لأول.. وآخر مرة !![i]

 

جريدة الأخبار

5 ديسمبر 1997

صورة ضوئية للمقال

نسخة آر تي إف للمقال

 

بقلم:

المهندس باسل لمعى

 

ببعد هدوء حدة الانفعال الشخصي تجاه ما حدث في الأقصر، يرصد التحليل الموضوعي عدة أمور يمكن وصفها بأنها حدثت لأول مرة.. سواء في ملابسات الجريمة نفسها أم فيما أعقبها من إجراءات..

و في مثل هذه الأحداث فإن وقوع الأمر لأول مرة يحمل معه بالضرورة رسالة يجب قراءتها جيدا..

إنها المرة الأولى التي تقع فيها جريمة إرهابية ضد السياحة في مدينة الأقصر التي تعيش على السياحة.. و في هذا ما فيه من تحد سافر للمواطنين أنفسهم، و ليس لهيبة النظام أو سمعة البلد كالمرات السابقة التي كانت تقع فيها الجرائم أمام الفنادف أو المتاحف في العاصمة الواسعة أو في القطارات السياحية من خلال التربص في قرى نائية..

و مفهوم أن تحدي هيبة النظام يكون من بين أهدافه اكتساب تعاطف البعض.. ولكن تحدي البسطاء في لقمة عيشهم و في عقر دارهم يحمل رسالة تفيد بيأس المجرمين من أي تعاطف شعبي.. ولطالما انتظرنا هذه الرسالة.

***

وهى المرة الأولى أيضا التي تلمع فيها الأسلحة البيضاء في جريمة من هذا النوع.. ولأول مرة يتم التمثيل بالجثث.. و الرسالة واضحة من المجرمين: نموذج الجزائر في الطريق.. إلى من يهمه الأمر في الداخل و الخارج..

وجاء الرد لأول مرة أيضا فوريا وصارما.. فققبل أن تنقل وسائل الإعلام أبعاد الحادث بل ربما قبل أن تتكشف هذه الأبعاد أمام المسئولين يتواجد الرئيس مبارك في موقع الجريمة وذلك بكل ما يمثله وجود رأس النظام من هيبة.

إن الرسالة لمن يهمه الأمر أيضا في الداخل والخارج تقول أن مصر أول دولة مركزية في التاريخ وليس بها غابات لا يتمكن النظام من بسط نفوذه عليها..

وتتوالى الرسائل و الردود عليها..

فلأول مرة تتسم محاكمة المقصرين من رجال الأمن بهذه العلنية والرسالة هنا إنذار للمجرمين بأنهم سيواجهون برجال الأمن لا مواجهة أداء الواجب فحسب، وإنما مواجهة الدفاع عن الشرف والسمعة كرجال أمن ينتمون لواحد من أقوى الأجهزة في العالم..

ولعل في هذا ردا معقولا على الوقاحة التي ابداها المجرمون بتجولهم في مكان جريمتهم لما يقرب من ساعة بعد أن كانوا يفرون سريعا ما أمكنهم الفرار..

هناك أيضا أمر جديد يفرض نفسه على الملاحظة والرصد.. وهو اشتراك القوات المسلحة في الخطة الجديدة لتأمين الأماكن المستهدفة.. والرسالة الواضحة للمجرمين هنا أن مفردات جديدة أضيفت للملف.. وهي المفردات التي لا يفهم رجال القوات المسلحة سواها.. مفردات (القتال) ومقاومة الخطر (الخارجي) وردع (أعداء البلاد).. إلخ.. فالقصة لم يعد ممكنا تلخيصها في كلمة (مواجهة)..

***

الأمر الأخير الذي حدث لأول مرة ولم يأخذ حقه من القلق والاهتمام هو تلك الرصاصات التي شوه بها المجرمون جدران و نقوش معبد حتشبسوت.. إن كنوز الآثار لدينا ليست مجرد مورد رزق  وإنما هى أمانة أودعها لنا تاريخ الحضارة الإنسانية وينبغي الحفاظ عليها بالتشريع و التأمين والتوعية.

فهل لنا أن نسمع ناقوس الخطر الذي دقته هذه الملاحظة؟

و لقد سألت صديقا يعمل مرشدا سياحيا عن تعليقه على هذه الملاحظة فقال بأسى أنه يؤكد لي بحكم عمله أن آثار هذه الرصاصات  ستخلد جريمة الهكسوس (هكذا سمى المجرمين) لأنه لا يمكن لمرشد سياحي أن يتجاهل آثار هذه الرصاصات وهو يشرح المعبد لزواره..

وأضاف صديق مفارقة تاريخية لطيفة بقوله: أن حتشبسوت هى التي عمرت ما خربه الهكسوس، ويبدو أنهم عادوا لتخريب ما عمرته الملكة انتقاما لأجدادهم..

 

***

وبعد هذه الملاحظات الموضوعية المجردة أسوق للقارئ أمنية شخصية سيشاركني فيها بلا شك: يا ليت هذه الجريمة التي احتشدت فيها أمور تحدث لأول مرة تكون هى نفسها آخر مرة.

 

 

 



[i]  هذا المقال هو بمثابة الحلقة الخاتمة للمقال السابق عليه بعنوا: قطرات..  دم