو امرأة.[10] (11) وزحفوا ضد القائد يوحنا الذي أخذ كل الخيول : وأخفوا أنفسهم في الزروع خشية أن يكتشفهم أعداؤهم. وقاموا بالليل وزحفوا نحو نهر مصر العظيم[11]  إلى باويط،[12] لكي يؤمنوا سلامتهم. ولكن الأمر كان من عند الإله.[13] (12) وأما قائد الفصيلة الذي كان مع أرميا فقد أعلم قوات المسلمين بالجنود الرومان الذين كانوا مختبئين. فأخذوهم أسرى وقتلوهم.[14] (13) وأُبلِغَت أخبار تلك الأحداث للقائد ثيودوسيوس، ولأثناسيوس، اللذين كانا على بعد إثني عشر ميلاً من نيقيوس. فعمدا فوراً إلى قلعة بابـِلون، وبقيا هناك وأرسلا القائد ليونتيوس إلى مدينة باويط. (14) وكان [ليونتيوس] رجلاً بديناً خامل الطاقة وعلى غير خبرة بشئون الحرب[15]. وعندما وصل وجد القوات المصرية وثيودور  يتقاتلون مع المسلمين ويشنون الغارات  يومياً من مدينة الفيوم لكي (يعودوا) لأخذ المدينة [أي بهنسا].[16] فأخذ نصف القوات وعاد إلى بابـِلون لكي يخبر الحكام (بحال الأمر)، وبقي نصف القوات الآخر مع ثيودور. (15) وطلب ثيودور باجتهاد جسد يوحنا، الذي كان قد غرق في النهر. وفي كثير من الأسى انتشل الجسد في شبكة، ووضعه في تابوت وأرسله إلى الحكام، الذين أرسلوه(بدورهم)  إلى هركيول [هرقل بحسب الهجاء العربي المعتاد]. (16) وكثير (من الرومان) إذ كانوا في مصر طلبوا اللجوء في قلعة بابـِلون. وكانوا أيضاً ينتظرون وصول القائد ثيودور لكي ينضموا معه لمهاجمة الإسماعيليين قبل ارتفاع النهر ووقت الزراعة، حيث لا يستطيعون شن الحرب خشية تدمير زروعهم (فـ)يموتون من المجاعة مع أطفالهم وماشيتهم.[17]

 

 

 

فصل 112

مدد العرب - هروب الرومان - سقوط الفيوم وباويط

 

(1) علاوة على ذلك، شب امتعاض عظيم هناك بين ثيودور القائد والحُكّام بسبب التهم التي ألقاها الإمبراطورِ.[18] (2) وذَهبَ ثيودوسيوس وأناستاسيوس معاً ومع عدد كبير من المشاة للهجوم على عمرو ابن العاص. وإلى ذلك الوقت لم يكن المسلمون قد تعرفوا على مدينة مصر.[19] (3) وغير ملقين بالاً للمُدنِ المُحَصَّنة جاؤوا إلى موضع اسمه تيندنياس،[20] وركبوا النهر. (4) وأظهر عمرو يقظة عظيمة وفكراً نشطاً في محاولاته لأَسْر مدينة مصر [المحروسة]. لَكنَّه كان منزعجاً بسبب انفصاله عن (جزء من)  القوَّات المسلمة، التي، إذ كانت منقسمة إلى فرقتين شرق النهرِ، كانت تزحفُ نحو مدينة تُسَمَّى عين شمس، أي أون، والتي تقع [على] أرض عالية. (5) فأرسل عمرو ابن العاص رسالة إلى عمر ابن الخطاب، في إقليم فلسطين،[21] بهذه الفحوى: إذا أنت لم ترسل تعزيزات مسلمةَ فلن أكون قادراً على أَخذ مصر [المحروسة].  (6) فأرسل له أربعة آلاف محارباً وعلى رأسهم قائد اسمه والوارية،[22] وكان من أصل بربري.[23]  (7) وقسَّم قواته إلى ثلاثة فرق. فوضع فرقة قرب تيندنياس، والثانية إلى شمال بابـِلون في مصر،[24] وجعل استعداداته بالفرقة الثالثة قرب مدينة أون [عين شمس او هليوبوليسٍ – سبق إيضاح المؤرخ لتماهي الأسماء]. (8) وأصدر هذه الأوامر: كونوا على حذر فإذا خرجت القوات الرومانيةَ لمهاجمتنا تظهرون على مؤخرتهم بينما نكون نحن على مقدمتهم، فبعد أن نحصرهم بيننا نحصدهم. (9) وأما القوات الرومانية، على غير علم (بهذه الخطة)، فإنهم خرجوا لمهاجمة المسلمين فهجموا على مؤخرتهم، كما رتبوا، وتلا ذلك اشتباك عنيف، وعندما جاء المسلمون في أعداد كبيرة ضدهم لاذت القوات الرومانية بالفرار للسفن. (10) ثم استولى جيش المسلمين على تِندنياس، لأن حاميتها كانت قد تحطمت، ونجا منها فقط ثلاثمئة جندياً. فهؤلاء هربوا، وانسحبوا إلى القلعة، وأغلقوا الأبواب، ولكن عندما رأوا هذه المذبحة العظيمة تملكهم الرعب وهربوا بسفينة إلى نيقيوس بحزن عظيم.  (11) فلما سمع دومينتيانوس الذي من مدينة الفيوم بالأحداث، فإنه خرج ليلاً من غير أن يُعلِم سكان باويط أنه يفر من المسلمين. ومضوا [أي هو وجنوده] إلى نيقيوس بالسفن. (12) وعندما علم المسلمون بهروب دومينتيانوس زحفوا بفرح واستولوا على مدينة الفيوم وعلى باويط، وهم يريقون دماً كثيراً هناك.

 

 

 

الفصل 113

سقوط مدن أتريب، ومدن منوف - السيطرة على المواصلات النيلية -

سقوط مدن المحروسة!  

 

(1) وبعد استيلاء المسلمين على الفيوم بكل أراضيها، أرسل عمرو إلى أباكيري الذي من مدينة دلاص[25] يطلب منه إرسال سفن ريف[26] لينقل إلى شرق النهر الإسماعيليين الذين كانوا في غربه.  (2) وحشد كل قواته حوله لكي يواصل الحرب بلا هوادة. وأرسل أوامره للحاكم جورج ليبني له معبراً على النهر عند قليوب، ناظراً لاحتلال كل مدن مصر [المحروسة]  وبالمثل تلك [المدن] التي لأتريب وكويرديس. وبدأ الناس في مساعدة المسلمين.[27] (3) واستولى المسلمون على مدن أتريب ومنوف وكل أراضيهما. وكان لديه [أي عمرو] معبراً فوق النهر مُقاماً قرب بابـِلون في مصر لمنع عبور السفن إلى نِقيوس والإسكندرية والصعيد. وليتيح للخيول عبور الضفة الغربية للنهر إلى الشرقية. وعلى هذا فقد بسطوا إخضاعهم على كل إقليم مصر [المحروسة].[28] (4) ولكن عمرو لم يكن قانعاً بما فعل، فاعتقل القضاة الرومان واضعاً أياديهم وأقدامهم في قيود حديدية وخشبية، وسلَبَ معظم أملاكهم، وضاعف الضرائب على الفلاحين،[29] وأجبرهم على حمل العلف لخيولهم، وارتكب أعمال عنف تفوق الحصر.[30] (5) فأما الحكام مثل هؤلاء الذين في مدينة نيقيوس فقد هربوا ولاذوا بالأسكندرية تاركين قليل من القوات مع دومينتياريوس لحراسة المدينة. وأرسلوا أوامر إلى داريس كبير الضباط في مدينة سمنود ليحرس نهرَين.[31] (6) فوقع الرعب على كل مدن مصر، وبدأ كل سكانها في الهروب، وشق طريقهم للإسكندرية، مخلفين كل ممتلكاتهم وثرواتهم وماشيتهم.[32]

 

 

 

فصل 114

دين الوحش – رصد بداية الارتداد – عودة كلوديوس عن خيانته

 

(1) وعندما أتى المسلمون ومعهم المصريون الذين ارتدُّوا عن الدين المسيحي ودخلوا في دين الوحش،[33] أخذوا أملاك المسيحيين الذين هربوا غنيمة، واعتبروا خدام المسيح أعداء الإله.[34] (2) وترك عمرو قسماً كبيراً من رجاله في قلعة بابـِلون في مصر [المحروسة]. وزحف بنفسه نحو النهرين في اتجاه الشرق[35] ضد القائد ثيودور. (3) ولكن الأخير أرسل يكباري وستفاري للاستيلاء على مدينة سمنود (و) قتال المسلمين. وعندما وصلوا إلى فريق تحصيل الرسوم، رفضوا كلهم قتال المسلمين [الأرجح: ليس جميعهم قبلوا قتال المسلمين]. وفي الواقع فإنهم [أي البعض صاحب العزيمة] شنوا معركة وقتلوا بالسيف العديد من المسلمين (وأولئك الذين كانوا) معهم.  (4) ولم يكن المسلمون قادرين على إيقاع أية إصابة بالمدن الواقعة على النهرين،[36] لأن الماء عمل كَسور، ولم تستطع الخيول دخولها لعمق الماء الذي أحاطها.[37] (5) وعلى هذا فقد تركوها وزحفوا على إقليم ريف[38] ووصلوا مدينة بوصير[39] وحصنوها وبالمثل المداخل التي استولوا عليها سابقاً. (6) وفي تلك الأيام، ذهب القائد ثيودور إلى كلوديوس،[40] وتوسل إليه قائلاً: "ارجع إلينا، ارجع إلى جانب روما." وإذ كان كلوديوس خائفاً أن يقتلوا أمه واخته (اللتين) اختبئتا في الإسكندرية، فإنه أعطى ثيودور مبلغاً كبيراً من المال. (7) وتغلب [منطق] القائد ثيودور على كلوديوس، فقام الأخير في الليل، بينما المسلمون نيام، فتقدم سيراً على قدميه مع رجاله حتى بلغ إلى القائد ثيودور. (8) ومن هناك مضى إلى مدينة نِقيوس وشكل تحالفاً مع دومنتيانوس ليحارب ضد المسلمين. (9) وعقب هذا ابتكر سابنديس خطة محكمة وهرب من ثَمَّ من أيدي المسلمين بالليل. وذهب إلى دمياط إلى الحاكم يوحنا. فأرسله حثيثاً إلى الإسكندرية برسالة ...[41] معترفاً بخطئه للحكام قائلاً بدموع كثيرة هذه الكلمات: "لقد فعلت هذه الفعلة بسبب الضربة والمهانة التي ألحقهما بي يوحنا دون أي اعتبار لشيخوختي. لهذا السبب انضممت للمسلمين. وأما قبل هذا فكنت خادماً غيوراً للرومان."

 

 

 

الفصل 115

عام من الصمود – حاجز المياه – المحاصيل والمدن المحروقة –

التحول عن الدلتا وسقوط أنصنا – خبر الاستيلاء على نِقيوس

 

(1) وأما عمرو قائد المسلمين فإنه قضى اثنا عشر شهراً[42] في محاربة المسيحيين في شمال مصر، ولكنه فشل رغم كل شئ في تخفيض عدد مدنهم. (2) وفي السنة الخامسة عشر من الدورة، أثناء الصيف،[43] فإنه زحف على مدن سخا وطوخ-دمسيس،[44] وقد نفد صبره على إخضاع المصريين قبل ارتفاع النهر. ولكنه لم يقدر على إلحاق أي ضرر بهما. (3) وفي مدينة دمياط صدوه أيضاً عن الدخول، ففكر في إحراق محاصيلهم.[45] (4) وبدأ في الزحف عائداً إلى القوات التي في قلعة بابـِلون في مصر، وأعطاهم كل الغنائم التي أخذها من مدينة الإسكندرية. (5) وحطم بيوت الإسكندريين الذين هربوا، وأخذ خشبها وحديدها، وأصدر الأوامر ببناء طريق من قلعة بابـِلون إلى مدينة النهرين. وأعطى الطلبات لبناء طريق من قلعة بابل [حصن بابلون] إلى مدينة النهرين،[46] لكي يحرق تلك المدينة بالنار. (6) وعند سماع سكان تلك المدينة عن هذا المشروع هربوا بممتلكاتهم، وتركوا مدينتهم، وأحرقها المسلمون بالنار. ولكن سكان المدينة عادوا بالليل وأطفأوا النيران. (7) وزحف المسلمون على مدن أُخرى ليحاربوها، وسلبوا المصريين أملاكهم، وتعاملوا بعنف معهم. (8) ولكنّ القائدين ثيودور ودومينتيانوس لم يكونا قادرين على إصابة سكان المدينة لانتشار المسلمين بينهم.[47] (9) وترك عمرو مصر السفلى وتحرك ليحارب ريف. وأرسل مجموعة قليلة من المسلمين ضد مدينة أنتينوي [أنصنا]. وعندما رأى المسلمون ضعف الرومان وعداوة الناس للإمبراطور هركيول بسبب الاضطهاد الذي أوقعه على كل أرض مصر من أجل الإيمان الأرثوذكسي بتحريض من كيروس الخلكيدوني [الصيغة اليونانية لـ"قورش" ويُنطَق في اللاتينية سيروس، وهو نفسه المقوقس عظيم القبط عند العرب حسب الرأي المشهور لبتلر] صاروا أجرأ وأقوى في الحرب.[48] (10) وطلب سكان مدينة أنتينوي [أنصنا] تنسيق الإجراءات مع يوحنا حاكمهم، هادفين لمهاجمة المسلمين، ولكنه رفض وقام مسرعاً مع قواته[49]، وإذ جمع كل عوائد المدينة فإنه ذهب إلى الإسكندرية لأنه علم أنه لا يستطيع مقاومة المسلمين، وخاف أن يلاقي نفس مصير حامية الفيوم. وبالفعل خضع كل سكان الإقليم للمسلمين ودفعوا لهم الجزية. وقتلوا [أي المسلمين] كل الجنود الرومان الذين وجدوهم بالسيف. وكان جنود الرومان في قلعة فحاصرهم المسلمون واستولوا على قاذفاتهم وهدموا أبراجهم وأزاحوهم من القلعة. وقووا حصن بابـِلون واستولوا على مدينة نِقيوس وحصنوا أنفسهم فيها[50].

 

 

 

فصل 116

شواهد على تفكك حكم هركيول – موت هركيول وتولي كُنستانتِن ابنه –

حكم النِقيوسي بأن انتصار المسلمين عقوبة مستحقة على الرومان المضطهـِـدين

 

(1) وحزن هركيول على موت يوحنا رئيس الجباية المحلية، ويوحنا القائد الذي ذُبِح على يد المسلمين، وعلى هزيمة الرومان في الإقليم المصري. (2) وحسب قضاء الإله الذي يقبض نفوس الحكام، ورجال الحرب ومثلهم الملوك، سقط هركيول مريضاً بالحمى، ومات في العام الحادي والثلاثين من حكمه في شهر ياقاطيط حسب المصريين[51]، الذي هو فبراير من الشهور الرومانية، في السنة الرابعة عشرة من الدورة القمرية، في السنة 357 من ديوكليتيان [دقلديانوس][52]. (3) وقال البعض: "إن موت هركيول كان بسبب صكه على العملة الذهبية بصور ثلاثة أباطرة- التي هي صورته هو وصورتا ابنيه على اليمين وعلى اليسار[53]- فلم تبق مساحة لطبع اسم الإمبراطورية الرومانية."[54] وبعد موت هركيول فقد محِيَت تلك الصور الثلاث. (4) وعندما مات هركيول الأكبر، فإن بـِرّوس، باتريارك الكُنستانتِنية، مرّ على مارتينا[55] (الابنة التي) لأخته (أي أخت هركيول) وأبنائها،[56] ورشَّح كنستانتِن  ابن الإمبراطورة يودوسيا [إفدوكيا بحسب النطق المعروف في الكتابات القبطية المعاصرة]، وجعله رأساً للإمبراطورية خلفاً لوالده. والأميران[57] عوملا بالشرف والتميز. (5) فقبض ديفيد ومارينوس[58] على بِرُّوس ، الباتريارك الروماني الخلكيدوني، وأبعداه إلى جزيرة في غرب أفريقيا، دون دراية من أحد بما تم؛ لأن كلمة واحدة من كلمات القديسين لا تسقط (للأرض). (6) ذلك أنه قد حدث أن ساويرس العظيم، باتريارك إنطاكية، كتب إلى سيزاريا النبيلة بهذه الفحوى: "لا ابن لإمبراطور روماني سيجلس على عرش والده، طالما قامت شيعة الخلكيدونيين في العالم."[59]  (7) فجمع كُنستانتِن، ابن هركيول، عند تنصيبه على الإمبراطورية، جمع عدداً كبيراً من السفن، وائتمن عليها كيريوس وسالاكريوس، وأرسلهما ليحضرا الباتريارك كيروس إليه ليشاوره حول المسلمين، حتى يقاتل، إن كان قادراً، وإن لم يكن، ليدفع الجزية؛ وأن عليه أن يقابله في المدينة الإمبراطورية في احتفال القيامة المقدسة، ويجعل كل سكان الكُنستانتِنية يتجمعون لتنفيذ نفس الهدف. (8) وبعدها أرسل أوامر إلى ثيودور ليأتي إليه ويترك أناستاسيوس لحراسة مدينة الإسكندرية ومدن الساحل[60]. وأعرب عن آمال لثيودور أن يرسل له قوة كبيرة في الخريف لكي يحارب المسلمين. (9) وبينما كانوا طبقاً لأمر الإمبراطور يعدّون السفن للإقلاع، سقط الإمبراطور مريضاُ للحال، إذ هاجمه داء قاسٍ، فكان يتقيّأ دماً، وعندما استُنفِد دمه مات فوراً. وقد دام هذا المرض مائة يوم، التي هي كل أيام حكمه[61] إذ حكم بعد أبيه هركيول. وسخر الناس من هركيول وابنه كُنستانتِن. (10) وتجمع أعضاء جماعة جايناس[62] في الكنيسة في مدينة دافاشير[63] قرب معبر الرسول القديس بطرس. وكان كيروس الباتريارك قد سلب الكنيسة ممتلكات طائلة، بدون أي تخويل من جانب القضاة.[64] (11) وعندما طلب الجايناسيون أن يلقوا الأيادي على الباتريارك كيروس، فإن يودوسيانوس، شقيق الحاكم دومنتيانوس، إذ أُعلِم حالاً (عن غرضهم)، أرسل قوات ضدهم لترميهم بالسهام وتمنعهم من تنفيذ غرضهم. فأُصيب بعضهم بضراوة حتى أنهم ماتوا، بينما قُطِعَت أيدي إثنين منهم بدون حكم قضائي. (12) وأُذيع نداء عبر المدينة بصوت منادٍ بهذه البنود: "لينسحب كل واحد منكم إلى كنيسته، ولا يُلحِق أي واحد عنفاً بجاره متحدياً القانون." (13) ولكن الإله، حامي العدل، لم يهمل العالم، وإنما جازى أولئك الذين أثموا : لم يرحم أولئك الذين تعاملوا بخيانة ضده، وإنما أسلمهم لأيدي الإسماعيليين.[65] (14) ومن ثمَّ أخذ المسلمون الساحة وغزوا كل أرض مصر. فبعد موت هركيول، فإن الباتريارك كيروس في طريق عودته لم يُوقِف بشاعاته واضطهاده لأناس الإله، ولكن أضاف عنفاً لعنف.[66]

 

 

 

فصل 117

سقوط حصن بابِلون – تعليل ذلك ببشاعات ارتكبها الرومان ضد "الأرثوذكس"

 

(1) وعسكر عمرو قائد قوات المسلمين مقابل حصن بابـِلون وحاصر القوات التي كانت تحميه. (2) والآن تلقت الأخيرة تعهده بألا يُقتَلوا بالسيف، ومن جانبهم تعهدوا بتسليمه كل ذخيرة الحرب – والتي كانت ذات بال. (3) وعلى هذا أمرهم أن يخلوا الحصن. فأخذوا كمية قليلة من الذهب ورحلوا. وكان هذا هو اليوم الذي أُخِذّ فيه حصن بابـِلون مصر في اليوم الثاني بعد (احتفال) القيامة.[67] (4) هكذا عاقبهم الإله لأنهم لم يكرموا البصخة الفادية لربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي أعطى حياته لهؤلاء الذين يؤمنون به. نعم، كان لهذا السبب أن الإله جعلهم يولون ظهورهم لهم (أي للمسلمين). (5) وكان في ذاك اليوم لعيد القيامة المقدسة أنهم أطلقوا الأرثوذكس الذين كانوا في السجن؛ ولكن، كأعداء المسيح كما كانوا، فإنهم لم يدعوهم يذهبون بغير إساءة معاملتهم أولاً؛ فإنما جلدوهم وقطعوا أيديهم. (6) ففي ذلك اليوم بكى هؤلاء (التعساء) وهطلت دموعهم من وجوههم وازدُرِيَ بهم، حتى كما هو مكتوب[68] عن أولئك الأشخاص غير الطاهرين: "لقد نجسوا الكنيسة بالإيمان غير الطاهر، واقترفوا رذالات وأعمال عنف كشيعة الآريوسيين، كما لم يصنع وثني أو بربري، كما احتقروا المسيح وخدامه، ولم نجد ما فعل بالمثل بين عُبّاد الأصنام الكاذبة. (7) ولكن الإله قد تمهل مع المرتدين والهراطقة الذين اعتمدوا مرة ثانية خضوعاً لأباطرة مستبدين. إلا أنه نفس الإله الذي يجازي كل واحد كحسب أعماله ويصنع عدلاً مع هذا الذي قد أثِم. (8) كيف إذاً، لا يكون أفضل لنا أن نحتمل بصبر التجارب والعقوبات التي يبتلوننا بها؟[69] إنهم فعلاً يظنون أنهم يكرمون ربنا المسيح بفعلهم كذلك، بينما هم قد وُجِدوا ضالين في إيمانهم. إنهم بالفعل لم يرتدوا طوعاً، ولكنهم يضطهدون أولئك الذين لا يتفقون معهم في الإيمان. حاشا من الإله (هذا الاتفاق) ! لأنهم ليسوا خدام المسيح: ومع ذلك فهم يظنون أنهم كذلك في فكرهم."

 

 

 

فصل 118

ظهور المنشقين الخضر والزرق – عودة لنِقيوس بتفصيل خبر مذابحها –

ومذابح في المدن المحيطة

 

(1) وصار سقوط حصن بابـِلون ونيقيوس تحت المسلمين مصدراً لحزن عظيم للرومان. (2) وعندما فرغ عمرو من عمليات الحرب جعل دخوله لحصن بابـِلون، وجمع عدداً كبيراً من السفن، كبيرة وصغيرة، وأرساهم قريباً من المعسكر حيث كان هو.[70] (3) وأما ميناس، الذي كان رئيس الكتيبة الخضراء، وكوزماس ابن صمويل، قائد الزرق، فقد أحاطا بمدينة مصر [المحروسة] وتحرشا بالرومان أثناء أيام المسلمين.[71] وصعد الرجال المقاتلون بالجرأة النابعة من الخوف من الضفة الغربية للنهر في سفن، وقام هؤلاء بحملات في الليل. (4) وتقدم عمرو وجيش المسلمين، على ظهور الخيل أرضاً، حتى أتوا مدينة كبرياس أبادجا. وهاجموا عندها القائد دومنتيانوس. (5) ولكن عندما علم الأخير بتوجه قوات المسلمين، أقلع على سفينة وهرب تاركاً الجيش وأسطوله. وطلب أن يدخل قناة صغيرة كان هركيول قد حفرها أثناء حكمه. ولكن إذ وجدها مغلقة عاد ودخل مدينة الإسكندرية. (6) والآن عندما رأى الجنود قائدهم قد رحل، ألقوا بأسلحتهم وقفزوا في النهر أمام أعدائهم. (7) فذبحتهم قوات المسلمين بالسيف في النهر، ولم يهرب أحد خلا رجل مسن، اسمه زكريا، رجل شجاع ومحارب. (8) وعندما رأت أطقم السفن هروب القوات [أي قبل ذبحها]، اخذوا هم أيضاً في الهروب والعودة لموطنهم الأصلي.[72] وعلى إثر ذلك دخل المسلمون إلى نِقيوس، وتملكوا [المدينة]، وإذ لم يجدوا جنوداً (ليقاوموهم)، أوغلوا في إعمال السيف في كل من وجدوهم في الشوارع والكنائس، رجالاً، ونساءً، ورضعان، ولم يرحموا ولا واحد. (9) وبعد أن استولوا على (هذه) المدينة، زحفوا على [سكان] بقية النواحي وطردوهم وقتلوا كل من وجودهم بالسيف.  كل من وجودهم. ثم أتوا أيضاً لمدينة صا،[73] وهناك وجدوا سكتاوس وقومه في كرم، فأمسكهم المسلمون وقتلوهم بالسيف. وكان هؤلاء من أسرة القائد ثيودور. (10) ولنمسك الآن، لأنه من المستحيل أن نسجل المظالم التي اقتُرِفَت بيد المسلمين بعد استيلائهم على جزيرة نِقيوس،[74] في الأحد، اليوم الثامن عشر من شهر جنبوت [بشنس]، في السنة الخامسة عشرة من الدورة [القمرية]،[75] وأيضاً الفظائع التي ارتُكِبَت في مدينة كيساريا [قيصرية] في فلسطين.[76] (11) وأما القائد ثيودور، الذي كان على قيادة المدينة، مدينة كيليوناس، ترك (هذه) المدينة وتقدم صوب مصر،[77] تاركاً ستيفن مع القوات لحراسة المدينة وللمجابهة مع المسلمين. (12) وكان هناك يهودي معين مع المسلمين، هذا ذهب إلى إقليم مصر.[78] وبعد أن حطموا أسوار المدينة بتعب بالغ وجهد، فإنهم على إثر ذلك تسيدوها، وقتلوا بالسيف آلاف السكان والجنود، وحصّلوا غنيمة هائلة، واخذوا النساء والأطفال أسرى واقتسموهم بين أنفسهم، وجعلوا المدينة خراباً (حرفياً: مُعدَمة). (13) وقريباً، بعد أن زحف المسلمون على قطر (مدينة ؟) قبرص[79] وقتلوا ستيفن وقومه بالسيف.

 

 

 

فصل 119

حال المصريين بين الثابتين والمرتدين

 

(1) وصارت مصر أيضاً مستعبدة للشيطان [80]واندلع نزاع عظيم بين سكان مصر السفلى، وانقسم هؤلاء لفريقين: الواحد في جانب ثيودور، بينما الآخر رغب في الانضمام للمسلمين. (2) وفوراً قام فريق واحد على الآخر، فنهبوا ممتلكاتهم وحرقوا مدينتهم. على أن المسلمين لم يثقوا بهم.[81] (3) وأرسل عمرو قوات كبيرة من المسلمين ضد الإسكندرية، واستولوا على كريون،[82] التي تقع خارج المدينة. وأما ثيودور وقواته الذين كانوا في تلك الناحية فقد هربوا وانسحبوا إلى الإسكندرية. (4) وبدأ المسلمون في مهاجمتهم ولكنهم عجزوا عن الاقتراب من أسوار المدينة، لأن الحجارة كانت تنهال عليهم من على قمة الأسوار، فأُزيحوا بعيداً عن المدينة. (5) وأما سكان مصر [المحروسة] فكانوا على خلاف مع سكان مصر السفلى،[83] وارتفعت حدة نزاعهما، ولكنهما بعد وقت قصير ركنوا للسلام. (6) ولكن عندما انتهى نزاعهما أثار الشيطان [نزاعاً] آخر في مدينة الإسكندرية؛ لأن دومنتـنيانوس الحاكم وميناس القائد كانا على خلاف مع بعضهما البعض بسبب شهوة المنصب ولدوافع أُخرى. (7) وأما القائد ثيودور فقد أخذ جانب ميناس: ذلك لأنه كان كارهاً لدومنتنيانوس لهروبه من نِقيوس وتخليه عن القوات. (8) كما كان ميناس حانقاً جداً على يودوسيانوس [إفدوكسيانوس بالهجاء الشائع في الكتابات القبطية] الأخ الأكبر لدومنتـنيانوس، بسبب القسوة التي مارسها ضد المسيحيين أثناء فترة البصخة المقدسة بسبب الإيمان.[84] (9) فحشد دومنتيانوس قوة كبيرة من "الزرق". وعندما علم ميناس بهذه الخطوة، حشد هو الآخر قوة كبيرة من "الخضر" ومن قوات المدينة. فظل هذان الاثنان على كراهيتهما. (10) وعلى إثر ذلك وصل فيليادس حاكم إقليم أركاديا. وكان دومنتنيانوس قد صار خصماً لكيروس الباتريارك، وأظهر له نية سيئة، رغم كونه صهره، ورغم كونهما صديقين سابقين. ولكنه بعدها تحول لكراهيته دون سبب جيد. (11) وميناس، الذي كان يعتز بصداقته الروحية لفيليادس، لم يقصِّر معه، بل دعاه  مراراً من احترامه للكهنوت؛ لأن فيليادس كان شقيقاً للباتريارك جورج. والآن (فإن ميناس) كان رحيماً وخائفاً للإله ويحمل أحزان المعذبين. بينما كان فيليادس غير وفيّ للصداقة، بل يتصرف بغير حق، (و)كان شغوفاً بالتآمر الشرير سراً. (12) صار في أيام القائد ثيودور، عندما أُثيرَت مناقشة عن مدينة اسمها مامونا،[85] عن رواتب القوات والأراضي التي ينبغي فرض الضرائب عليها، فإن هذا الرجل الشرير [فيليادس] تحدث فوراً وقال: "الأفضل وضع رجل واحد مكان اثني عشر؛ فيكون هناك رجلاً واحداً يتلقى راتبه بدلاً من اثني عشر، فتـنخفض الضرائب ورواتب الجند." فوجد ميناس في هذه الواقعة فرصة ضد دومنتنيانوس. (13) فأحب كل الجنود [ميناس] ووثقوا به : لأن ميناس احترم أقدار كل الرجال-ليس لكي يقبل مديحاُ باطلاً، ولكن بسبب حكمته  واتضاعه. (14) والآن إذ كان حاضراً في كنيسة كيساريا [قيصرية] الكبرى مع كل الناس، فإن كل سكان المدينة اجتمعوا معاً ضد فيليادس وطلبوا موته. أما هو فهرب وأخفى نفسه في الكنيسة. (15) فتقدم الجمهور فوراً إلى منزله وأحرقوه، ونهبوا كل ممتلكاته، ولكنهم أبقوا على الأشخاص الذين وجدوهم في البيت، ولم يذبحوهم. (16) وعندما أُعلِم دومنتنيانوس (بهذه الاحداث) أرسل فرقة من "الزرق" ليهاجموهم. فنشب من ذلك اشتباك هائل بينهم، فقُتِل ستة رجال وجُرِح كثيرون. (17) وأرسى ثيودور السلام بينهم بجهد كبير وكفاح. وعزل القائد دومنتـنيانوس، وعيّن أرتانا أميراً على عشرة تنظيمات [كتائب؟] ولقبه ديكوريون.[86] وأعيدَت كل الممتلكات التي حُمِلَت كسلائب من بيت فيليادس إليه. وقيل أن هذا النزاع والشغب نشأ بسبب انشقاق ديني. (18) وبعد موت كُنستانتِن، ابن هركيول، أحضروا هركيول،[87] أخاه من أبيه، رغم أنه كان رضيعاً بعد.[88] ولكن ارتقاءه للإمبراطورية كان باطلاً كما كان [ارتقاء] أخيه الذي مات. (19) ولما رأى الباتريارك بِرٌّوس هركيولاً، الذي كان طفلاً، قد صار إمبراطوراً، بمكائد مارتينا أمه، بينما كان بِرٌّوس لا يزال في منفاه ....[89] (20) وبعد أن ارتقى [عرش] الإمبراطورية استدعى بِرٌّوس من منفاه بنصيحة مجلس الشيوخ، وألغى قرار العقوبة الصادر من أخيه كُنستانتِن وخلفائه في الإمبراطورية؛[90] لأنهم ألغوه بسبب الاتهام غير العادل ضد فيلغاريوس الخازن. (21) وكان تحت اسمه أن الكنائس صارت في محنة: لأنه أوقف الهدايا التي اعتاد الأباطرة منحها، وعزز الغرامات الثقيلة (التي فُرِضَت عليها).  (22) وعلى إثر ذلك فقد عيّنه (أي كيروس) مرة ثانية على مدينة الإسكندرية مع الكهنة الذين كانوا معه. وأعطاه تخويلاً وسلطاناً ليعقد سلاماً مع المسلمين ويتولى أمر أي مقاومة جديدة ضدهم،[91] وليؤسس نظم إدارة يناسب الحكومة في أرض مصر. وكان يصحبه كُنستانتِن، أحد قادة الجيش، الذي كان رئيس الجباية المحلية. (23) وأحضر الجيش الذي من إقليم ثراس إلى مدينة الكُنستانتِنية، وأبعد فيلغاريوس المحصل إلى إقليم أفريقيا حيث كان بِرٌّوس قد أُبعِد قبلاً. (24) وكانت هناك نزاعات كبيرة، وقام سكان المدينة ضد مارتينا وأبنائها بسبب إبعاد فيلغاريوس الخازن؛ لأنه كان ذا شعبية كبيرة.

 

 

 

فصل 120

نزوع أكثر قادة الرومان للسلام مع المسلمين -  

مخالفة طقسية ونبوة بموت الباتريارك الخلكيدوني كيروس على أثرها –  

خبر موته في نفس العام – تولية ميناس وشنودة على الدلتا والصعيد –  

مزيد من إذلال المصريين

 

(1) ولم يعد كيروس الباتريارك الخلكيدوني هو الوحيد الذي يرغب في السلام مع المسلمين، بل أيضاً كل الناس والأرستقراطيون ودومنتنيانوس، الذين تمتعوا بإحسان الإمبراطورة مارتينا – (وعلى ذلك) تجمع كل هؤلاء وتشاوروا مع كيروس الباتريارك بغرض عقد سلام مع المسلمين. (2) وعمد كل الإكليروس لإثارة الكراهية ضد حكم هركيول الصغير، قائلين: "لا يليق أن يجلس نطفة الفسق على العرش الإمبراطوري: الأولى بالولاية هم أبناء كُنستانتِن، الذين هم أبناء إفدوكسيا." ورفضوا وصية هركيول الأكبر.[92] (3) وعندما أُعلِم فالنتينوس أن كل الرجال اجتمعوا ضد مارتينا وأولادها، أحد مبالغ كبيرة من المال من خزانة فيلاغريوس، ووزعها بين الجنود والضباط، فألزمهم بالعمل ضد مارتينا وأولادها. (4) فأقلع بعضهم عن محاربة المسلمين، وحولوا حنقهم ضد رجال وطنهم. (5) وأرسلوا من ثَمَّ سراً مبعوثاً ألى جزيرة رودس بهذه الرسالة للقوات التي مع الباتريارك كيروس: "عد إلى مدينة الإمبراطور ولا تتحالف معه." (6) وأرسلوا أيضاً إلى ثيودور، والي الإسكندرية، الرسالة التالية: "لا تسمع لصوت مارتينا، ولا تطع أولادها." وأرسلوا بالمثل إلى أفريقيا، وإلى كل إقليم تحت حكم روما. (7) فعندما سمع ثيودور بهذه الأنباء، فرح واحتفظ بالأمر سراً، وأقلع ليلاً دون دراية من أي واحد، بنية الانتقال من رودس إلى بنتابوليس [الخمس المدن الغربية]، وأخبر فقط قبطان السفينة. (8) ولكن قبطان السفينة ادعى [أنه لا يقدر]، قائلاً: "إن الريح تعاكسنا." ودخل الإسكندرية في ليلة السابع عشر من مَسْكَرَم [توت]،[93] في يوم عيد الصليب المقدس.[94] (9) فتجمع كل سكان الإسكندرية معاً، رجالاً ونساء، ليستقبلوا الباتريارك كيروس، مبتهجين وشاكرين لوصول الباتريارك إلى الإسكندرية. (10) فذهب ثيودور سراً مع الباتريارك إلى كنيسة رهبان تابنّا[95]  وأغلقا الباب. وأرسل إلى ميناس وعيّنه قائداً، وأبعد دومنتنيانوس من المدينة. وصرخ كل السكان: "(اذهب) خارج المدينة." (11)وكان قبل وصول كيروس الباتريارك، أن جورج كان محل تقدير من الحاكم أناستاسيوس؛ لأنه كان قد نال تكريماً من هركيول الصغير (؟)،[96] وعندما تقدم في السنوات، تمتع بسلطة عامة: حتى أن الباتريارك طلب إليه أن يتمتع بسلطته. (12) وعندما وصل الباتريارك كيروس إلى الكنيسة الكيسارية [القيصرية،[97] فرشوا كل الطريق (بالسجاد) وهتفوا بالتراتيل على شرفه (وتزايدت الجموع) حتى داس الناس بعضهم بعضاً. وأحضروه بعد مجهود هائل إلى الكنيسة. (13) فمدح جداً [الأرجح أن هذا في كلمات عظة الاحتفال] البِئر التي وُجِد فيها الصليب المقدس [الأرجح صليب المسيح الذي يٌحتَفَل بظهوره في عيد الصليب][98]. وأخذ أيضاً إلى [الكنيسة] الكيسارية الصليب المهيب من دير رهبان تابِنّا[99] والذي كان قد تلقاه، قبل نفيه، من القائد يوحنا. (14) وعندما بدأوا الاحتفال بالقداس الإلهي للقيامة المقدسة،[100] فبدلاً من أن يرتلوا المزمور المناسب ليوم [عيد] القيامة، أي: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب؛ فلنفرح ولنبتهج فيه"،فإن الشماس، راغباً في مديح الباتريارك وتهنئته بالعودة، أنشد مزموراً آخر غير ملائم (لليوم).[101] (15) وعندما سمعه الناس، صاحوا: "ليس هذا هو المزمور الصحيح : إنه نذير شر للباتريارك كيروس: لن يرى احتفالاً آخر للقيامة في مدينة الإسكندرية." (16) وتنبأ كل المحتفلين والرهبان على هذا النحو علناً: "لقد سلك مخالفاً لما تعيِّنه القوانين." ولكنّ أحداً ممن سمع هذه الأقوال لم يؤمن بها. (17) [الفقرات الإحدى عشر من 17 إلى 27 أهملتُها توفيراً للمجهود الذي أبذله في ظرو ف يعلمها المسيح – وكلها تدور في كونستانتينوبوليس (القسطنطينية) بعيداً عن مصر وترصد صراعات القصر البيزنطي] (28) وخوفاً من المسلمين، نزح المصريون ولجأوا إلى مدينة الإسكندرية، وقدموا هذا المطلب إلى الباتريارك: "دع المسلمين يعدوننا بأن نعود إلى مدننا (على أن) نصير خاضعين لهم. فتفاوض [الباتريارك كيروس] من أجلهم حسب طلبهم. وبسط المسلمون ملكهم على أرض مصر، جنوباً وشمالاً، وجعلوا الضرائب ثلاثة أمثال. (29) والآن كان هناك رجل اسمه ميناس،[102] وكان قد تعين والياً على مصر السفلى من الإمبراطور هركيول : وكان رجلاً وقحاً وجاهلاً وغارقاً في كراهية المصريين. فبعد أن امتلك المسلمون كل البلد، استبقوه في منصبه (السابق): وعينوا رجلاً اسمه شنودة والياً على إقليم ريف: وآخر اسمه فيلوكسينوس على إقليم أركاديا، الذي هو الفيوم..[103] (30) وأحب هؤلاء الرجال الثلاثة الوثنيين[104] وأبغضوا المسيحيين، وأجبروا المسيحيين على حمل العلف للماشية، وأجبروهم على + حمْل[105] +--- اللبن، والعسل، والفاكهة والفضلات، وأشياء كثيرة بإفراط: وكل ذلك بالإضافة للحصص المعتادة [أي حصصهم من أعمال السخرة]. (31) فرضخ (المصريون) لهذه الأوامر مكبلين بالخوف المستمر. وأجبرهم (المسلمون) على حفر قناة تراجان (مرة أُخرى)، والتي كانت قد خربت لوقت طويل، لكي يوصلوا المياه عبرها من بابـِلون في مصر إلى البحر الأحمر. (32) فكان النير الذي وضعوه على المصريين أثقل من النير الذي وُضِع على إسرائيل من فرعون، الذي دانه الإله دينونة عادلة، إذ أغرقه في البحر الأحمر مع كل جيشه بعد الضربات الكثيرة التي ابتلى بها البشر والماشية. (33) وعندما تبرق دينونة الإله على هؤلاء الإسماعيليين فليصنع بهم كما صنع قبلاً بفرعون ! ولكنه بسبب خطايانا أنه [أي الرب] سمح لهم أن يصنعوا ذلك بنا. ورغم ذلك ففي عنايته الدائمة فإن إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح سوف ينظر لنا ويحفظنا: ونحن أيضاً نؤمن أنه سيهلك أعداء الصليب،[106] كما يقول الكتاب الذي لا يكذب. (34) وأخضع عمرو أرض مصر وأرسل رجاله ليحاربوا سكان بنتابوليس. وبعد أن أخضعهم، لم يسمح لهم بالسكنى هناك [أجلاهم]. وأخذ من هناك سلائب وأسرى بوفرة. (35) وأما أبوليانوس حاكم بنتابوليس وقواته وأغنياء الإقليم فقد انسحبوا إلى مدينة دُشيرة-وكانت أسوارها قوية التحصين-وأغلقا بواباتها. لذلك فقد عاد المسلمون بعد تحصيل السلائب والأسرى إلى بلدهم.[107] (36) وأصاب الأسى الباتريارك كيروس بشدة بسبب الكوارث التي حلت بأرض مصر. لأن عمرو لم يرحم المصريين، ولم يحفظ العهد الذي قطعوه معه لأنه كان من جنس بربري.[108] (37) وفي عيد أحد الشعانين سقط الباتريارك كيروس مريضاً بالحمى التي لحقته من الحزن المفرط، ومات في اليوم الخامس من الأسبوع المقدس [البصخة – واليوم الخامس منها يكون يوم خميس العهد]، في اليوم الخامس والعشرين من شهر مَجَّابيت [برمهات].[109] (38) فلم يعش ليرى عيد القيامة المقدسة لربنا يسوع المسيح كما تنبأ المسيحيون عنه.[110] وقد وقع هذا في حكم الإمبراطور كُنستانتِن ابن هركيول (الثاني). [الفقرات الثلاثون التالية ينتقل فيها النِقيوسي ليستطرد في تفصيل صراعات الأمراء وأسرة القصر على العرش، وليس بها ما يخص حال العرب في مصر – غير مُتَرجَمة توفيراً للجهد الزائد بالنظر لظروف الكتابة] (69) ولم يتمكن القائد فالنتين وقواته من تقديم أية مساعدة للمصريين؛ وأما الأخيرون، ولاسيما الإسكندريون، فقد كانوا ينوؤن بضغط المسلمين. ولم يتمكنوا من تحمل الجزية التي كانت تُنتَزَع منهم. وأخفى أغنياء المدينة (القطر؟) أنفسهم عشرة أشهر في الجزر. (70) وعلى إثر ذلك فإن ثيودور الحاكم وكُنستانتِن القائد العام للجيش، وبقية القوات، وبالمثل أولئك الذين كانوا أسرى في أيدي المسلمين، أقلعوا وقاموا، حتى أتوا الإسكندرية. (71) وبعد عيد الصليب عينوا بطرس الشماس ليكون باترياركاً في العشرين من هاملي،[111] في عيد القديس تادرس الشهيد، واجلسوه على كرسي الباترياركية. (72) وفي العشرين من مَسكَرَم [توت][112] أقلع ثيودور وقواته وضباطه إلى جزيرة قبرص[113] وتخلى عن مدينة الإسكندرية. فجعل عمرو أمير المسلمين دخوله على إثر ذلك بلا مجهود إلى مدينة الإسكندرية. فاستقبله السكان باحترام؛ إذ كانوا في محنة عظيمة ومذلة.[114]

 

 

 

فصل 121

عودة البابا بنيامين – فظائع الضرائب الباهظة –

تعاون القادة مع العرب الذين استتب الأمر لهم –

التقييم الروحي للنِقيوسي عن الموقف كله

 

(1) وعاد آبا بنيامين، باتريارك المصريين، إلى مدينة الإسكندرية في السنة الثالثة عشرة[115] بعد هروبه من الرومان، وذهب إلى الكنائس واطمأن عليها كلها. (2) وقال كل واحد: "إن طرد (الرومان) هذا وانتصار المسلمين يرجع إلى شر الإمبراطور هركيول واضطهاده للأرثوذكس عبر الباتريارك كيروس. وكان هذا هو السبب في خراب الرومان وخضوع مصر للمسلمين. (3) وزاد عمرو قوة كل يوم في كل مناحي أنشطته. وانتزع الضرائب التي فُرِضَت، ولكنه لم يأخذ شيئاً من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكب أي عمل من [أعمال] السلب والنهب، وحفظ ذلك عبر كل أيامه.[116] (4) وعندما استولى على مدينة الإسكندرية، جفف القناة حسب تعليمات المرتد ثيودور.[117] وزاد الضرائب إلى مبلغ 22 باطر[118] من الذهب حتى خبَّأ الناس أنفسهم بسبب فداحة المحنة، ولم يتمكنوا من إيجاد أسباب [مصادر] الدفع. وفي السنة الثانية للدورة القمرية أتى يوحنا الذي من مدينة دمياط. (5) وتم تعيينه من الحاكم ثيودور وقدم مساعدته إلى المسلمين من أجل أن يمنع تدميرهم للمدينة. والآن فقد تم تعيينه والياً على المدينة عندما دخلها عمرو، وكان يوحنا هذا عطوفاً على الفقراء، وأعطاهم بسخاء من ممتلكاته. وإذ رأى مذلتهم فقد اظهر الرحمة لهم، وبكى على قدرهم. (6) وعزل عمرو ميناس وعين يوحنا مكانه. وكان ميناس قد زاد الضرائب على المدينة، التي كان عمرو قد حددها بـ 22 ألف دينار ذهبٍ، أما المبلغ الذي حصله المرتد ميناس فكان 23.057 دينار ذهبٍ – وعيّن للمسلمين.[119]  (7) ولا يمكن لأحد الإحاطة بالأحزان والنحيب الذي جرى في تلك المدينة. لقد باعوا حتى أطفالهم في مقابل المبالغ الكبيرة التي وجب عليهم دفعها شهرياً. ولم يكن ثمة من يعينهم، وحطم الإله آمالهم، وأسلم المسيحيين إلى أيدي أعدائهم. (8) ولكن الجود الفائق للإله سيخزي هؤلاء الذين يحزنونا، وسيعطي حبه للبشر لنتغلب على خطايانا،[120] وسيبطل الغايات الشريرة لهؤلاء الذين يذلوننا، الذين لا يريدون أن يملك عليهم ملك الملوك ورب الأرباب، الذي هو يسوع المسيح إلهنا الحقيقي. (9) وأما العبيد الأشرار فإنه سيهلكهم هلاكاً ردياً: كما يقول الإنجيل المقدس: "وأما أعدائي الذين رفضوا أن أملك عليهم فاحضروهم قدامي."[121]  (10) والآن فإن كثير من المصريين من المسيحيين الزائفين فقد أنكروا الإيمان الأرثوذكسي المقدس والمعمودية المعطية الحياة، ودخلوا دين المسلمين، أعداء الإله، وقبلوا التعليم المقيت الذي للوحش، الذي هو محمد،[122] ومالوا جميعاً مع أولئك الوثنيين، وأخذوا أسلحة في أيديهم وقاتلوا ضد المسيحيين. (11) وواحد منهم، اسمه يوحنا، الخلكيدوني الذي من دير سيناء، اعتنق إيمان الإسلام، ورذل قانونه الرهباني، ورفع السيف، واضطهد المسيحيين الأوفياء لربنا يسوع المسيح.   

 

 

 

فصل 122

ختام النقيوسي لحولياته[123]

 

(1) والآن لنمجد ربنا يسوع المسيح ونبارك اسمه القدوس في كل الأوقات؛ لأنه حفظنا مسيحيين لهذه الساعة من خطأ الوثنيين، ومن تعديات الهراطقة المرتدين. (2) فليُقَوِّنا أيضاً ويعنا لاحتمال الضيق بالرجاء في لاهوته. ويجعلنا مستحقين لننال ، بوجه غير مخزي، ميراث ملكوته الأبدي (و) غير الفاسد في السماء. و (لنبارك) أباه، (الكليّ) الصلاح، والروح القدس معطي الحياة للأبد وأبد الأبد، آمين.

 

 

 

فصل 123

ختام مترجم المخطوطة الجعيزية

 

(1) (إلى هنا) ينتهي هذا الكتاب المبارك الذي ألّفه يوحنا أسقف نيقيوس الناظر [كان مسئولاً عن الإشراف على الأديرة وعلى أساقفة الصعيد] لمنفعة النفس. وهو يحوي أسراراً إلهية وعجائب سماوية وقعت بالمرتدين عن الإيمان. (2) في مرة تزلزلت الأرض بسبب الإنكار (للإيمان)، ودُمِّرَت مدينة نيقية العظيمة. وفي مرة أُخرى أمطرت ناراً من السماء : وفي أُخرى أُظلِمَت الشمس من ساعة الفجر للمساء. (3) وفي مناسبة معينة فاضت الأنهار وغطت مدن عدة ؛ بينما في أُخرى أُطيح بالبيوت وكثير من الرجال هلكوا وهبطوا لأعماق الأرض. (4) وكل ذلك قد وقع لأنهم قسّموا المسيح لطبيعتين، بينما جعله بعضهم (مجرد) كائن مخلوق.[124] (5) وأيضاً فقد الأباطرة الرومان التاج الإمبراطوري، وفاز الإسماعيليون والغزّ[125]  بالسيادة عليهم، لأنهم لم يسيروا في الإيمان الأرثوذكسي الذي لربنا يسوع المسيح، ولكن قسموا غير المنقسم. (6) بدأ نقل هذا الكتاب في اليوم الثاني والعشرين من هاملي [أبيب]، وتم يوم الإثنين الموافق لليوم الثاني والعشرين لطمكت [بابة][126] في الساعة السادسة من اليوم، عندما كانت الشمس في علامة العقرب، والقمر في علامة الدلو. (7) وكان مدار الشمس وقتئذٍ في درجته الـ195، وكانت ذروته في الدرجة السابعة والعشرين وثلاثين دقيقة. وكان النهار إحدى عشرة ساعة، والليل ثلاث عشرة. وكان النهار يزيد والليل يقل يومياً بعشرين دقيقة. (8) في عهد حكم الجفر الذي من منازل، في السنة 7594 للعالم،[127] سنة 1947 للإسكندر،[128] سنة 1594 لتجسد ربنا يسوع المسيح، سنة 1318 للشهداء،[129] سنة 980 لهاجر طبقاً للحساب الشمسي،[130] ولكنها سنة 1010 طبقاً للحساب القمري[131]: أربع سنوات وسبعة اشهر وثمانية أيام لتولي مَلَك سَجَد الأصغر . ابن مَلَك سَجَد الأكبر، الذي [أي الأصغر] تسمى يعقوب عند نواله نعمة المعمودية: ثماني سنين وثلاثة أشهر وخمسة أيام بعد تولي مُحِبَّة الإله الملكة مَلَك موجاسا، التي سُمِّيَت مريم سينا عند نوالها نعمة المعمودية. (9) وقد ترجمنا هذا الكتاب بعناية عظيمة من العربية للجعيزية، الفقير أنا، الأكثر عدم استحقاق بين الرجال والأشر بين الناس، والشماس غبريال المصري، ابن الشهيد يوحنا كولوبوس،[132] بأمر أثناسيوس قائد جيش إثيوبيا، وبأمر الملكة مريم سينا. (10) فليمنحها الإله أن تخدم خلاص النفس وحفظ الجسد. والسبح له الذي منحنا القوة أن نبدأ وأن نختم (هذا العمل)، إلى الأبد وأبد الأبد. آمين ثم آمين. فليكن. فليكن.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] نفس البيان الذي أثبته أنبا ساويرس في "تاريخ البطاركة"، والأرجح أنه نقله من مصدر مستقل، لأنه تكلم في موضع آخر عن النِقيوسي ولم يذكر حولياته الضخمة، كما لم يبدُ أنه كان متعاطفاً معه على عكس طبيعة الأمور لو كان مديناً لكتابه ببعض البيانات (انظر المقدمة: فصل "النِقيوسي").

 

[3] هناك فجوة في الأحداث أكلت فترة الغزو الفارسي وحتى بدء دخول العرب مصر، ومن هنا يبدأ سرد الأحداث المعنية.

 

[4] أركاديا هي الاسم الروماني لعموم إقليم الفيوم، وانظر لاحقاً فصل 120 فقرة 29 من هذاالعمل.

 

[5] في هامش رقم 280 يشير المترجم الإنجليزي لتعيين تسوتنبرج محقق المخطوطة الأول ليوحنا هذا بأنه دوق برقة الذي أُرسِل لقتال المسلمين، وواضح من سياق الأحداث أن يوحنا كان قائد أول مبادرة رومانية كبرى للتصدي للعرب.

 

[6] القوات الاحتياطية على الأرجح كانت من المصريين.. نعرف هذا من الاطلاع على النظام العسكري الروماني الذي سمح للمصريين بالالتحاق بالجيش ولكن ليس كضباط أو كجنود أساسيين ولكن في الفرق المساعدة الأقل رتبة ومكافأة ولكنها كانت تؤهل أفرادها لاكتساب الرعوية الرومانية بعد خمسة وعشرين عاماً من الخدمة (انظر مثلاً: "مصر الرومانية"، تأليف "نفتالي لويس"، ترجمة "د. فوزي مكاوي"، هيئة الكتاب،  سلسلة الألف كتاب الثاني عدد 138، سنة 1993، صفحة 39).. وعلى هذا فنعرف من البداية أن المصريين شاركوا في مقاومة العرب كجنود في الجيش، وسيفيدنا يوحنا النِقيوسي في هذا العمل لاحقاً أن المدنيين أيضاً حثوا القادة الرومان على المقاومة، وأن النكوص أتى أول ما أتى من قادة الجيش الروماني وليس من المصريين.

 

[7] 2صم1: 27.

 

[8] لعل المقصود بالذين لم يتمكنوا من الوصول هم المسلمون لا قوات الإغاثة، وعلى ذلك يكون المسلمون لم يتمكنوا من الفيوم قبل وصول الجيش الروماني للبهنسا، وعلى ذلك تغيرت مسيرتهم وتعدل سير الاحداث لياخذ مجراه الذي سيتضح فيما يلي.. وقد التزمت بالترجمة الحرفية في المتن التي حوت بعض الغموض الذي يسهل إزالته من الأحداث اللاحقة.

 

[9] وكأنما يوحنا (ولنتذكر أنه كان أسقفاً) يسجل ببديهة كتابية حاضرة ووعي نبوي، إذ ليس هناك أية إشارة لإطلاق اسم الإسماعيليين على العرب سواء من أنفسهم أو من المصريين أو الرومان عنهم، وأما العقيدة الإسلامية عن بنوة العرب لإسماعيل فلم ترق لدرجة استخدام الاسم للتعريف بانفسهم في أية إشارة معروفة، فيرجح إذاً أن الوصف أطلقه النِقيوسي بوعي كتابي ونظرة نبوية، لاسيما أنه سيورد بعض الأحكام المماثلة فيما يلحق، مما يدل على تصوره الكتابي النبوي للأحداث.

 

[10] حادثة من ألف تكذب الدعاية المألوفة عن حسن معاملة الأسرى والشيوخ والنساء وإلخ، وهذه المرة فالمذبحة ليست لجنود أسرى ولكن لمدنيين.. وحادثة من حوادث كثيرة مهداة للمؤرخين الأوربيين أصحاب تعبير " merciful conquerors الغزاة الرحماء" الذين يقيسون رحمة الغزاة بالنسبة والتناسب.

 

[11] هناك دقة بالغة يمكن استشفافها من التعبير الوارد في المتن "نهر مصر العظيم": تقع البهنسا غرب النيل وشرق بحر يوسف الذي يتفرع من النيل عند ديروط، وأما باويط فتقع شرق النيل جنوب ديروط حيث يبدا تفرع بحر يوسف، فالإشارة واضحة لتمييز المجرى الرئيس للنيل قبل تفرعه، ويكون العرب قد انتقلوا جنوباً لقطع الخط العمومي للنيل فيأمنون أية مفاجأة من إمدادات الرومان.. ولعل كلمة "العظيم" كانت تسمية أو إشارة عمومية لتمييز للمجرى العمومي لنهر النيل عن فروعه التي كانت كثيرة تلك الأيام.

 

[12] وردت في الأصل "أبويط Abûît ".. والراجح أن المقصود هو باويط جنوب غرب البهنسا، وهذا يتفق مع السياق الجغرافي للموقعة ومع الغرض الحربي للتحكم في النيل قبل تفرعه، وقطع خط الإمدادات من الجنوب الذي لم يكن قد سقط في يد العرب بعد.. وباويط هذه تقع جنوب المنيا وشمال أسيوط والأرجح عندي أنها على اسم الإله أوبواواط الذي كان مقابلاً للإله أوزوريس في سيوط أو ليكوبوليس، وهناك على اسمه بلدة صغيرة باسم بويط قرب البداري، وهي غير باويط المعنية هنا.

 

[13]  هنا وفي غيره تتضح فكرة "القضاء الإلهي" والتي تغضب المتشنجين من قبط هذه الأيام. ولعرض الفكرة باتزان عقلي واتزان إيماني ألخص القول في الآتي: إن الحديث عن القضاء الإلهي لا يعني الاستسلام لبقائه كأنه بركة، ولكن بالأحرى يدفع ذكره وتذكره من يريد النجاة منه للتوبة عن الأسباب التي أوقعت الإنسان تحته.. والأسباب واضحة لمن يفقه التاريخ، فالحية تلدغ حيث تنشق الكنيسة، وهذا واضح جداً في سقوط الشرق في المرحلة الأولى جراء استمرار انشقاق خلكيدونيا، ثم سقوط الكُنستانتِنية جراء الانشقاق العظيم.. وأما رفض الإقرار بالقضاء الإلهي والتشنج من عزو سقوط مصر له إنما ينبع من عدم فهمه ومن تصور أن القول به يؤدي للاستسلام له، والصحيح أن الإقرار بالقضاء الإلهي هو بالأحرى الدافع للتوبة لا الدافع للاستسلام، والطريق الوحيد لرفعه هو الإقرار به وفهم أسبابه والتوبة عنها، هذا وليس التشنج.

 

[14] مذبحة جديدة تضاف للهامش رقم 8، وسيضاف لها بعدها الكثير.. وسأتوقف عن إيراد التعليق على هذه المذابح في الهوامش لبطلان المغزى من التكرار.. والمترجم الإنجليزي تشارلز كان من الدقة في عمله حتى أنه في موضع لاحق سيخالف العالم تسوتنبرج صاحب تحقيق المخطوطة الأثيوبية في كلمة قد تعني "يقتل" وقد تعني "يحرس" (راجع المقدمة – فصل: "هذه الترجمة التي انتظرها العلماء")، وأثبت في الترجمة كلمة "الحراسة" لا "القتل"، فعلى ذلك هو من الثقة العلمية، وبلا أي تحيز دعائي او معادي للعرب بما يجعلني أجيز الترجمة مطمئناً هذه المرة على أنها مذبحة للأسرى دون حاجة لإثبات أي تحفظ في الهامش.

 

[15] قرينة أُخرى تثير شبهة التواطؤ حول ثيودوسيوس وأثناسيوس أو أي من أصدر الأمر بتكليف هذا "البدين الخامل غير الخبير" وتوجيهه لقيادة معركة من سلسلة المعارك التي كانت خطورتها تامة الظهور وقتها، وتوضع في ملف محاكمة رؤساء أركان الجيش الروماني في مصر، وسنتابع مع النِقيوسي.

 

[16] كان الجيش الروماني (وأكثر جنوده مصريون – أنظر الهامش التالي) يشنون الغارات من الفيوم التي لم تكن قد سقطت بعد على البهنسا التي تقع جنوب شرقها لاستردادها، فتسجيل الأحداث يسير بشكل منطقي رغم إسراف الكاتب في الاعتماد على ضمائر الغائب.

 

[17] إذاً فما ظنه المترجم جيشاً رومانياً صرف، كما استدرك بين قوسيه، إنما كانت لحمته من المصريين الأكثر ميلاً للزراعة وتربية الماشية، فالمعروف أن الرومان بمصر كانوا أبعد عن الزروع والمواشي ويميلون لأعمال الإدارة والقيادة.

 

[18] للأسف لم يرد في النص ماهية هذه التهم، وإن كان بديهياً أن هركيول اتهم قادته أولئك بالتقاعس.. أما أي مؤرخ مدقق فيحق له الذهب لأبعد من تهمة التقاعس وإثارة الشكوك حول حدوث خيانة، لاسيما على قوروش (المقوقس)، فالمعروف من المصادر الإسلامية أن هذا الباتريارك الحاكم كان على اتصال بنبي الإسلام وأرسل له هدايا وجواري، والمعروف أن عمرو ابن العاص أبقاه على حكم الإسكندرية، وسيرد في هذا العمل لاحقاً أن عدة قادة رومان تعينوا ولاةً على أقاليم مصر منهم ثيودور الذي يصفه النيقويسي بالمرتد، ولو كانت هذه المراسلات والإنعامات لا تثبت الخيانة فإنها أقل القليل تلقي بظلال الشبهات.

 

[19] الأصل الإنجليزي هنا Misr” ، والظن بأنه اشتقاق من النطق العربي لمصر كما قد يتبادر للذهن فهو أمر يبعد عن الاحتمال، ذلك لأن كل أسماء البلاد والأعلام الواردة في العمل تحمل أصولها المصرية أو الرومانية، وهو ما يفيد بأن المترجمين المتعاقبين للعمل من أصله اليوناني-القبطي حتى الإنجليزي لم يبدلوها بالأسماء العربية اللاحقة..  لذلك فالأرجح عندي أن الإشارة بكلمة "مصر" هنا تحمل إثباتاً للرأي المعروف أن منطقة رأس الدلتا كانت تسمى "مصر" في اللغة المصرية ذاتها، وتعني حسب التفسير الأكثر شيوعاً "نسل رع" (مس رع).. وفي اللغة العبرانية فإن مصر السفلى تسمى ماصور وتعني الحصن في العبرانية، ولا مانع كما هو معروف في اشتقاق الكلمات أن التحول حدث بقوة عمل الجناس  Homonym: أي باحتفاظ صاحب اللغة الأجنبية بالنطق الوطني للكلمة مع تحويلها في وعيه لأقرب معنى يدل عليها في لغته ثم تتحول كلياً عنده لنطقه هو لكلمته.. هذا تحليل، غير أن لي تحليلاً آخر يقـرِّب معنى الاسم حسب النطق المصري مع المعنى العبري، فإذا أخذنا الاسم كتحول من الأصل ماجور أو ماجوري لكان الأصل في اللغة المصرية يحمل معنى المكان القوي أو مكان الأشواك أو مكان المطارد ويقترب بشدة من كلمة الحصن التي عرفها به العبريون (ورد الاسم "ماصور" هذا في "إشعياء19:  "6 و"إشعياء37: 25" وفي الشاهدين ترد الكلمة مقرونة بالسواقي والخلجان مما يرجح الإشارة لهذه المنطقة تحديدا حيث كانت فروع النيل تبدأ في التفرع، حتى أن المترجمون قد تحيروا في ترجمة كلمة "ماصور" في الشاهدين بين "مصر" و"الحصن").. وأسوق هنا الملاحظة ذات الدلالة أن منطقة مصر العتيقة كانت في كل العصور الوسيطة بعد تغلب اللغة العربية تحمل اسم "مصر المحروسة"، فلعل كلمة المحروسة أتت كترجمة عربية لمعنى الاسم في أصله المصري سواء المعنى لغوياً أو بحسب العرف، ومثل هذه الطريقة في تزويد أصل الكلمة بترجمة لمعناها أو لمغزاها العرفي متكرر مثل صان الحجر والجبن الحالوم وما إلى ذلك في اللغة الدارجة المصرية.. وأما الذي يقطع بأن كلمة صر Misr" في هذا النص لا تشير لكافة القطر المصري وإنما لإقليم واسع رأسه حصن بابـِلون ويشمل مصر العتيقة وجنوب الدلتا، فهو ما يتكرر من إشارات عن "مدن مصر  "Misr كأنها تقابل مدن أقاليم أُخرى، فيعتبرها إقليماً نداً لإقليم شمال الدلتا أو مصر السفلى (فصل 119: 5)، بل ويتكلم عن عدة مدن كبرى مثل أتريب على أنها من مدن إقليم مصر (أنظر فصل 113: 3).. هذا بجانب إفراد كلمة  "إيجبت Egypt " في الترجمة الإنجليزية للدلالة على كل القطر المصري.. وأخيراً فمن المعروف أن مصر في زمن الفراعنة وقبل التقسيم الروماني لها كانت ثلاثة أقاليم حيث كان إقليم مصر الوسطى أو جنوب الدلتا مع منف يمثل إقليماً متميزاً، فعلى كل ذلك على ذلك يرجح عندي أن  "مصر Misr" هذه إشارة لإقليم مصر الوسطى ويشمل منطقة حصن بابـِلون ومدن جنوب الدلتا وأنه الأقرب جغرافياً لإقليم مصر الوسطى كما كان وقت حكم الأسرات.. وللتمييز في الترجمة، فإن "Egypt" سترد في هذه الترجمة بكلمة  "مصر" دون تنويه، وأما " Misr" فستَرِد هكذا: "مصر [المحروسة]".

 

[20] Tendunias.. وفي هامش 287 في الترجمة الإنجليزية يشير المترجم لتحقيق باتلر لها في كتابه "غزو العرب لمصر – Arab Conquest to Egypt " ص 217 - على أنها Umm Dûnain أم دنين، وليس هناك موقع حالياً فيما أعلم في المنطقة المعنية بهذا الاسم، ويُنبغي التذكر هنا أن جغرافية القاهرة قد تغيرت شيئاً ما منذ أيام بتلر وقامت في تلك الناحية احياء جديدة غطت الخريطة القديمة تماماً.. والمرجح على أي حال بحسب السياق الجغرافي والتاريخي أنها تقع في مثلث ميدان رمسيس-الأزبكية-غمرة حيث كانت مياه النيل قبل إحدى تحويلات مساره تصل للمكان وتمكن الناس من بناء القرى والإقامة..

[إضافة لاحقة: بالاطلاع على كتاب بتلر يظهر أنه لم يتكلم عن منطقة تحمل اسم "أم دنين" في وقته، ولكنه كان اسماً ظهر في المصادر العربية، فيقول: "نظن أنه ليس من شك في أن هذا الموضع الذي يسميه العرب (أم دنين) هو الذي يسميه (حنا النقيوسي) (تنونديس) فإنه إذا أزيل الحرف الأول منها وهو دليل على المؤنث في اللغة القبطية صارالتشابه بين الاسمين عظيماً... جاء في ياقوت والمقريزي صراحة أن (أم دنين) هي المقس على ضفة الغربية للخليج (خليج تراجان) وعلى نهر النيل ويقول المقريزي إنها كانت ميناء مصر وقت الفتح . ومن المعلوم أن المقس كانت في الموضع الذي فيه اليوم حديقة الازبكية" (ألفريد ج. بتلر، فتح العرب لمصر، ص191-192، هامش 4، ترجمة محمد فريد أبو حديد).. وجاء في كتاب أحياء القاهرة المحروسة، عباس الطرابيلي، مكتبة الاسرة، ص112: "وكانت في هذا الموقع حول باب البحر وجامع أولاد عنان –قبل إنشائه- قرية تقع غربي الخليج المصري هي قرية أم دنين، وسرعان ما عرفت باسم المقس... وتقع على يسار من يسلك شارع كلوت بك إلى السكة الحديد، وتمتد إلى الشارع الواقع عليه الآن جامع أولاد عنان أي شارع الجمهورية الآن، الذي حمل اسم شارع نوبار باشا...". تحقق الآن هذا المكان بالضبط، وقريباً من الترجيح السالف، وهو بالمناسبة يجعل الموقعة قريبة إن لم يشمل ميدانها موقع الباترياركية المرقسية القديمة.]

 

[21] على كل مؤرخ رفع القبعة لدقة هذا النص.. فمعروف من التاريخ أن عمر ابن الخطاب دخل ورشليم سنة 638، وأن عمرو ابن العاص دخل مصر سنة 639 ولما يزل عمر في فلسطين، وطلبُ ابن العاص من ابن الخطاب المدد كان قبل سقوط حصن بابـِلون أي قريباً جداً من وقت دخول ابن العاص مصر، وعلى ذلك فيلزم أن يكون الطلب قد أٌرسِل إلى فلسطين حيث كان ابن الخطاب لازال مقيماً.. وكان يمكن للمدون غير المدقق أن يفترض إرسال طلب المدد إلى عاصمة القوات الغازية في الجزيرة العربية، ولكن مؤرخنا النِقيوسي كان من الدقة بحيث لزم تقديم تحية التقدير له، وخلفه للمترجمَين للعربية وللجعيزية.. نعم هذا النص الثمين رغم طول رحلته له من الدقة ما يستحق احترام المؤرخين وتقدير القارئين له.

 

[22] الأصل لا يستبين هجاؤه من الهجاء الإنجليزي Walwarja، على أن المعروف من المصادر العربية أن المدد جاء لابن العاص بقيادة الزبير ابن العوام، وبالإمعان في الهجاء الوارد فإن العالم بسمات الصوتيات القبطية والعرف الهجائي في هذا النص يرى تشابهاً قريباً بين الاسمين، ويمكنه التحول الصوتي Phonetic بين الاسمين بلا تعسف: فالـ"جيه J " تُنطََق "ياء" في كثير من الألسنة ولاسيما كما يبدو من العرف المتكرر في هذا النص، وأما الـ"واو" فيشيع نطقها في اللسان القبطي بديلاً للباءً حتى أنهم نطقوا "فيتا" اليونانية "واو" لا "باء" كنطقهم "وسيلي" لـ"باسيلي"، كما كتبوا بذات حرف الـ"فيتا" ما يُنطَق "واو" أصلاً لديهم كهجاء اسم "ويصا"، وهذا حال مئات الكلمات والأسماء القبطية.. فيتحصل من "والواريا" هذا النطق: "والبيريا"، فيبقى لنا اختفاء حرف الـ"زين" الذي يمكن أن يكون قد ظهر في صورة الـ"لام" السابقة، ويمكن حصول هذا لأسباب التصحيف الكثيرة عند تحول نطق الأسماء من لسان لآخر، وليس عندي تصور مرجح له.. أما احتمال أن الاسم يشير لشخص آخر غير الزبير فهو احتمال ضعيف جداً وإن كان قائماً نظرياً على كل حال.

 

 

[23] ينحني المنصف مرة جديدة لدقة ومصداقية مؤرخنا النقيوسي.. ففي كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير ورد الآتي: "كان أسمر ربعة معتدل اللحم خفيف اللحية‏".. وفي كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر العسقلاني جاء: "قال عروة كان الزبير تخط رجلاه الأرض إذا ركب خاطت رجلاه الأرض أخرجه الزبير ابن بكار".. وكلاً من ابن الأثير وابن حجر متأخران عن النقيوسي ومصدران مستقلان عنه تمام الاستقلال.. وواضح أن المقصود بكلمة بربري هو إشارة للون الزبير مع تركيبه الجسدي الذي يشبه الصورة النمطية الزنجية عن البرابرة في عرف المصريين من النحافة والطول ولاسيما طول الأرجل النسبي عن الجسد.. وانظر الهامش السابق (هامش 20).. وبقي استطراداً ليس بعيداً عن السياق، إذ ورد في المرجع السابق أن أم الزبير صفية بنت عبد المطلب، وهي عمة نبي الإسلام، كانت تربيه لكي يحسن النهب في الحروب فتقسو عليه وأرجزت في ذلك عندما عوتبت فقالت: " من قال إني أبغضه فقد كذب‏:‏ وإنما أضربه لكي يلب ويهزم الجيش ويأتي بالسلب ولا يكن لما له خبأ مخب  يأكل في البيت من تمر وحب".. وقد أتقنت صفية عملها وأحكمت تربيتها لابنها وتحقق فيه كل ما قالت كلمة فكلمة: فقد  " لبَّ " الرجل أرض مصر " لَبَّة " معتبرة وأتى بأسلابها وهزم جيش الرومان وأكل وملأ بيته من تمر وحب المصريين، على أنه قُتِل اخيراً بسيف احد المسلمين اسمه ابن جرموز ظن انه لو قتله لكوفئ من خصمه علي ابن أبي طالب ابن عم نبي الإسلام وابن خال الزبير نفسه، وقصة ذلك أن الزبير خرج مع طلحة ابن عبيد الـله خلف عائشة ضد علي وكانت الغلبة لعلي وقُتِل طلحة، فعاد بعد مقتل الاخير أدراجه فوجده ابن جرموز وفتك به بمكان يقال له وادي السباع.. وكان هذا سنة 36 لهجرة نبي الإسلام بعد نحو سبعة عشر عاماً من هجوم الزبير على مصر مدداً لابن العاص، ولا مهرب من حكم الرب أن من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ.. كما من الظاهر أنه لا مهرب للوحش من أنياب ذاته وإن وجد من يأكله!

 

[24] لعل بابـِلون كانت تسمى بابـِلون مصر تمييزاً لها عن بابل العراق، ومصر هنا هي كل عموم مصر Egypt وهذا يرجح عندي هذا التفسير أنه للتمييز عن بابل العراق وليس لمجرد اقتران بابل بإقليم مصر القديمة.. كما ستتكرر الإشارة إلى بابـِلون بهذا الوصف (فصل 144: 2) مما يعطي مزيداً من الترجيح أن هذا الاسم لم يكن حتى مجرد تمييزاً عارضاً من النِقيوسي وإنما اسم متعارف عليه في زمنه.

 

[25] Dalas، وهي دلاص وتقع غرب النيل وشمال شرق أهناسية.. وفي هامش 288 يفيد المترجم بأن بتلر يعين أباكيري هذا بأنه أباكيروس من هيراكليوبوليس ماجنا،

 

[26] Rîf ؟.. لا يتوفر لدي مصدر يقطع بهوية إقليم ريف، ولكن أظن بقوة أن المقصود هو شمال ووسط الصعيد، فهو يذكر في فصل 115 فقرة 6 تحرك العرب نحو مدينة بوصير مقروناً بتحولهم المؤقت عن مصر السفلى، فوجب استبعاد مدينة بوصيرص الواقعة جنوب سمنود، فلا يبقى إلا مدينتان تحملان الاسم في شمال الصعيد، كما ذكر في نفس ذلك الفصل أن العرب كان لهم تحصينات سابقة في ذلك الإقليم وهذا ينطبق على منطقة البهنسا وباويط، كما يتضح الصة المكانية بين ريف والفيوم،  وفي فصل 116 فقرة 9 يذكر إقليم ريف مرتبطاً بمدينة أنتينوي (الشيخ عبادة حالياً بالمنيا).. لذلك ولحين توفر مصدر قاطع لدي أرجح بشبه يقين أن إقليم ريف هو شمال ووسط الصعيد.. ومن المرتبط أن هناك بلدة كبيرة تُسمّى ريفا جنوب مدينة سيوط قرب نهاية إقليم وسط الصعيد.. ولعل أصل الكلمة يماثل المعنى العربيّ لذات اللفظ "ريف" ومعروف أن كثير من المفردات العربية مأخوذة من المصرية، وكلمة ريف في العربية تعني المكان كثير الخضرة والزرع.. 

 

[27] لا يعني هذا أي ترحيب من المصريين بالعرب، فسيتضح بعدها بقليل أن هؤلاء من شرار الناس الذين انقلبوا على مواطنيهم وأغاروا على ممتلكاتهم ونهبوها، كما اتضح قبل ذلك بسطر أن بعض الحكام الرومان خضعوا للعرب مثل جورج هذا الذي من دالاس والذي تلقى أمراً من عمرو بإرسال السفن للعرب، وفي مثل هذه الحالة من تهافت السلطة الحاكمة وشيوع وحشية الغزاة فإن ضعاف النفوس يمالئون الغزاة طمعاً وضعاف القلوب يصدعون لأوامرهم اتقاءً.. وأما الاستناد للخلافات المذهبية بين القبط والرومان أو لقسوة هركيول فإنها لا تبرر مساعدة هؤلاء الذين بدأوا مساعدة العرب، لأن اختلاف الدين ووسم هؤلاء مبكراً من قبل النِقيوسي بأنهم أصحاب دين الوحش وهمجية العرب وإسرافهم في إراقة الدماء لا تترك نافذة لافتراض ترحيب المصريين بهم ولو نكاية في الرومان.. وإنما بحسب طبيعة الأمور، وبحكم موضوعي بيّن، فإن مساعدة هؤلاء الناس التي أشار لها النِقيوسي كانت خوفاً من جانب المرعوبين وتزلفاً من جانب الطامعين، ولا تبقى أية فسحة لاختطاف الجملة لمصلحة الادعاء الدعائي بأن مساعدة هؤلاء تقوم كدليل على الترحيب.

 

[28]  Misr كما سبق التنويه في هامش 17.. ويتضح الآن في هذا الفصل أن كلمة مصر بهذا الهجاء تشير لإقليم كبير مركزه حصن بابـِلون كما سبق الشرح في الهامش 17 المُفَصَّل.

 

 

[29] وهذا يكذب ادعاء الجزية الهينة بالمقابلة لجزية الرومان الباهظة، فأياً كانت قسوة تلك، فإن جزية العرب بدأت كضعف لها، وفيما بعد (في الفصل 120) بعدما تستقر للعرب أمور مصر، فإن النِقيوسي يخبرنا بأنهم ضربوا الضرائب في ثلاثة، وأنهم كانوا ينتزعون الضرائب من الناس، وأن الناس كانوا يتركون أعمالهم ويختبئون لعجزهم عن الدفع.. والمثل المصري يقول: جور الغز ولا عدل العرب، وجور الغز هذا يقول عنه مثل آخر: آخر خدمة الغز علقة، فإذا كان المصريون يفضلون جور الغز، الذي شعاره مكافأة الخدمة بالعلقة، على عدل العرب، فأية مقابلة تكون بين قسوة الرومان و "رحمة" العرب؟ أو ضرائب الرومان وجزية العرب؟ كل هذا بفض النظر عن الكرامة الوطنية على كل حال.

 

[30] يقرب هذا صورة ما يُسمى اليوم بالقوة المفرطة Excessive Force، وهو من الشواهد الكثيرة القاطعة التي تنفي الصورة الغربية الخاطئة عن الغازي الرحيم Merciful Conqueror  والادعاء الدعائي المحدث عن تحالف المصريين وترحيبهم بالعرب.

 

[31] كان للنيل سبعة أفرع وقتها قبل أن تحل عليه "بركة" الغزاة، وكان بينها شبكة محكمة من الخلجان بعرض الدلتا، ولعل الإشارة هنا لفرعين من لتلك الأفرع، وبالترجيح الجغرافي يكونان فرع دمياط، القائم إلى الآن، وفرع سمنود (سَبنِّيتوس بحسب النطق اليوناني) الذي لم يعد موجوداً ومكانه حالياً ترعة مليج؛ الواقع الجغرافي الآن يفيد بان هذه خمسة من الأفرع السبعة قد زحفت الرمال على شمال الدلتا وسدت مصباتها ويقوم محلها بعض الترع؛ ويرجح أكثر العلماء أن الأفرع والخلجان تلك قد خربها العرب من أعمال الغزو، ويعزون تفحل أمر البراري في شمال الدلتا إلى ذلك؛ وأرجح أنا بالاستناد لاستقراء شهادة النِقيوسي أن العرب قد تعرفوا جيداً على خطورة الموانع المائية عليهم، واحتياجهم للتغلب الدائم منها لمواجهة أية مدينة قد تثور، كما قد تلقوا مشورة بردمها من بعض القادة الرومانيين الذين ارتدوا عن ولائهم للكُنستانتِنية، وأنه ينتج من ذلك بترجيح قوي أن عمل الردم والتخريب قد تم بعد استتباب الأمر لهم كعمل وقائي لاحق (أنظر في هذا النص 114: 4 و 115: 2-5 وفقرات متعددة مثلها، وانظر في المقدمة فصل: "النِقيوسي وجغرافية مصر").

 

[32] الصورة واضحة أن القادة الرومان جبنوا وهربوا، وأن عموم الشعب في كل مدن مصر تملكهم العرب من العرب، وأنهم للّحظة الأخيرة كانوا يحتمون في الجيش الروماني والسلطة الرومانية بدليل هروبهم للإسكندرية التي لم تكن قد سقطت بعد.. ومثل هذا الوضوح يكشف تهافت الادعاء أن الشعب القبطي رحب بالعرب كرهاً في الرومان، والصحيح هو القول أن الشعب القبطي خضع للعرب بعد أن فقد الأمل في حماية الرومان.

 

[33]  !!! وكأن يوحنا النِقيوسي يملك تفسيراً لسفر الرؤيا سابقاً على وقوع الأحداث حتى إذا حدثت وجدت تفسيرها حاضراً في ذهنه من قبل اتضاح معالمها – ومن يدري فلعل مثل ذلك التفسير كان قائماً حقاً بين المشتغلين بالأسرار النبوية للكتاب !!! إن هذا السطر  الأول من الفصل 114 يستحق وضع كثير من الخطوط البارزة تحته للمهتمين بتاريخ التفسير الكتابي، ويدعو الباحثين الجادين في اللاهوت لبحث مفهوم المسيحيين قبل القرن السابع عن الوحش وعن سفر الرؤيا..

 

 [34]إشارة مبكرة على وضوح الرؤيا العقائدية عند الفريقين، فالمسلمون يعتبرون المسيحيين أعداء الإله (إلههم) ويبادلهم الأسقف القبطي يوحنا النِقيوسي بالقول القاطع لديه أن نبيهم هو الوحش وأن دينهم هو دين الوحش.. وأما استيلاء العرب والمصريين المرتدين لدينهم على أمالاك الهاربين رعباً فمن أمور وضوح الرؤيا لديهم على غرضهم.. وأفيد ما في الوضوح لدى أي باحث هو كشف الدعايات (انظر في المقدمة فصل: "النِقيوسي والدعايات")..

 

[35] هذان غير نهري سمنود الواردين سابقاً لأنهما كانا تحت حراسة داريس وليس ثيودور بنفسه كما أنهما في الغرب من بابـِلون، كما ترد الإشارة في ذات السياق أن ثيودور أرسل إلى سمنود يقباري وستيفاري.. وطالما أن هذين النهرين في اتجاه الشرق من بابـِلون فيكونان على الأرجح هما فرع البيلوزيوم (الفرما في سيناء)  وفرع تانيس (أو صا الحجر وهي أواريس القديمة في الشرقية)، وكلا الفرعين لم يعد موجوداً.. إذاً فإلى هذه المرحلة يكون العرب متمركزين عند بابـِلون ويتأرجحان عبر الدلتا شرقاً وغرباً ويدركان في كل مرة خطورة الأنهار على طموحاتهم.

 

[36] هنا يعود لاستكمال ما بدأه في فقرة 2 عن حملة عمرو ابن العاص بنفسه على شرق الدلتا لمواجهة ثيودور، ويرجح ذلك أن النهرين كانا من عدم العمق بحيث تحاول الخيول عبورها، وهو غير حال الأفرع التي تخترق وسط الدلتا وغربها.

 

[37] إشارة مهمة لمشاكل العرب مع الأنهار والخلجان في أعمال غزوهم.. أنظر في المقدمة فصل "النِقيوسي وجغرافية مصر".

 

[38]  شمال ووسط الصعيد.. انظر هامش رقم 24.

 

[39] هناك ثلاث مدن تحمل الاسم ومتداخلة في الأحداث: بوصيرص جنوب سمنود في قلب الدلتا، وأبوصير شمال سقارة في الجيزة وفي الصحراء بين الجيزة والفيوم، وأبوصير الملق جنوب غرب الواسطى وشرق الفيوم وهي الراجحة في الإشارة هنا، لأن الجيش العربي صرف نظره مؤقتاً عن مصر السفلى واتجه لإقليم ريف ولأن هناك إشارة عن سابق الاستيلاء على هذه المنطقة، وقد سبق النِقيوسي وأورد في الفصل 111 سقوط الفيوم ومنطقة شمال ووسط الصعيد.. وكلمة "بوصير" كلمة مصرية صرف وأما "بوصيرص" فواضح أنها تصريف يوناني للأصل المصري، وأبوصير تسهيل عربي للنطق، ولعل "بوصير" تعني شبح أوزيريس، وإلى الآن فإن كلمة "بَوّ" في العامية الريفية تشير لعجل صناعي يُصنَع لخداع البقرة التي يُذبَح ابنها حتى لا تتوقف عن إدرار اللبن.. وأنقل من الذاكرة عن كتاب لعلي مبارك عن المدن المصرية أن بوصير تعني قبر أوزوريس، وهو معنى قريب من التحليل السابق..

 

[40]  Kalâdji.. والأرجح أن أصله كلوديوس، فإن الـ"جيه J " تُنطَق ياء في كثير من الألسنة وواضح هنا من فحص أسماء المدن أن النص (على الأقل بحسب ترجمة تشارلز الإنجليزية التي تحظى بالاحترام العلمي والتي أترجم منها) يسير بهذا العرف، ولما لا أجد اسماً محتملاً أقرب من كلوديوس فقد أثبته في المتن هكذا، وهو على كل حال شخصية ثانوية لن تتوقف الأحداث عليها كثيراً.

 

[41] هكذا وردت النقاط الثلاثة في الترجمة التحقيقية الإنجليزية دون تعليق، والواضح أنها إشارة لمكان كلمة غير ظاهرة في المخطوطة الجعيزية.

 

[42] أثبت تشارلز المترجم الإنجليزي في الهامش رقم 291 أن الأصل الاثيوبي يتكلم عن سنة بدلاً من شهر، وأنه اتبع تصحيح بتلر في ترجمته.. ويتفق مع هذا ما جاء في ملخص محتويات الفصل أن فتح أبواب حصن بابـِلون كان بعد سنة من  سقوط مصر المحروسة.. وأظن أن مصدر هذا الخطأ هو الخلط الذهني والذي قد يقع في مرحلة الترجمة أو في النسخ، والأرجح لهذا النوع من أخطاء الخلط هو وقوعها في الترجمة، لاسيما مع صحة البيان في الملخص، الذي لو كان من عمل المؤلف فتصحيح الخطأ محسوم، ولو كان من عمل المترجم فهو دليل أنه لم يقصد ترجمة المتن كما ورد بالفعل.. وعلى هذا يكون الخطأ قد وقع في إحدى مرحلتي الترجمة من اليونانية إلى العربية أو من العربية إلى الجعيزية.

 

[43] كان المصريون يقسمون السنين لدورات شمسية ودورات قمرية متعاقبة لضبط تواريخ مواضع القمر القمرية مع الشمس، طول دورة الشمس 28 سنة والقمر 19 سنة، وكان هذا معروفاً خارج مصر أيضاً، واستُخدِمَت هذه المعارف الفلكية لحساب عيد القيامة، ومن هنا نشأت قيمتها العُرفية عند الأقباط، فليس غريباً أن يؤرخ بها أسقف قبطي (وهذه الأرقام وطرق استخدامها في الحساب يُعرَف لليوم في الكنيسة القبطية باسم حساب الأبقطي).. فإلى أي دورة يشير النِقيوسي هنا؟ ولمعلومة التي يقدمها لنا النِقيوسي هنا مهمة وتعين على دقة التوثيق التاريخي.. ويلزم للهامش احتمال إجراء الحساب البسيط المهم: لو اعتبرنا المؤرخ يشير للدورة الشمسية فسيختل حساب التاريخ عما هو معروف من مصادر أُخرى مستقلة، حيث نجد سنة 355 قبطية الممتدة عبر 638\639 ميلادياً، وهو غير ممكن لانه كان ابن العاص لا يزال في فلسطين مع ابن الخطاب.. وبحسب المستخلص المشهور من المصادر العربية، رغم تضاربها، فإنه كان في العريش في أواخر 639 الميلادية.. ولكن لو أخذنا الرقم على أنه رقم السنة في الدورة القمرية لتحققت لنا سنة 357 قبطية الواقعة عبر سنتي 640\641 ميلادياً، وهذا في منتهى الدقة، وطريقة الحساب سهلة، فالسنة الأولى القبطية كانت نهاية دورة قمرية والسنة الثانية هي الأولى في دورة تالية فتكون معادلة حساب رقم أي سنة في الدورة القمرية هي خارج ( 357 – 1)\19 = 15.. والآن يقدم المؤرخ معلومة أكثر دقة وهي أن عملية تخريب مدن الدلتا كانت في الصيف من هذه السنة.. والصيف، في العرف القبطي الذي يقسم السنة إلى ثلاثة فصول، معمول بها لليوم في الليتورجية القبطية، يحتل شهور بشنس وبؤونة وأبيب ومسرى، والتي تكافئ عموم شهور مايو ويونيو ويوليو وأغسطس، وعلى هذا تكون المعارك قد وقعت في هذه الشهور من سنة 641 ميلادية،  ويتفق هذا مرة أُخرى مع سبق قوله أن عمرو ظل 12 شهراً دون نجاح (انظر مفتتح الفصل 115: 1 – والهامش السايق 40)، فيكون بدء اعتباره لمحاولات عمرو مع الدلتا عائداً لبداية مايو سنة 640.. وكلما اكتملت الصورة زادرت الثقة في دقتها مع مؤرخنا النِقيوسي.

 

[44] Tûkû-Dâmsis .. وفي الهامش 292 يشير تشارلز أنه هكذا استرجع تسوتنبرج الكلمة من المخطوطة وأن بتلر يرى أن الكلمة هي مزج لاسمي المدينتين طوخ و(ميت) دمسيس.. والمدينتان قريبتان من بعضهما البعض على كل حال.. بل ربما أن واو العطف العربية تدخلت لصياغة الكلمة على يد المترجم للجعيزية الشماس غبريال.

 

 

[45]  غير واضح إن كان قد نفذ فكرته أم لا، ولكن الراجح أنه قد نفذها بقرينة من النص ومن الواقع، فلو كان لم ينفذها فمن أين عرف النِقيوسي بما فكر فيه؟ كما أن فكرة إحراق المحاصيل تستدعي للذهن وجود براري قاسية قريباً من دمياط وهي المنطقة التي كانت تشتهر بالخصوبة الفائقة قبلاً حتى آل حالها إلى قول ابن حوقل من القرن العاشر عنها: "من جليل مدنها [الضمير يعود على مصر] وفاخر خواصها ما خُصَّت به تنيس ودمياط وهما جزيرتان بين الماء المالح والعذب أكثر السنة في وجه النيل لا زرع فيهما ولا ضرع بهما" (صورة الأرض، ص143، مصر فقرة20، منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان 1992.. أنظر أيضاً في المقدة فصلاً بعنوان: "الِنقيوسي وجغرافية مصر").. وعلى كل حال فبعد قليل سينفذ عمرو فكرة الحرق في مدينة أُخرى (انظر فصل 115 فقرة 6).

 

 [46] لعلها مدينة كانت قائمة مكان مدينة القناطر على رأس الدلتا، وهذا يتفق مع مد طريق بينها وبين بابـِلون بمصر القديمة.

 

 

[47]  الأرجح أن جزءً مفقوداً أو جملة اُسئ ترجمتها عبر رحلة النص ترجمةً ونسخاً قد أدى لهذا الاضطراب في المعنى، فالمنطقي أن ثيودور ورفيقه كانا يحاربان المسلمين وعليه يكون المقصود هو العكس أي أنهما لم يتمكنا من إلحاق الإصابة بالمسلمين لانتشارهم بين المصريين.

 

[48] لم أرغب في ترجمتها: "أوقح وأعنف" رغم أنها الترجمة الأوقع لوصف الحال، وذلك لما في الكلمتين من مذاق اللاموضوعية.. ولكن على كل حال لا أملك تفويت وضع خط تحت ما لم يفت الأسقف المؤرخ الإشارة إليه: أي ربطه بين وقاحة وعنف الإسماعيليين وبين الانشقاق الكنسي.. كأن النِقيوسي هنا يتكلم بصوت ناثان النبي ويعيد قوله لداود: "جعلت أعداء الرب يشمتون".. وكانت لداود خطية زنا وخطية قتل وكان لكل منها عقوبته الآجلة، وأما خطية جلب شماتة أعداء الرب فكانت عقوبتها هي العاجلة، ثم كانت توبته قد نقلت عنه خطيته وقيل له: لا تموت، ولكن خطية جلب الشماتة كانت عقوبتها رغم كل شئ هي الموت (لابنه).. فعقوبة جلب شماتة أعداء الرب هي الموت والموت العاجل (2صم12: 13-14).. رسالة لكل من يشق الكنيسة.

 

[49] خيانة أو تخاذل أو أياً كان شأن الحاكم الروماني، فإن الثابت هنا أن أهل المدينة –المصريين- كانوا طُلاّب مقاومة إيجابية وأصحاب رغبة في تفعيل خير وسيلة للدفاع.. وهذه شهادة جديدة يقدمها يوحنا النِقيوسي الأسقف المصري ضد ادعاء البروباجاندا المحدثة عن فرح المصريين بالغزو، وهي أيضاً ضد بعض الأحكام غير الصائبة من المؤرخين الأوربيين عن تخاذل المصريين بسبب نقمتهم على الرومان، والذين كان منهم بتلر نفسه الذي عاد عن حكمه غير الصائب هذا بعد اطلاعه على شهادة يوحنا النِقيوسي في تقديري [إضافة لاحقة: ثبتت صحة هذا التقدير] (أنظر مقدمة هذه الترجمة، تحت عنوان "النِقيوسي في محكمة المؤرخين – النِقيوسي يرد بتلر عن رأيه").

 

[50] واضح أن يوحنا كتب هذا الفصل متعجلاً لأنه يقفز قفزات واسعة في سرد الأحداث ويختصر اختصاراً كبيراً في وصفها.

 

[51] Yakâtît.. وفي هامش 295 يرد أن هذا الشهر هو الشهر السادس حسب التقويم الحبشي ويبدأ في 7 فبراير، وعليه يكون مطابقاً تقريباً لشهر أمشير المصري السادس في التقويم المصري والذي يبدأ في 8 فبراير في غير السنين التالية للكبيسة.. والواضح من الترجمة أن الشهور الحبشية تسير متوازية مع الشهور المصرية فأورد مترجم النص من العربية للجعيزية الأسماء كما هي معروفة للأحباش بلغتهم.

 

[52] وهو تقويم الشهداء فيكون هركيول قد مات عام 641 بعد أن بدا حكمه بهزيمة الفرس واسترجاع الصليب وتفرغ بعدها لفرض صياغة "حل وسط" بين الخلكيدونيين واللاخلكيدونيين.. وقد أسرف في تفرغه وفي سطوة فرضها، ويحتفظ الفريقان بأسماء قديسين عُذِّبوا لرفضهم هذا "الحل الوسط"، وبينما الحال هكذا بدأت حياة هركيول تتساقط حزناً قطعة بعد قطعة وهو يرى تساقط الإمبراطورية أمام هجوم العرب على أسمن لحمها وأثمن مخاخها سوريا ثم مصر.. لقد كان حكم السماء أن يكون صاحب الحل الوسط في العقيدة والمسئول عن اضطهاد الجميع هو المسئول عن ضياع الجميع وأن يكون زمنه هو زمن ارتفاع الذي يحجز من الوسط (2تس2: 7).

 

[53] مرة أُخرى يثبت النِقيوسي دقته التاريخية المذهلة في التفاصيل، فالعملة التي يشير لها معروفة لدى الأثريين، وها هي صورتها التي تزين جدول فترة حكم هركيول في جدول لأباطرة الكُنستانتِنية في موسوعة ويكيبيديا، وبالفعل ليس عليها أية كتابة في وجه الصورة:

 

 

كما أن التاريخ البيزنطي يقدم مبرراً مكافئاً لإصدار هذه العملة فيفيدنا بأنه في سنة 638 أشرك هركيول ابنه الأصغر هِركلانوس(من مارتينا) للجلوس معه، وكان قد سبق له إشراك ابنه الأكبر كنسطنطن سنة 613، فيكون على العرش الآن ثلاثة.. وسيفيدنا النِقيوسي في فصل لاحق بما يفدم لنا مزيداً من تبرير غضبة الناس الذين كانوا يعتبرون زواج هركيول من مارتينا فسقاًَ، فأحرى بهم اشتعال غضبهم حنقاً على وضع صورة ابنها.

 

[54] تفوح رائحة الإيماء لمؤامرة وطنية انتقاماً لكرامة الإمبراطورية، ويسند ذلك الانطباع الخبر التالي فوراً عن محو الصور الثلاث، وهي قرينة جديدة لمزيد من إحكام الشهادة عن تفكك الإمبراطورية الرومانية وحال الذي يحجز من الوسط إبان زمن رفعه (2تس2: 7).

 

[55] مارتينا ليست أخت هركيول وإنما زوجته الثانية وأم هركلانوس (أو هركيول الصغير كما يُشار إليه هنا) والتي عيّرها البعض بأنها ليست زوجة شرعية. وليست أخته.

 

[56] الأرجح أن تعبيره "مر عليها وعلى أبنائها" يعني أنه تجاوزهم ولم يرشحهم وهذا أيضاً يتفق مع التاريخ.

 

 

[57] لعل المقصودين هما ابنا مارتينا المذكورة.

 

[58] لعلهما هما ابنا مارتينا.

 

[59] المثير هنا أنه منذ مجمع خلكيدونيا وحتى هركيول جلس على العرش إثنا عشر إمبراطوراً كان أقربهم لسلفه حفيده، ولم يجلس قط ابن بدلاً من أبيه.. فلو اعتبرنا ظهور العرب وتقلص إمبراطورية بيزنطة نهاية لها لصحت النبوة، ولكن لو سايرنا حماس النِقيوسي وانتظرنا بقاء صحة النبوة طالما كان هناك إمبراطور بيزنطي على أي حال، فإن التاريخ يقف عدة مرات لهذه الحماسة الموضوعة في غير مكانها.. وقد سبق للنِقيوسي أن أورد تفصيل هذه النبوة في (فصل 90 فقرة 13) من مجلدات حولياته الشاملة (خارج نطاق فصول الغزو العربي)، وهو هنا يعتبر في حماسته قصر فترة جلوس كُنستانتِن كأنه غير محسوب، وكان الأوفق له هذه المرة أن يؤجل التنويه إليها للفقرة التالية لحين اتضاح هذا حتى يتسق المعنى الذي قصده مع الحدث الظاهر أمام القارئ، إلا أنه تسرع فسبب بعض الارتباك للقارئ غير العارف بما يلي من التاريخ وتركه يتعجب كيف أن ابن الإمبراطور يجلس محل أبيه بينما يحسب المؤرخ في ذات لحظة تسجيله لهذا الحدث أن نبوة قديسه صادقة! وعلى كل حال، فإن حماسة النِقيوسي الطائفية التي ظهرت في غير موضع لا تُحسَب عليه كمؤرخ من أي وجه.

 

[60] في هامش 296 يقرر تشارلز أن الأصل الأثيوبي يعكس اسما ثيودور وأناستاسيوس، إلا أنه وضع الاسمين عكساً بعكس، ليوافق بتلر الذي ذكر أن اناستاسيوس كان هو حاكم الإسكندرية قبل عودة كيروس، بينما كان ثيودور مع كيروس في رودس في طريق عودته لمصر.

 

[61] تولى كنسطنطن الثالث العرش خلفاً لهركيول يوم 11 فبراير 641 ومات يوم 26 مايو من نفسة السنة فيكون حكمه 104 يوماً، ومشهور ما قيل في التاريخ البيزنطي أن زوجة أبيه مارتينا دست له السم وهذا يتفق مع ديمومة مرضه فلعلها كانت تضع له سماً بطيئاً وهي طريقة معروفة للقتل مع التعمية عنه بأعراض المرض.. فهذا شاهد آخر على دقة النِقيوسي التاريخية، فلا عليه كمؤرخ من حماسته الطائفية.

 

[62] Gainas.. ولعلها جماعة تنتسب لجايناس المنشق القوطي في نهاية القرن الرابع وبداية الخامس في عهد أركاديوس (أنظر تاريخ سُكراتِس (سقراط) كتاب6 فصل6)، وإن صحت هذه النسبة فيرجح أن تكون تلك الجماعة من بقايا أنصاف الأريوسيين.

 

[63] Dafâshîr.. والأصل غير قريب للاستنتاج.

 

[64] لا يُستَغرَب أن تظهر في ذلك التاريخ جماعات مسيحية مستقلة مذهبياً، لاسيما في مدينة الإسكندرية حيث كانت للجماعات المستقلة، على قلة عدد أفرادها، قوة تنظيم وبقاء ولها حمية وتعصب، ومثال على ذلك جماعة النوفاتيانيين الذين وردت إشارات متعددة عن التواجد المتماسك لكنيستهم حتى القرن الخامس.

 

[65] يوحنا هنا يتكلم بعاطفته الكنسية المذهبية.. وهنا أختلفُ أنا معه في تعويله على "الانحراف العَقَدي" للخلكيدونيين في تفسير سبب البلاء، إذ أرى أن العقوبة الإلهية حلّت على "الهرطقة" أي الانشقاق، وأما العقيدة فكانت بريئة من العواقب إذ كانت الخلافات لفظية أو في أسوأ الحالات نظرية.. وإذا اعتبرنا ما عهدناه معه طوال النص من موقفه الفاضح للعرب بَلَهْ عدم تعاطفه معهم، فيمكننا هنا تقدير دقة موقفه: فهو يقف هنا تحديداً موقفاً وسطاً فحواه أن زوال سلطة الرومان عقوبة على هرطقتهم واضطهادهم للأرثوذكس، وليس مكافأة للعرب (أنظر الهامش التالي رقم 64).. وأما وصف يوحنا المثير للعرب بالـ"إسمعيليين" فسيتكرر فيما بعد في (121: 10)، وتمت الإشارة له ولدلالته في الفصل الثامن من المقدمة.

 

[66] واضح غضب يوحنا النِقيوسي على الرومان الذين سببوا الضيق لكنيسته المصرية المقاومة للمذهب الخلقيدوني، ولكن واضح أيضاًً أنه لم يأخذ من ضيقه دافعاً لكي يرحب بالـ"إسماعيليين" وواضح بشكل قاطع أن عدو عدوه ليس صديقه بل هو عدو أشرس، وسيتكلم كلمات اكثر وضوحاً فيما بعد (الفصل 20)، ولكن يكفي الآن وضع الخط تحت خلو كلماته ولا حتى ضمنياً من الترحيب بالغازي أو تشجيع الاستسلام له.. ومن يقرأ جيداً يجد نبرة النعي لسقوط الرومان يرن بين الكلمات، فهو غاضب منهم وحزين عليهم وغير مخدوع في الوافدين.

 

[67] في التزامن بين القيامة والسقوط هنا رسالة.. ولقد قاومت بصعوبة إغراء ترجمة الجملة بـ "سقط حصن بابـِلون بدلاً من "اُخِذ حصن بابـِلون" كما تفيد الترجمة الحرفية.. وكلمة السقوط جاءت من وحي المناسبة: لقد سقط حصن مصر الكبير في عيد القيامة، والسقوط وقت القيامة هو عينه حال الكنائس المنشقة التي تسقط بانشقاقها رغم كونها مؤسسة القيامة في العالم المتعهدة بالكرازة بها.. صحيح في التزامن رسالة!

 

[68] ؟ غير معروف لي أين ورد هذا المكتوب الذي يطول جداً حتى اكتمال الفصل.

 

[69] غريب أمر دعوة النقيوسي للفرح بالصبر على تجربة الرومان، وذلك لأنه كان يكتب بعد زوال حكم الرومان ورحيل جيشهم!!!.. ولعله أخذته مشاعره وتجاوزت به الواقع مقابلاً دون وعي بين الحال مع العرب وبينه وقت الرومان.. وهناك مثل شعبي يقول: "جور الغز ولا عدل العرب".. وعلى كل حال فالفصل كله مأساوي، ولا أملك إلا كلمة: يستحقون ما جرى لهم، قبل أن أنسحب من انطباعي الشخصي لأعود للتعليق الموضوعي فأشير للفارق بين صورة الاضطهاد الروماني للمصريين اللاخلكيدونيينكما يشهد بها التاريخ، وبين صورته كما انطبع في أذهان العامة بفضل الجهل والأغراض الدعائية، فالواضح أن اضطهاد الرومان كان يقع على النشطاء وليس اضطهاد تخريب، وكان اضطهاداً انتقائياً وليس اضطهاد غارات، واضطهاد بلا فرض لمهانة عامة على الهوية، واضطهاد تحكمه معايير سياسية لدولة تشعر بتهديد تمسك المصريين بمذهبهم، وأسوأ ما فيه يحدث عندما يقوم على الإدارة شخص فاسد، والأسوأ أن يكون غبياً، ولكن هذا الأسوأ لا يأتي متعمداً وإنما يبقى رهن ظروف الصدفة، وللأسف كانت الصدفة في أسوأ حالاتها مع هؤلاء القساة الأغبياء الذين سقط الحصن في يوم القيامة فوق ذخيرتهم التي تركوها هاربين.. والآن وهذا حال الاضطهاد الروماني، فكيف يقاس إزاءه حال اضطهاد العرب؟ ودفع الجزية مع الصَغار والمهانة؟ وهذه شهادة لمؤرخ محترم عن شريعة الحرب عند البيزنطيين (الرومان وقت ظهور الإسلام): "ينما اعترف القديس "بازل" - بأن على الجندي إطاعة الأوامر فإنه يؤكد، مع ذلك، أنه يجب على مرتكب اثم القتل في الحرب أن يمتنع عن التناول الذي هو علامة التوبة مدة ثلاثة سنوات. ... ليس الموت في ساحة القتل شيئاً مجيداً، كما أن الموت في معركة مع الكفار ليس استشهاداً، وإنما الشهيد هو من مات وهو مسلح بإيمانه وحسب. ... وحقيقة الأمر أن التاريخ البيزنطي كان خلوا من الحروب العدوانية ... ويرى المؤرخون الغربيون الذين اعتادوا الإعجاب بالشجاعة العسكرية أن المسالك التي كان يسلكها رجال الدولة البيزنطيون تتصف بالجبن أو الخبث، غير أن الدافع الحقيقي كان الرغبة الأصيلة في تجنب سفك الدماء" (ستيفن رانسيمان، الحملات الصليبية - الجزء الأول، ص121-122، الطبعة الأولى، سلسلة الألف كتاب الثاني -155، هيئة الكتاب).. ولا أورد، على أي وجه، كل ما سبق لتبرئة الإمبراطورية الرومانية من أخطائها، ولكن لتوصيف الأخطاء بدقة حتى يمكن من ثَمَّ وضع الخطوط بين المماحكات الدعائية وبين الواقع.. والآن فإن هذا الواقع يقول إن احتجاج المسلمين المحدثين بدموية لتبرير غزواتهم غير ذي موضوع لأن البيزنطيين عُرِفوا بالحذر من إراقة الدماء حتى في الحروب وذلك للتاثير الديني المسيحي.. (هذا النوع من الاحتجاج أصلاً غير ذي منطق من الأساس، ولكن البحث هنا في موضوعية مادته وليس في منطقه الأخلاقي).

 

[70] الأرجح أن المقصود بالمعسكر هنا هو مدينة الفسطاط، والمعروف لدارسي منطقة مصر القديمة أن فرعاُ لم يعد موجوداً للنيل كان يصل في ذلك الوقت حتى الحصن، ويمكن من الكنيسة المعلقة رؤية الأرض المنخفضة بين برجي الحصن المقام عليهما الكنيسة حيث كانت مياه النيل تصل.

 

[71] من غير الممكن القطع به، في حدود نص هذا الكتاب، إن كانت الكتيبتان الخضراء والزرقاء من القوات النظامية أم لا.. فهما هنا تظهران ككتيبتين متمردتين ومناوئتين للجيش الروماني، على أنه في الفصل التالي (119) سيظهر ميناس قائد الخضر على أنه من القادة النظاميين للجيش الروماني، وسيحشد الخضر مرة أُخرى، وبدعم من ثيودور نفسه، لمقاومة دومنتنيانوس الذي سيظهر على رأس الزرق.. ولكن من المؤسف لبلد في حالة غزو أن تتقاتل فيها الفرق نظامية كانت أم شعبية.

 

[72] to their own country.. ولعل المقصود قواعدهم التي أتوا منها أو لعلهم عادوا بالفعل لبلادهم الأصلية.

 

[73] في هامش 297 من ترجمة تشارلز يشير المترجم الإنجليزي لترجيح بتلر لأن المقصود بـ"صا" في متن الفصل، هو مدينة صاوونا تلك التي وردت في عنوان الفصل في فهرس المخطوطة، ويستبعد أن يكون المقصود هو مدينة سايس التي كانت بعيدة شمالاً عن تقدم العرب حتى تلك المرحلة من الأحداث.. وتأكيداً لذلك أضيف أن صا كلمة قبطية تعني جهة، و أونا (أو أوني) تعني حجراً، فتكون المدينة المقصودة هي على الأرجح صا الحجر حالياً المشار غليها باصلها القطبي صاوونا في فهرس المخطوطة..

 

[74] إن عبارة النِقيوسي البارعة البلاغة تـُدخِل بحق الفقرة 10 من الفصل 118 في تاريخ التأريخ.. ولا يفوت الحاذق هنا الالتفات لقيمة تمييز المؤرخ لهذه المذبحة عن غيرها بتعيين يوم حدوثها بالرقم والاسم: "الأحد الثامن عشر من بشنس"، غير مكتفٍ بتمييزها بعبارته البليغة المميزة بحق.. فإذاً كان لهذه المذبحة يوماً مشهوداً ومعيناً من قبل أهل الضحايا ظل عشرات السنين مسجلاً لديهم حتى أثبته "النِقيوسي" أسقف ذات البلد المنكوبة فيما بعد.. فيالاتفاق هذه الاعتبارات!

 

[75] سبق حساب السنة الخامسة عشرة من الدورة القمرية (انظر هامش 41) وهي 357 قبطية ويقع أكثرها ومنه شهر بشنس في سنة 641 ميلادية سنة الغزو العربي.. وأما يوم 18 بشنس يوم مذبحة  نِقيوس فيوافق بالتقويم الحالي 26 إبريل، وباليولياني الجاري وقتها 13 إبريل.

 

[76] إذاً فالفظائع التي تحدث من هؤلاء القوم كانت من الشهرة بحيث تقطع الأراضي فيسمع من في مصر فظائعهم في فلسطين، ولعل العكس كان صحيحاً.. كما أن في هذا السطر شهادة لسعة إحاطة النِقيوسي بما كان يحدث خارج مصر في الزمن الذي يؤرخ له مما، وشهادة على دقة عمله إذ من المعروف تاريخياً تزامن غزو فلسطين ومصر ووجود ابن الخطاب في فلسطين بينما كان ابن العاص يحارب في مصر (أنظر هامش رقم 19).

 

[77] مصر هنا وردت Egypt.. إذاً كان ثيودور يحارب المسلمين خارج مصر في هذه الحلقة من الأحداث، ولما كانت جبهة فلسطين هي المشتعلة، وكان العنوان يشير لسقوط قيصرية فلسطين، فإن كيليوناس المذكورة هنا تكون على الأرجح في فلسطين.

 

[78] غير واضح مناسبة إيراد هذا اليهودي ولا من هو، ولعله كان رأساً لاستطراد لم يُكتَب أو لم يصل عبر الرحلة الشاقة لهذا النص الثمين.

 

[79] وردت في الأصل Côprôs والمؤكد أنها ليست جزيرة قبرص المعروفة لأنه لم يكن هناك أي هجوم عليها من العرب قبل عثمان ابن عفان ومعاوية،وعنوان الفصل يتكلم عن دمار قيصرية فلسطين، وهذا يتفق مع واقع التاريخ ومع سياق أحداث الفصل، فالأرجح جداً أن المدينة المقصودة هي قيصرية وتحرّف هجاء اسمها ككثير من الأسماء في هذا النص.

 

[80]  شهادة من أسقف قبطي بان الانضمام للعرب ليس ضد الرومان بل ضد الرب وهذه شهادة جديدة قوية لدحض الادعاء بترحيب المصريين بالعرب، إذ ها هو متحدث كنسي باسم المصريين يصرِّح بالعكس.. صارت مصر مستعبدة للشيطان حين كان الرب ضاربا، فلعله يعود الآن بعد اكتمال ازمنة الأمم شافياً.

 

[81] بديهي أن الفريق الذي قام على أخيه هو الفريق المرتد لجانب العرب، فهو الفريق المستقوي بالغزاة، كما أنه الفريق الذي رغم ذلك لم يحز ثقة المسلمين، والثقة توضع وتُرفَع وتُذكَر مقرونة بالعميل لا الضحية.. فبالإجماع يكون فريق قايين الذي قام على أخيه يكون هو الفريق المرتد لأن اعماله كانت شريرة وأعمال أخيه بارة، وإلى الآن فالمتحالف مع هاجر التي من العربية يضطهد ابن الموعد الذي حفظ الموعد إيمانه.

 

[82] أبو قير؟

 

[83] دليل جديد أن Misr كانت تشير لمقاطعة بذاتها وأنها تقع على حدود جنوب الدلتا بحيث تقف في المقابلة مع مصر السفلى أو شمال الدلتا موقف الندية في الصراع وفي الاعتبار.

 

[84] واضح من اسم ميناس أنه كان مصرياً، علاوة على مناوئته للرومان (118: 3)، ونقمته على دومنتنيانوس بسبب قتله للمسيحيين (انظر وقابل مع 117: 5-6)، ثم فوق ذلك كله فإن مما يزيد ترجيح هويته المصرية تعاطف النِقيوسي الظاهر معه.. وفد سبق أن قدمه لنا النِقيوسي في الفصل السابق 118: 3 على رأس الخضر أيضاً (انظر ايضاً الهامش 69).

 

[85] Mâmûnâ.

 

[86]  من ديس أي عشرة باللاتينية كما يظهر.

 

[87] الاسم الدقيق بحسب التاريخ هو "هِراكلانوس" الذي يشبه اسم أبيه هِراكليوس (هركيول) على كل حال.

 

[88] حرفيا هكذا Infant، والصحيح غلام أو طفل لا رضيع، ولعل الإشكالية في مصطلح المعنى في الجعيزية..

 

[89] أورد تشارلز في هامش 299 أن هذا الموضع به ثغرة Lacuna في ورق المخطوطة.

 

[90]  يقصد على الأرجح الأوصياء على هِراكلوناوس أخي كنسطنطن وابن هركيول الأصغر.

 

[91]  هذه شهادة أن الرومان في بعض المواضع هم الذين منعوا المصريين من المقاومة لا أن المصريين هم الذين أعانوا عليهم!.. العكس تماماً للدعاية الشائعة التي سقط في تصديقها أكثر المصريين وبعض العلماء الأوروبيين،  والإهداء لبتلر الذي قبل الهدية بدليل تغيير كلامه ما بين كتاب "كنائس مصر" في نهاية القرن 19 وكتاب "غزو العرب مصر" في بداية القرن 20.

 

[92] يفيد هذا الكلام بأن المتمردين اعتبروا أن زواج هركيول من مارتينا أم هِراكلوناس (الوارد هنا باسم هركيول الصغير) زواجاً غير شرعي، وأن الثوار طالبوا بتولية أبناء ابن هركيول الأكبر الذي مات مريضاً، بدلاً من ابنه الأصغر حسب وصيته التي كانت تولية ابنيه معاً كما يفيد التاريخ.. والذي حصل أن هركيول أشرك ابنه الاكبر كنسطنطن في الحكم معه ثم بعدها بسنوات أشرك ابنه الأصغر أيضاً وأوصى بتولية الاثنين معاً بعد موته.. والآن فهذه شهادة على أن سيرة هركيول الأخلاقية لم يكن مرضياً عنها من الناس.

 

[93]  في هامش 300 يقع تشارلز في خطأ سيستمر معه إذ يعتبر أن شهر مسكرم (المطابق لتوت) يبدأ يوم 10سبتمبر، وليس 11 سبتمبر كما هو الحال.. وتفسير خطأ تشارلز الأرجح عندي أنه أثبت التاريخ من جدول يعود للقرن 19 الذي انتهى قبل عمله في ترجمة المخطوطة بسنوات قليلة في مطلع القرن 20 ، كما أنه لم يلتفت لتبعية التقويم الأثيوبي للتقويم القبطي.

 

[94]  هذا دقيق تماماً بحسب التقويم القبطي الذي لم يتغير حيث يُحتَفَل باحد عيدي الصليب في 17 توت.. والأحداث هنا ستتسارع من النيروز للصليب لعيد القيامة، وسيظهر أن هناك خلط في الوصف بين عيد الصليب وعيد القيامة، ويرجح عندي أن الحاصل هو سقوط جزء من المخطوطة في عملية الترجمة للعربية أو للجعيزية.

 

[95] تابِنّا اختصار تابنِّيس وتعني باللغة المصرية نخيل إيزيس (تاب + ان + إيس = النخل الذي لإيزيس)، وهي جزيرة مقابل أخميم صارت مركز الرهبنة الباخومية.. وأقام فيها البابا أثناسيوس أثناء هروبه للصعيد.. وتمتع هؤلاء الرهبان بمقر وكنيسة في الإسكندرية يدل على مدى اتساع نشاطهم.

 

[96] لا أفهم سبب علامة الاستفهام من جانب تشارلز ولعل هناك شيئاً في المخطوطة.

 

[97]  في الأصل Caesarion، وهو اشتقاق واضح من كلمة قيصر.. وكانت الكنائس الكبرى التي يبنيها الملك أو يصلِّي فيها تُسمى باليونانية باسيليكا من "باسيليوس" أي ملك باليونانية، فلعل الكلمة نُقِلَت للاتينية على نحو ما..

(إضافة لاحقة: ونقلاً عن كتاب "الإسكندرية المسيحية"، تأليف د. عزيز سوريال عطية، صـ30: وكتاب "تاريخ الإسكندرية وحضارتها تأليف د. السيد عبد العزيز سالم، صـ49، يسجل إبراهيم صبري في مؤلفه "مار مرقس الإنجيلي"، صـ216-217 هذه الحقائق التي أرتبها بحسب ما استخلصته: أن الكنيسة القيصرية هذه تقع في مكان نصب تذكاري أُقيم لتخليد ذكرى ابن يوليوس كايسر الذي قتله أغسطس، والمكان عند المدخل الشرقي للميناء، وتحول المكان لكنيسة باسم الملاك ميخائيل ثم كنيسة باسم العذراء في عصر البابا تيموثاوس، وحالياً يقوم مكان الكنيسة "جامع النبي دانيال" أو "جامع الألف عمود".. ولا أدع هذه المعلومات التاريخ-جغرافية تفلت دون تأمل فأقول أولاً إن هذه الكنيسة تقع في مكان دخول مار مرقس للإسكندرية من الباب الشرقي، والذي كان يقود لحي اليهود.. ثم أقول إن الظاهرة تتكرر حين يخلع المسيحيون المظاهر والأسماء الإمبراطورية العالمية على كنائسهم فإنهم يتحولون للصراع عليها تحت اسم العقيدة، قبل أن تتحول هي ذاتها لمعابد لأضداد المسيح، وليس بعيداً حال كنيسة أجيا صوفيا – انتهت الإضافة)..

 

 

استطراد مهم: سبق أن ورد ذكر كنيسة كيساريون هذه في فصل 84 فقرة 87 من الحوليات، وفيه يروي النقيوسي قصة بشعة إنسانياً، ومخجلة بالأخص مسيحياً: أعني القصة المشهورة عن سحل الساحرة الوثنية هيباشيا في شوارع الإسكندرية.. وعلى ذكر القصة فإنني لا أملك التنصل من إثبات بعض التعليقات الملزِمة ، فأستسمح في هامش طويل:

 

الذي حدث تبعاً لوصف النقيوسي أن الحاكم أورستس كان معادياً للكنيسة وصديقاً لهيباشيا محترفة السحر وقد قام بعمل مهين للباتريارك بأن أهان رجلاً يمثله في احتفال عام بالضرب، وكان قد سبق له إعدام عدة رهبان أحدهم راهب بارز.. وفي ظل هذا الجو العدائي، والذي تقف وراءه حسب تصور المسيحيين "الساحرة هيباشيا" بقدراتها الشيطانية، وقعت المقتلة المشهورة التي صنعها اليهود غدراً بالمسيحيين وبالاستناد لصداقة الحاكم أورستيس لهم.. وقد لاقت تلك المذبحة تحركاً واسعاً من الـمسيحيين الذين حاصروا اليهود واستولوا على معابدهم ولم يمكن إنقاذهم إلا برحيلهم عن المدينة كليةً، وأقل من ذلك لم يكن متصوراً لمراضاة الـمسيحيين الثائرين.. وإذ أُسقِط في يد الحاكم من هذه الهبة الشعبية فإن جماعة من "المؤمنين،" وهم بحالة الغضب هذه، تحولوا تحت قيادة قاضي اسمه بطرس، يطري النقيوسي على اكتمال إيمانه بالمسيح يسوع، للبحث عن هيباشيا واستئصال كل مصادر المتاعب ضد المسيحيين.. وعندما وجودها أنزلوها من على كرسيها ونقلوها بقيادة بطرس الحاكم "المؤمن" من مكانها حتى الكنيسة الكيسارية "العظيمة" وهناك مزقوا ملابسها وبدأوا بها رحلة السحل عبر الإسكندرية حتى ماتت، فاحرقوا جسدها بالنار. ولم ينته الأمر قبل أن يهتفوا للباتريارك كيرلس على أنه ثيوفيلوس الثاني محطم الأصنام.. انتهى تسجيلي لما سرده النقيوسي في الفصل 84 الفقرات من 87 إلى 103، وماذا يمكن أن يُقال؟ يا للعار.. عار الغوغاء، وعار "بطرس،" وعار النقيوسي المغيّب مذهبياً حتى أنه سجّل الرواية بمديح صريح لـ"بطرس" الـ"كامل الإيمان" كما وصفه.. فإنني وأنا الذي أتخذ من النقيوسي شاهداً على ما فعله العرب الغزاة، وأحقق شهادته موضوعياً، لا أتغافل إن عبر بي عمل مشين كهذا..

ولايزال العار يلاحق كل من يصمتون على هذه الواقعة دون إدانتها والتبرؤ منها.. صحيح أن هناك فرقاً واضحاً بين قتل على الهوية الدينية وبتحريض أصيل في لب مصادر دين القاتل (مثل حال العرب المسلمين مع غيرهم)، وبين قتل بدافع الغضب والخصومة (الأحداث اللاحقة في تاريخ الكنيسة والبعيدة عن روح الإنجيل وعن تاريخ الأجيال المسيحية الباكرة)، ولكن صحيح أيضاً أن كل جريمة تأخذ حقها من الفضح والتوبيخ بحسب ما هي عليه من جرم.. هذا عن موقف الغوغاء وقائدهم..

أما موقف البابا كيرلس فهو دقيق ويحتاج لتدقيق في فحصه.. فأما عن تحريضه على العمل فهناك

شهادات قاطعة على براءته من ذلك.. أول الشواهد وأقواها هو شهادة النقيوسي التي نسبت العمل

لبطرس المذكور، ولما كان النقيوسي يرى في العمل غيرة واكتمال إيمان فلم يكن لديه مانع من

إثبات نسبته للبابا كيرلس لو توفرت لديه شهادة المصدر الذي استمد مونه روايته.. وهذا من أقوى

الأدلة على براءة البابا كيرلس من تهمة التحريض؛ وتساند هذه النقطة هند النقيوسيّ شهادة سُكراتِس (سقراط) المؤرخ الذي لم ينسب التهمة للبابا كيرلس رغم استعداده لاتهامه بغير ذلك، وذلك ما حدث منه إذ

اتهمه بالصمت وعابه على ذلك هو خصوصاً والإسكندرية كلها عموماً (أكرر التصريخ باتفاقي هنا  مع تقدير هذا المؤرخ الذي نعى أنه لم يجلب أي خزي على البابا ولا الإسكندرية كلها، إذ أنهم قد استحقوه في يقيني لعدم تبرؤ الجميع بقوة كافية من فاعلي هذه الجريمة)!!

وهكذا كتب المؤرخ في ختام  الفصل 15 من الكتاب الثامن:

 

"This affair brought not the least opprobrium, not only upon Cyril, but also upon

the whole Alexandrian church. And surely nothing can be farther from the spirit of

Christianity than the allowance of massacres, fights, and transactions of that sort. This

happened in the month of March during Lent, in the fourth year of Cyril’s episcopate,

under the tenth consulate of Honorius, and the sixth of Theodosius"

(NPNF Sers II, Vol. 12, PP 373-374)

 

وترجمته: "ولم يجلب هذا الشأن حمرة الخجل (حرفياً: الخزي)، ليس فقط على كيرس، ولكن ولا على كل كنيسة الإسكندرية. ويقيناً فلا شئ أبعد عن روح المسيحية من السماح بالمذابح، والاقتتال، وتعاملات منم هذا القبيل. حدث هذا في شهر مارس أثناء الصوم الكبير في السنة الرابعة من حبرية كيرلس تحت السنة العاشرة من مستشارية اونوريوس، والسادسة لثيودوسيوس"

 

وهناك دليل تحليليّ للأحداث قويّ جداً يبرئ البابا كيرلس من التحريض، هذا تسانده كل الملابسات؛ ويمدنا به النقيوسي مرة ثانية دون قصد، إذ في رواية النقيوسي نرى بوضوح أن الجموع القاتلة بعد جريمتها أحاطت بالبابا كيرلس ودعته ثيوفيل الجديد.. ولم نسمع أنه خرج لهم ليبادلهم التحية.. فإذا أضفنا للمشهد أمرين ينيران خلفيته أولهما ما هو معروف عن أهل الإسكندرية من محبة الشغب والميل للغوغائية عبر التاريخ الرومانيّ، وثانيهما أن البابا كيرلس كان جديداً لم يزل في عام بابويته الرابع، لاجتمع لنا الآن المشهد كله: الموقف كله يحمل نوع من البلطجة الجماهيرية حتى على البابا كيرلس نفسه، فليس هناك قائد أو زعيم يرحب بالهتاف باسم من سبقه لما في ذلك من دلالة احتقار الجماهير له ولو نسبياً، ولما يحمل الهتاف من ضغط عليه ودفع له في اتجاه معين يحد من حرية اتخاذه للقرارات بحسب المتغيرات، ثم إن البابا كيرلس لم يخرج فعلاً ليقابل الجماهير ويرد لهم تحيتهم  كشأن الزعماء مع الجماهير التي تحييهم حال توافر الرضا المتبادل أو حتى تظاهراً به لتشجيعهم على المزيد من التظاهر باسمه، ومجرد عدم خروجه لرد التحية هو دليل قاطع على إما غضبه مما حدث أو عدم ترحيبه بهتافات الجماهير وإحاطتهم التظاهرية بالكنيسة، وهنا النقطة الحاسمة للموضوع والسؤال الكاشف  الذي يدور على كل الاحتمالات لفحصها: فلو كان البابا كيرلس قد أمر أو حرّض على قتل هيباشيا وهو يرى في ذلك فخراً لكان المشهد فرصة للافتخار وإعلان المسئولية سواء منه للجموع للافتخار أمامهم، أو من الجموع له لتهنئته بتنفيذ ما أمرهم به أو أوحى لهم بعمله، وهذا لم يحدث.. بل حدث العكس وغاب البابا كيرلس عن مشهد المظاهرات ولو حتى من شرفة الكنيسة لتحية المتظاهرين الهاتفين باسمه واسم خاله.. إن من يدقق في المشهد يرى البابا كيرلس نفسه ضحية مهددة شأن هيباشيا هو كبابا يسمع هتافاً باسم من سبقه ويحيط بالكنيسة جمهور من المشاغبين القتلة يعلمون يقيناً ان تجمهرهم يحمل تهديداً للبابا مثلما يحمل تأييداً له.. ولقد آثر البابا كيرلس السلامة، وتجنب الجماهير فلم يوبخهم ولكنه قطعاً لم يحيهم أو يثني على عملهم بله كونه لم يحرضهم من الأصل.. وقد اشتهر بالمناسبة في التاريخ باسم الحكيم وعُلِم عنه حسن سياسة أموره مع الحكام والجماهير، وبهذه الحكمة اختفى من المشهد..

 

هذا دليل تحليليّ قاطع لمن يفهم من أمور السياسة شيئاً، ويصح بجانبها إيراد الشواهد من طبيعة شخصية البابا كيرلس المعتد بنفسه والمتحدث بالرحمة والمحبة (ولاسيما قوله في ليتورجيته أعداءنا وأحباءنا أيها الإله ارحمهم)، وكل هذه السمات الشخصية تقف بجانب استبعاد تورطه في شأن حقير كذلك..  إذاً فالبابا كيرلس لا هو حرّض مفتخراً ولا هو حرّض متواطئاً، ولا يبقى من مؤاخَذَته إلا صمته الذي ينبغي النظر له بظروف مخففة كما سلف شرحه، أقول الظروف المخففة ولم أقل البراءة التامة..

 

وعلى ذلك فإن أقرب المواقف للموافقة معي من شهادات المؤرخين هي شهادة المؤرخ سُكراتِس الذي لم يتهم البابا كيرلس بالتحريض، ولم يتهمه حتى بالموافقة على الجريمة بعد وقوعها، ولكنه لم يتوانى عن التنديد بغياب الشعور بالعار عنه وعن الإسكندرية كلها..

باختصار البابا كيرلس وإن كان بريئاً من أصل الجريمة تماماً لا يتبرأ من الصمت تجاهها.. وإن لم يتبرأ من الصمت ولكن ليس بغير ظروف مخففة وعذر قوي قاهر..

 

إلى هنا وبكل حق ودقة بحسب الشهادات المتوفرة قد سُقت توصيف ودور كل الأطراف في الجريمة..

 

وأشير أخيراً لجانب الغباء في الجريمة بملاحظتين مسيحيتين تأمليتين تزيدان من العار افتضاحاً وعليه توبيخاً مستحقاً: الأولى أن الغوغاء مَسحوا بمسحة الشهداء سيرة امرأة وثنية "احترفت السحر" حسب تصورهم، وانتهجت معاداة المسيحية، فصارت بعمل الأغبياء عند أعداء المسيحية شهيدة، وأية شهادة؟ كتلك التي حظي بها الكاروز مرقس! أغبياء أو أدعياء لاسم المسيح.. والملاحظة الثانية هي وصفهم للبابا كيرلس أنه محطم الأوثان الثاني بعد ثيوفيلوس، ومرة أخرى يتعدون على الكاروز فإن مبدد الأوثان بعد المسيح (إشعياء 19: 1) هو مرقس كما تدعوه الذكصولوجية القبطية.. لا أقول أن كرامة تبديد أوثان مصر لا يجوز أن تُنسَب لغير مرقس معه، ولكن أقول أن من يريد أن يكرم واحداً بهذا القب فليتحرى امتثاله بطريقة مرقس في تبديد الأوثان، ليكون شريكاً لمرقس في اللقب.. وأما الاستعانة بالقوة السياسية لهدم المعابد فلا أظنه مؤهِلاً لمشاركة الكاروز في لقبه، وليكن لكلٍ لقبه المستحق من التكريم حسبما فعل..

 

ثم أن على من يتبنى طريقة سحل الفيلسوفات، أو حتى الساحرات حسبما تصور الرعاع ويتصورون دائماً في الفلاسفة، على من يتبنى هذه الطريقة من الغوغاء أن يبتعد أصلاً عن مرقس وألقابه الكريمة الحق، وليطلق ما شاء من الألقاب على من شاء بعيداً عن الكاروز وعن خلفائه بالمرة، ثم لا ينسى أن يأخذ موقعه في قفص الاتهام المسيحي..

 

ومن المتعلّق، فلي مقال للدفاع عن البابا كيرلس من تهمة التحريض على هذه الجريمة، نُشِر لي في بكور حياتي في جريدة الأهالي، رداً على مقال ادعى فيه كاتبه "د. سمير صادق حنا" تورط البابا سيريل (هكذا أورد اسمه بصياغته اللاتينية!) في التحريض على الجريمة.. ولما لم تتوفر لديّ مصادر كثيرة، فقد قصُر ردي عن بعض اللازم، ولكنني على كل حال قد استعنت بأقصى درجات التحليل المنطقي لعرض كل ما يمكن عرضه من القليل المتوفر من المصادر لرد التهمة بدون تجاوز للمنطق وجنوح للتصور المسبق، فأتى الرد رغم فقر المصادر المتوفرة موافقاً للضمير وغير مخالف لواقع الأحداث.. ثم بعد توفر مزيد من المصادر لديّ ألحقت بالمقال هامشاً أودعته أكثر المعروض هنا.. المقال سيكون موضع تحميله في وقته في صفحة "الرأي للشاب" في مجلد النقد بعنوانه الذي نُشِرَ به  "كيرلس الأول ومصرع هيباشيا"

 

يبقى بعد كل ذلك ملاحظة فنية لازمة عن سعة اطلاع النقيوسي وتوفر مصادر تاريخية دقيقة لديه حتى أنه بعد أن اتفق بدقة مذهلة مع شهادة سُكراتِس في التوقيت (الصوم)، والمكان (كنيسة كيساريون)، فإنه فاقه وأفاد في تلك القصة ذات الدلالات التاريخية المهمة بأكثر مما قدم مؤرخ أكاديمي بوزن سُكراتِس.. وأما ما أختلف فيه معه من وصف لهيباشيا بانها ساحرة بدلاً من فيلسوفة عالمة فهذا لا يقدح في مصدره كتسجيل دقيق للأحداث، فتوصيف وتسمية الأشياء والأشخاص يعود للتصورات الشخصية وليس للمعرفة الموضوعية فالفيلسوفة عند المؤرخ الأكاديمي يراها المتدينون المتعصبون ويسمونها ساحرة، ولاشك أن مصدر النقيوسي كان كتابات شمامسة البابوات والذين مع أمانتهم واطلاعهم لم يخلو من الغيرة الطائفية الداعية لإغماط الخصوم حقوقهم الأدبية، وهكذا طبائع النظرات الشخصية، والنقيوسي بدوره كان أسقفاً متعصباً مذهبياً، وكان ناقلاً من مصادر مماثلة، وأما سُكراتِس فقد تمتع لحد كبير بحرية نظر شخصية لا تطغى على أقدار الناس وإن خالفوا واختلفوا، ولا يمنع أن يكون كلاهما مؤرخاً محترماً تؤخَذ منه الأحداث بكل دقة واطمئنان..

فمع ترك آرائهما الشخصية لهما واختلافهما في تسمية الخصوم والأصدقاء طالما لم يثبت منه جوره على الأمانة، فإن ما ما يعنينا منهما هو أن يكونا أصحاب نقل أمين ومطّلع على الأحداث الموضوعية، وقد كانا..

 

 

[98] الطابع السياسي واضح هنا في عظة قورش، فبينما يتآمر الرجل مع الغزاة أو يتفاوض معهم، فإنه يتكلم مع الناس في العظة العامة وبعد رجوعه من عند الإمبراطور حديثاًً احتفالياً محض، وواضح لي أن كلمة "مدح جداً" تشير لاستغراقه وإغراقه في الحديث عن الأمر فوق المعتاد أو المتوقع زيادة في تغييب الجمهور.

 

[99] أتصور في هذه العبارة وصفاً لأحد شعائر الاحتفال، وكما تبدو لي فهي طريقة الموكب المنطلق من كنيسة حاملاً منها صليباً ومنتهياً لأُخرى حيث مكان الصلاة الليتورجية.. وهي طريقة لازالت مستخدمة للآن في أحد الشعانين والأعياد الكبرى في بلاد الريف التي تسمح ظروفها بذلك، وفي بعض الأديرة..

 

[100] إلى هنا وكان يتكلم عن عيد الصليب كما يظهر صراحة بالنص ثم بالتاريخ ثم أخيراً مما تكلم به الباتريارك في عظته عن المكان الذي وُجِد فيه الصليب المقدس [أي صليب المسيح]: (فصل 118: 8-13).. ولكنه ينتقل فجأة في (118: 14) ليقول إنه عيد القيامة.. وليس من سبب نصِّي أو مخطوطي يدعو لتصور أنه قفز زمنياً في السرد.. كما أن واقع التاريخ لا يترك فسحة لقفزة كهذه.. ولذا فالأرجح أن الكلمة وردت على سبيل الخلط في رحلة الترجمات.. وأما الحديث التالي فوراً عن تغيير المزمور (118: 14) فلا يرجح عيد القيامة على عيد الصليب لأن كليهما يُرتَّل فيه نفس المزمور مثل كل أيام الآحاد.. وبالمثل فإن النبؤة التالية عن عدم رؤية كيروس لاحتفال "آخر" بالقيامة (118: 15) لا تجزم بالضرورة بأنه آخر غير هذا العيد، فقد يشار لاحتفال القيامة التالي لوقت النبوة باحتفال آخر (غير الاحتفالات السالفة به).

 

[101] مثل هؤلاء الشماس من الإكليروس لا يزالون موجودين إلى اليوم فلا غرابة!

 

[102] هذا الميناس غير ميناس المقاوم والسابق ذكره في الفصلين 118 و119 (انظر ايضاً وقابل مع الهوامش 69 و82).

 

[103] طقم خونة معتبر – ومثل هؤلاء غيروا وجه التاريخ.

 

[104]  يقصد حتماً المسلمين.. وفي الترجمات العربية القديمة وفي القطمارس العربي للكنيسة القبطية فإن كلمة "الأمم" كانت تُتَرجَم بـ"الوثنيين" سواء لترجمات العهد القديم أو الجديد على السواء.

 

[105] يورد تشارلز هنا تعليقاً في هامش 303 فيقول ان الكلمة الأثيوبية بمعنى "يحمل"، التي وردت هنا، يصعب أن تكون صحيحة.. ويشير إلى أن تسوتنبرج يترجمها بكلمةfournier  [بمعنى "يقدم" أو "يصنع" بالفرنسية التي ترجم بها تسوتنبرج] والتي لا يمكن أن تكون مقصودة في رأيه.. وأرى أن كل الكلمتين محتمل في السياق ولا أفهم سبب استبعادهما سياقياً لدى تشارلز إلا ان تكون إشارته لمشكلة في ورق المخطوطة، وهذا هو الأرجح لانه وضع علامتي + قبل وبعد الكلمة، ثم علامتي --.

 

[106] لقد عاش النقيوسي في العقود الأخيرة من القرن السابع بعد استقرار الأمر للعرب في مصر ببضعة عقود تعد على اصابع يد واحدة، كما أنه يتكلم عن تعامل المصريين مع العرب فور دخولهم، فهو من كل نحو يتكلم عن خبرة باكرة للمصريين بدين الغزاة.. إنه يظهر هنا معرفته الشخصية ويشي بمعرفة عموم المصريين المبكرة لبعض التفاصيل الدقيقة لهذا الدين وتوجهاته..

 

[107] Country.. ولكن ماذا يقصد النِقيوسي ببلدهم؟ مصر؟ أم جزيرة العرب؟ وعلى كل حال، وبالمناسبة، فمن المعروف في خط غزوات وهجرات العرب لليبيا أن مصر كانت بالنسبة لهم أرض عبور للبعض الذين أقاموا في شمال أفريقيا، كما كانت أرض عودة لآخرين غزوا وعادوا أدراجهم، كما كانت فيما بعد أرض هجرة عكسية متأخرة.

 

[108] لا الوصف المُسَجَّل على عمرو هنا بالبربرية ولا أعماله التي رصدها النِقيوسي ودفعته لهذا الوصف يتفق مع الادعاء الذي تكرر تحطيمه في هذا النص حتى صار فتاتاً وهو الادعاء بكرم عمرو أو بمحبة المصريين له.

 

[109] في هامش 304 يقول تشارلز (جرياً على خطئه السالف الإشارة إليه وتفسير سبب الوقوع فيه في هامش 91) إن مجابيث يبدأ 9 مارس.. والصحيح أن مجابيث يطابق برمهات تماماً ويبدأ يوم 10 مارس.. على أن ما يعنينا هنا حساب تاريخ عيد القيامة لتعيين السنة واختبار دقة النص.. والنتيجة مذهلة الدقة كالعادة: بما أن خميس العهد وقع في تلك السنة في يوم 25 برمهات فإن العيد وقع في يوم 28 برمهات الذي يوافق يوم 24 مارس بحسب التقويم اليولياني (الميلادي قبل التغيير الجريجوري الذي صنع فرقاً متزايداً وصل الآن إلى 13 يوماً).. وكل ما علينا هو البحث في بضع السنوات التي جرت فيها تلك الأحداث لتعيين إن كانت هناك سنة وقع فيها احتفال عيد القيامة في ذلك اليوم 28 برمهات قبطياً الموافق 24 مارس يوليانياً.. والإجراء بسيط للعارفين، فجدول حساب عيد القيامة لم يتغير بحسب التقويم القبطي (واليولياني المتوافق معه) منذ تعيين مجمع نيقية له، وتتكرر دورة تواريخ الاحتفال كل 19 سنة.. وهناك طريقتان لحسابه تتفقان في تعيين اليوم، الأولى هي الطريقة المصرية بناءً على التقويم القبطي، والثانية تستخدم في الحساب بيانات التقويم اليولياني، (وبهذه الطرق الحسابية هي ضمن ما يُعرَف بالحساب الإبيكاتي –الأبقطي- وبدأها الفلكي بطليموس في وقت البابا السكندري الـ12 ديمتريوس).. ومن هذه الطرق سُجِّلَت جداول مضبوطة ومعروفة لتواريخ الاحتفال بالقيامة تشمل كل القرون السالفة وجزء طويل من العقود القادمة.. وقد قمت كمران مسل بالحساب وبمراجعة الجداول أيضاً فوجدت أن عيد القيامة كان في يوم 28 برمهات في سنة 642 ميلادية! وهي السنة التي توافق تمام الموافقة المشهور في تأريخ الغزو العربي لمصر من المصادر العربية أن الإسكندرية سقطت في العام الثالث للغزو الذي بدأ في أواخر 639..  الدقة الرقمية التامة في رواية النقيوسي، كما راجعت الجدول المعتمد في الكنائس الأرثوذكسية الشرقية فوافق نفس النتيجة.. ولاستكمال التوثيق سأثبت هنا البيان حسابياً مشفوعاً بصورة أحد الجداول.. فأولاً ها هو الحساب لعيد القيامة مبنياً على التقويم القبطي (وصياغة المعادلات لي لتجميع عدة خطوات كلامية مسهبة في معادلة رقمية في خطوة واحدة):

 

1- السنة القبطية المكافئة لسنة 642 هي 642 - 284 = 358.

2- عيد القيامة هو الأحد التالي لفصح اليهود، فيلزم تحديد تاريخ فصح اليهود وهذه معادلته:

(40 – ((358 – 1) mod 19) * 11) = 25

والناتج 25 أكبر من 23 (الرقم الفارق لتحديد أي الشهرين برمهات أم برمودة) فيكون يوم فصح اليهود واقعاً في برمهات يوم 25 منه.

3- فإذا عُلِم اسم هذا اليوم في الأسبوع يتم تحديد تاريخ يوم أحد عيد القيامة

وهذه معادلة استخراج اسم اليوم الاول لأي سنة قبطية:

 (int ((( 358 – 4) mod 28) / 4) + 4)) mod 7) = 1

والحساب منضبط على البدء بيوم الأربعاء على أنه المكافئ للرقم واحد، فيكون اليوم الأول للسنة القبطية 385 هو يوم أربعاء ومنه يمكن الوصول لأنه يوم 25 برمهات هو يوم خميس.

4- إذاً فالأحد التالي لفصح اليهود سنة 358 قبطية هو يوم 28 برمهات.

 

والصورة التالية لجدول أعياد القيامة وقد أحطتُ بدائرة يوم 24 مارس التي وقعت سنة 642 في دوره:

 

 

وللتذكرة، فإن الجدول يحسب السنين السابقة على التعديل الغريغوري بالحساب اليولياني.. ويوم 24 مارس اليولياني موافق لـ 28 برمهات القبطي، وموافق الآن لـ11 مارس الغريغوري.

 

يبقى سؤال يستحق التنويه والمناقشة وهو طالما أن تواريخ العيد معروفة فما الذي يمنع النقيوسي من حسابه هو بنفسه ليستكمل روايته، فيكون التاريخ الوارد غير دال على توافق المصدر المروي مع حسابات مستقلة عنه؟ والإجابة أن المُعنَى بحساب التاريخ لتدعيم روايته ببيانات إضافية لا يفوته تحديد السنة، ولكن واضح أن تحديد السنوات، لم يكن يعني النقيوسي في شئ، والذي كان يكتفي، إن أورد ذكراً للسنة، برقمها في الدورة دون تحديد أكثر، وإنما دائماً في روايته لأحداث تلك الفصول كان معنياً بإيراد وقائع القصة، وأما تحديده لليوم فهو لارتباطه ارتباطاً وثيقاً بصلب القصة ذاتها، فوق أن اليوم بعد ذلك يبقى هو العلامة المتكررة كل سنة في ذكرى الراحل عند من يهمهم أمره، بينما قد تضيع السنة من الذاكرة.. وليس بعيداً عن ذلك السمة القبطية المعروفة والظاهرة إلى الآن في السنكسار الذي يحفل جداً بيوم رحيل الشخص المعنى بينما قد تغيب السنة.. فلعل موت قورش كان لايزال يُتًذَكَّر عند الأروام جرياً على هذه العادة وقت تسجيل النقيوسي لهذا الفصل، فسجل مع القصة اليوم المحفوظ للذاكرة ولم تعنه السنة كثيراً.. وإذاً فمع أن حساب النقيوسي بنفسه للتاريخ لا يفقد القصة مصداقيتها على أي وجه، فإن المرجح هنا، أي عدم قيامه بهذا الحساب وتسجيله فحسب لرواية دقيقة معروفة له، هو محسوب كشاهد جديد لدقة مادته.

 

 

[110] يشير لما سبق له إيراده في فصل 120: 16.

 

[111] الاسم لا يتفق مع أي شهر أثيوبي معروف ولكن أقرب اسم له هو هامكْلي الذي يوافق أبيب، وهذا التاريخ خارج السياق الواضح.. على أن النِقيوسي سيعود بعد قليل جداً ليشير لتاريخ يتفق مع المناسبة التي يعينها (أنظر الهامش التالي 107).

 

[112] هذا يوافق التقويم القبطي الذي لم يتغير قط وفيه يكون الاحتفال بعيد الصليب أيام 17 إلى 19 توت فيكون يوم 20 بعد كل أيام العيد بالفعل.

 

[113]  Cyprus.. انظر هامش 76، وهذه المرة فلا سبب للشك في صحة الكلمة.

 

[114] يسهل لأصحاب الأغراض الدعائية اختطاف مثل هذه الجمل، ولكن السؤال الموضوعي يكون: وما الذي أوصل هؤلاء المساكين للمحنة والمذلة؟

 

[115] نفس البيان الذي أثبته أنبا ساويرس في "تاريخ البطاركة"، والأرجح أنه نقله من مصدر مستقل، لأنه تكلم في موضع آخر عن النِقيوسي ولم يذكر حولياته الضخمة، كما لم يبدُ أنه كان متعاطفاً معه على عكس طبيعة الأمور لو كان مديناً لكتابه ببعض البيانات (انظر المقدمة: فصل "النِقيوسي").

 

[116]  وهذه جملة أُخرى مرشحة بقوة للاختطاف من قبل الدعائيين، أما الواقع الموضوعي البديهي يقضي بان حفظ أموال الكنائس أمر طبيعي مع داهية يعرف طبائع الناس فلا يستثير ما يذهب بهم لتعدي حدود الخوف، وإلا فماذا عما سبق من الشهادات عن المذابح والمهانات؟.. على أن هذه الشهادة تُضاف لرصيد النِقيوسي من الموضوعية والأمانة.

 

[117] لديّ هنا أولاً وثانياً: أولاً هذه شهادة خطيرة على عمل من أعمال تخريب الدلتا زراعياً وسكنياً، وبعد مئات قليلة من السنين نجد شهادات عن انقطاع الزرع عن مناطق عامرة به وزحف البراري حيث لم تُوجَد من قبل، وقبوع الملاحات في تلك الأماكن التي لم تعرف سوى المياه العذبة.. وثانياً فإن النصيحة أتت من أحد القادة الرومان الذين ارتدوا ارتداداً واضحاً عن ولائهم لمناصبهم العسكرية، وليس بعيداً عن ثيودور كيروس نفسه الذي صار حاكماً للإسكندرية تحت إمرة عمرو ابن العاص.

 

[118] Batr، هكذا وردت وبالخط المائل،  وواضح أنها عملة أُشير لها بعد ذلك بألف دينار (قابل مع نفس الفصل 121: 6)، ولم أصل لأصل الكلمة، وهناك كلمة يونانية تعني ميراثاً قريبة النطق منها: "باترووس"، فربما كانت تُستَخدَم لتصف هذا القدر من المال.

 

[119] غير واضح إن كان قد أخذ الفرق لنفسه أم زاد إكرامه للمسلمين من جيوب المصريين أم ماذا؟ المؤكد من المعنى أنه زاد الفداحة تفديحاً.

 

[120]  اللغة النمطية الأشهر للكُتَّاب القبط بعد ذلك في تعليقهم على المصائب، وهنا شهادة مبكرة على أصالة هذه النبرة عندهم.. انظر هامش 11 الذي يناقش فكرة "القضاء الإلهي".

 

[121] لو19: 27، والنص له تكملة قوية: "وأما أعدائي الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي"، والكلمة اليونانية القوية المترجمة اذبحوهم لم ترد قط في الكتاب المقدس إلا في هذا الموضع.. والنص الكامل هذا يتفق مع نبرة النِقيوسي الذي كان يصرخ بشهوة تحقيق النقمة العادلة مع نفوس الشهداء تحت المذبح (رؤ6: 9-11).

 

[122] ولا أوضح من وضوح رؤية هذا الأسقف هنا.. وهي عبارة خطيرة لتاريخ التفسير، فهو كان يكتب قبل نهاية القرن السابع وبعد عقود قليلة من السنين من دخول العرب وقبل معرفة كل خباياهم، ولم يكن هناك تفسير معروف سابق يعين الوحش على هذا النحو المثير، على أنه في تفسير لاحق لسفر الرؤيا نجد الأسقف العالم بولس البوشي في القرن 13 يشير للعرب على أنهم الأمم والوحش.

 

[123] هذا الختام هو ختام للحوليات كلها لأن فصول الغزو العربي كانت خاتمة حوليات الأسقف يوحنا النِقيوسي.

 

[124] فاصل من صب جام الغضب القبطي على الأباطرة الذين رعوا كل البدع: من خلكيدونيا (المشار لها بفصل المسيح لاثنين) رجوعاً حتى أريوس (الاعتقاد بأن المسيح مجرد كائن مخلوق).

 

[125] Chuzaeans، وأظن أن كلمة الغز هي أقرب ما يكون للأصل المقصود.. والغز هم من أشرس قبائل الأتراك، وتركوا لدى المصريين السمعة المعروفة التي اوحت لهم بالمثال السائر على ألسنتهم: "آخر خدمة الغز علقة"، وقد عمم المصريون فيما بعد كلمة الغز لتصف المماليك والعثمانيين عموماً.

 

[126]  Teqmet.. وفي الهامش 309 يرد أن هذا الشهر يبدأ يوم 10 أكتوبر أي يبدأ قبل شهر بابة بيوم واحد بحسب الخطأ السابق التويه عنه في هامش 103.

 

[127] سأكافئ دقة الشماس غبريال بدقة مماثلة للتأكد من تطابق أرقامه وشرح ما قد يفوت القارئ غير العارف ببعض التغيرات في حسابات التقاويم والذي قد يظن بعض التضارب فيها خطأً.. كان التأريخ ببدء الخليقة المحسوب من الترجمة السبعينية يكافئ خمسة آلاف وبضعة مئات من السنين، ومن هنا كان البيت المعروف في مدائح توزيع كيهك القبطية القائل عن انتظار البشرية للمسيح:  "من بعد خمسة آلاف وخمسية".. على أن هواة الرقم 7 فيما يبدو قربوا نصف الألفية للواحد الصحيح ليجعلوا سنة ميلاد المسيح في بدء الألفية السابعة.. والظاهر هنا أن الشماس غبريال جرى على هذا الاصطلاح الشغوف بالرقم 7 فأضاف ستة آلاف سنة، تعادل تمام ستة ألفيات، للتاريخ الميلادي للسنة التي أتم فيها ترجمة الكتاب (1594 كما سيورد فوراً في المتن)، حاسباً سنة ميلاد المسيح السنة الأولى للألفية السابعة.

[128] مات الإسكندر سنة 323 قبل الميلاد بحسب التقويم الحالي، وعمره 30 سنة، فتكون سنة ميلاده هي 353 قبل الميلاد، وواضح أن الشماس غبريال يؤرخ هنا بهذه السنة فتكون سنة 1602 ميلادية بهذا الاعتبارهي سنة 1955 للإسكندر، ولما كان هناك بين القبط والغرب فارق 8 سنوات في الحساب التاريخي الميلادي (المُطابَق عليه الحساب من بناء روما ومن الإسكندر) ، فتكون السنة 1602ميلادية\1955سكندرية هي سنة 1594ميلادية\1947سكندرية بكل دقة.

 

[129] كان القبط يحسبون التقويم الميلادي سابقاً ثمانية سنوات للحساب الغربي المعروف (وهذا مشهور ويُسمى التقويم الميلادي الشرقي)، فكان بدء التقويم القبطي لديهم سنة 276 وليس 284.. وبجانب ذلك كان أول السنة القبطية يوافق 29 أغسطس قبل تغيير التقويم اليولياني والذي صنع إلى اليوم فرقاً 13 يوماً.. وباعتبار هذين الفرقين فإن السنة القبطية تقل عن السنة الميلادية (بالحساب الشرقي) 275 سنة بعد 29 أغسطس، وتقل 276 قبله.. ولما كان تاريخ إتمام ترجمة الكتاب يقع في شهر بابة فإن سنة 1318 قبطية توافق في الشهر المذكور سنة 1594 الذي أثبته الشماس غبريال، وليس 1602 بحسب الحساب الغربي الجاري.

 

[130] هذه جملة مثيرة!.. واضح أن كلمة  "هاجر" أصلها الـ"هجري" في إشارة للتقويم الهجري.. والمثير هنا أن القبط كانوا يحسبون للتقويم الهجري بالسنين الشمسية! والحساب سليم تماماً لأن سنة 1601 ميلادية (بالتقويم الميلادي الجاري) هي السنة 980  لو بدأ الحساب من سنة 622 سنة هجرة نبي الإسلام (بالتقويم الميلادي الجاري أيضاً) على أنها السنة 1! فهل كان هذا حساباً لغرض نبوي وتاه مع الزمن؟ أم أن الشماس غبريال تفذلك فتطوع باختراع حساب لم يكن أحد يحسب به أو له أصلاً؟

 

[131] مرة أُخرى (وأخيرة إذ انتهى الكتاب) فإن التاريخ صحيح، وتأكدت من ذلك بالحساب.. ولمن يريد الحساب بنفسه ولا يملك جدولاً فإن كل 33 سنة شمسية تمر 34 سنة قمرية بتقريب لا يختل في دورة تقل عن 1460 سنة (365 x 4)، وفي نطاق 980 سنة شمسية تكون قد مرت 30 دورة طولها 33 سنة فتصنع بالتمام فارق الـ 30 سنة بين الرقمين 980 الشمسي و1010 القمري.

 

[132] أي القصير باليونانية.. وهنا عدة احتمالات عن المقصود بـ"ابن الشهيد يوحنا كولوبوس"، لا يمكن حسمها إلا بمصدر خارجي.. فلم يًعرَف القديس يوحنا القصير بلقب الشهيد ولا في سيرته أنه استُشهِد، كما أو ديره قد خلا من الرهبان في بكور المئة الخامسة عشرة قبل أكثر من مئة عام من عمل غبريال الشماس، وهناك عدة احتملات للمعنى أرجحها أن الشماس غبريال انتسب لآبا يوحنا القصير نسباً روحياً مألوفاً في الأدبيات الأرثوذكسية ولعله كان من رهبان دير انبا مقار حيث استقر جسد آبا يوحنا القصير بعد نقله من ديره وانه انتسب له من ثَمَّ، وأما لقب شهيد فقد اختلط بلقب قديس وهو أمر وارد لتشابه الاستخدام تعاقب الترجمات.. وعلى أي حال فإن سيرة غبريال الشماس العالم المترجم تستحق البحث والتوثيق وفاءً لقيمته وزيادة لتوثيق قيمة عمله، وفي فصل 11 في الدراسة التقديمية محاولة لمعرفة الشماس غبريال.