أحزاب الحزب الوطني

 

لجريدة الأخبار

لم يُرسَل لأنه لم يُكتَب فى آخر نوفمبر 1997 1997

صورة ضوئيّة للوحة إعلان عن درافت المقال

نسخة آر تي إف لدرافت وملابسات المقال

 

 

المكتوب تالياً درافت لم يُراجَع

 

فى نهاية مقال أحزاب ما قبل التاريخ كنت أُعِدّ للكتابة عن "الحزب الوطنى"، لأختم بمقال عن الأحزاب كما ينبغى أن تكون فى مصر.. ولم أستكمل السلسلة.. ليس لأنها لن تُنشَر، فكانت لى وقتها طريقة كتابة تجيز أى شئ فى حدود سقف المسموح به، أتقنت طريقتى هذه فى الظروف تلك بعدما واجهت منع النشر مرتين لم تكن هناك ثالثة لهما..

فلماذا لم أكتبه وأكمل السلسلة؟ لأنه بحسب تقديرى لن يُنشَر!؟! اختلف تقدير النشر لاختلاف الظروف، إذ جدّ حدث غيّر وجهة السماحيّة فى النشر، فصار تقديرى أن المقال لن يُنشَر.. واما ما حدث وغير التقدير والظروف فكان حادث جريمة قتل عشرات السائحين بالأقصر، والذى كان علةً أخرى لعدم كتابة المقال من حيث أن مقالاً تلقائيّاً عن الجريمة (مقال قطرات دم) أخذ دور هذا المقال..

فلم أكتبه لأنه لن يُنشَر.. ولأننى لا أكتب نصف رأي.. أكتب رأياً جزئياً نعم.. ولكن نصف رأى لا.. ونصف الرأى هو الرأى بعد تخفيض جزء جوهرى كيانى أقنومى منه يحوله لرأى آخر.. وأما الرأى الجزئى فهو جزء متكامل فى ذاته يحمل رأياً هو رأيي.. ومثال على الرأى الجزئى هو مقالى عن أحزاب ما قبل التاريخ.. فقد ذكرت رأياً متكاملاً..

 

وفى حالتنا هذه فإن نشر شئ عن الحزب الوطنى بعد حذف أهم الانتقادات عنه وهو ما كان سيحملها المقال، يكون الرأى نصف أو حتى ثلاثة أرباع رأى ويترك مساحة فارغة تُترَك شهادة على لا أرضاها.. فالأفضل ألا أنشر.. بناقص مقال..

 

وأما الذى كان ليُقال فهو تحليل الحزب الوطنى لأحزاب اقتصادية ومجموعات ضغط مصالح متصارعة.. كلها حجرات داخل الحزب الوطني.. وكل منها يصلح بالتوصيف السياسى الاقتصادى كحزب، وبالتوصيف القانونى تشكيلاً عصابيّاً!!

والاقتراح أن يكونوا أحزاب مكشوفة افضل من عصابات متقوقعة داخل حزب واحد هو حزب الحكومة.. وأن يكون الحزب الغالب قى هذا النظام هو مصلحة الغلابة باعتبارهم الأغلبية التى ستحول المدعوة "ديمقراطية" لأداة نافعة لتغليب مصالحهم طالما استقام الحال بين أحزاب كل منها قادر على مراقبة وفرض الأمانة على فرز أصواته..

 

والتحليل به تفاصيل كثيرة ثقيلة كنت سأختصرها عند الإعداد للنشر، وكان فن الاختصار جزء من إبداع المقالات الادبى فى عملى، ولكن لأننى اكتب هنا فى ملكى وليس ملك الحكومة J فإننى سىخذ راحتى قليلاً.. فقط فى حدود تسجيل الأفكار..

 

إن استقرائى لأحزاب العالم المتقدم أفادنى بأن أحزاب أوروبا احزاب أيديولوجية اقتصادية.. وتوزيعها على طيف التصنيف يسير على مسطرة الاقتصاد: اليسار يسار اقتصادي.. اليمين يمين اقتصادي.. الوسط وسط اقتصادي.. اختُصِرَت الأيديولوجية للجانب الاقتصادى منها.. والأحزاب التى تتخذ من قضية الهجرة شعاراً لها وتُصَنَّف على اليمين المتطرف فإنها تتطرف فى قضية أكثرها جانب اقتصادى وبعضها قضية عرقية.. ولكنها لا تصدر نفسها بالجانب العرقى وإن كان دفيناً فى النفوس.. حتى الأحزاب المسيحية فإن اسمها كان شعاراً لمقاومة الشيوعية.. ولما كانت الشيوعية تهدد صراحة بعدم الحياد أمام الحريات الدينية والانحياز لقمعها فإن هذه الأحزاب أخذت فى مقاومتها للشيوعية هذا الاسم كتعريف لها أنها مع حرية العقيدة التى كانت وقتها فى أوروبا هى المسيحية (لم يكن المسلمون قد تزايدت هجراتهم وتناسلهم بعد).. ولكنها لا تخرج إطلاقاً عن علمانية أوروبا ولا ولم تدعو لحكومة مدينية.. هذا لا يفهمه غير المدققين ويستغله الإظلاميون كحجة للتمثُّل بأوروبا وإباحة الأحزاب الدينية (الإسلامية يعنى عندنا).. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى فإن الأحزاب الشيوعية فى أوروبا صارت كخصيان القصور (والتشبيه يروج بين أعضاء حزب التجمع فى مصر – مش شتيمة يعنى - وصف حال J).. المسطرة إذن فى الأحزاب هى مسطرة مصالح اقتصادية شبه بحتة.. وإن بقيت بعض التوجهات المنحازة ثقافياً للهوية الأوروبية أو النظام الشيوعى أو المحافظة على البيئة كالخضر..

 

   وأما فى الولايات المتحدة فالموضوع بسيط جداً.. فلا الجمهوريين غير ديمقراطيين ولا الديمقراطيون غير جمهوريين.. كلاهما يقر الديمقراطية ويدافع عن الجمهورية.. والتقسيم انبنى وتكرس وصارت له حدود قاطعة مع الوقت على التحزب للشمال الصناعى من جهة الديمقراطيين والجنوب الزراعى من جهة الجمهوريين.. لذلك تاخذ الحريات "الديمقراطية" شكلاً واسعاً يلائم حريات المدن الكبرى حريات محدش يعرف حد والمدينة الكبيرة ذات المصانع اللى محدش يعرفك فيها شلح وامشى فيها أو شذ فيها.. لونك أبيض اسود كله يطلع فى الصابون أو عنه ما طلع.. فيتحلق حول الديمقراطيين السود والمهاجرين هذا طبعاً بعد جماعات المصالح الصناعية غير التقليدية مثل السينما والبرمجة وغيره والتى مصالحها لا تشبع من الكفاءات الأجنبية وطلب الحريات الأخلاقية (اللاأخلاقية).. ولكن نفس هذه الحرية الواسعة تضيق عند دفع الضرائب فالصناعة تحب الحكومات الغنية التى تقرضها بأموال فيدرالية وقت اللزوم، ونصيبها من الضرائب يقل دائماً عن نصيب الفلاحين الذين ليس عندهم مصاريف تشغيل ودورات رأسمال تحجب من الأرباح.. وأما المحافظة "الجمهورية" فتأخذ شكل القيمة الدينية حيث يميل الفلاحون دائماً لقيمة الدين (فاضيين بعد الساعة خمسة ويقضون أوقاتهم فى التجمعات الدينية.. وأنا مسيحى أحب عقيدتى ومؤمن بها لما بعد آخر المدى، ولكنى أؤمن أيضاً أن الدين أعلى من أن يمثله حزب سياسى، ولا أؤمن أن المنافع التى تأتى للمتدينين من الالتجاء للسلطة تزيد عما يأتى من مصائب من نفس الطريق) وتأخذ شكل القيمة العرقية (الفلاحون لا يحبون الغرباء – البلد كلها تعرف بعضها والغريب يبان – فى قرانا المتخلفة كما فى قرى الولايات المتحدة المتقدمة).. ولكن نفس المبادئ المحافظة تجد وسعها وبحبحتها فى تخفيض الضرائب.. يا راجل فلوسك وانت واقف فى الغيط تحت الشمس.. ولكن مع ظهور الزيت فى أراضى الفلاحين فى الجنوب (تكساس مثلاً) فإن التقسيم لم يعد بالبساطة المفترضة وإن زاد حدة الصراعات.. وبقى نفس المعيار: جماعتين بمصلحتين.. ولو الحاصل من هذا التحليل السريع أن الولايات المتحدة لها خصوصية الحزبين حيث المصلحة مصلحتين والجماعة جماعتين.. والمفيد أن نفس التصنيف فى أمريكا تقوقع فى طرف اليمين الاقتصادى أى على طرف المسطرة الأوروبية.. وجاء التقسيم بين الطرفين بعرض المسطرة لا بطولها: إنت فلاح أم عامل؟ مع انحراف بسيط من الديمقراطيين نحو الاشتراكية وتبدية مصالح الفقراء (الذين يمثلون الموظفين والعمال فى المؤسسات الاقتصادية ويمثلون القوة التصويتية الكبرى فى هذا القطاع).. 

 

المفيد من كل هذا أن المسطرة الأمريكية هى طرف من المسطرة الأوروبية فى الأحزاب، مسطرة المصلحة الاقتصادية، وإن جاء الطيف مختصراً فى طرفين على إحداثى طولى شبه متساو وإحداثس عرضى واضح التباين.. أى جاء التصنيف مبنياً على الكيف لا الكم..والأمريكان لا يحبون التفاصيل ويريدون التيك أويي.. 

 

أى أن عالم الأحزاب الراهن يقضى بأن الاقتصاد هو المقياس السياسى.. والسياسة تسوس المصالح الاقتصادية.. والجوانب العرقية والدينية فى السياسة تئول إلى الهامش فى عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي.. ولا يبقى إلا التهديد الإظلامى المتطرف الذى سيلحق بالشيوعية ولن يطول الزمن..

 

أقول تؤول الأحزاب العرقية والدينية إلى "الهامش" لأن شعاراتها خارجية للطلاء لم تؤسس البنية ولم تساهم فى التشكيل وهكذا أحزاب إن فازت فإنها تحافظ على اصوات حتى أبناء عرقها أو دينها بقدر ما تعمل كأحزاب سياسية بحقّ الكلمة، وإلا فإنها ستسقط حتى بأصوات أنصار شعاراتها!! وخذ دليلاً على ذلك من أن ذوى الأصول العربية والإسلامية فى الولايات المتحدة يصوتون تقليدياً للجمهوريين الذين يمثلون المحافظين المسيحيين.. وخذ مثلاً أن ذوى الطموح السياسى فى فرنسا من الأصول الشمال أفريقية لا يجدون موقعاً فى المناصب العليا فى الأحزاب إلا فى حزب لوبان اليمينى المتطرف المقاوم للهجرة.. بل خذ الدليل الأكبر على ذلك أن حكومات الولايات المتحدة الجمهورية هى الصديق الصدوق والمحالف الأكبر لمملكة الظلام السعودية التى تمنع دخول إنجيل واحد للبلاد بينما توزع مئات الألوف من نسخ القرآن فى والايات المتحدة.. وبعد هذا لا يرى المجادل أن زيت السياسة هو الاقتصاد؟ وأن العوامل الدينية والثقافية تبقى فى هامش الميول الشخصية للسياسيين..

 

 

ماذا يعنى هذا فى مصر؟ يعنى أن نبحث عن مثل هذه الأحزاب التى تمثل مصالح اقتصادية ملموسة فى الواقع، أن نبحث عن الأحزاب الاقتصادية التى تتمتع بالتوصيف الوظيفى الجوب ديسكريبشن المتطور للأحزاب فى العالم الآن.. وإذا بحثنا سنجدها.. أين؟ كلها فى الحزب الوطني.. إذا أردنا حياة سياسية تخدم الاقتصاد وحياة اقتصادية لها سياسة واضحة المعالم بقدر الإمكان وكل واحد يعرف مصلحته فيها فلنفكك الحزب الوطنى لعوامله الأولية.. للأحزاب الحقيقية.. بدلاً من عصابات فنجال القهوة التى يقلبها الرئيس ويذيب قيها من وقت لآخر قالب سكر أو ملح واهو كله أبيض..

 

إذا انفك عقال هذه الأحزاب الحقيقية، على شراستها وقبحها، فإن أصوات ما قبل التاريخ ستبدأ فى الخفوت فى عالم السياسة.. رويداً رويداً.. ولا يلوم لائم ويقول: ولما هى أحزاب قبيحة فى وجهة نظرك فلماذا تريد فك عقالها؟ إجابتى أننى أكتب عن حياة حزبية سليمة.. ولم أقل أننى أحب الأحزاب.. تماماً كما أبحث عن حقوقى المالية ولا أحب المال..

وأما بقاء الحال على ما هو عليه فإنه سيطيل من أمد بقاءؤ أحزاب ما قبل التاريخ، ويزيد من فرصة تضخم نصيبها الأسيف من مقاعد المجالس وربما مقاعد أخطر، ففى غياب أحزاب بحق معنى كلمة السياسة فإن المدجعوة "ديمقراطية" (وهى وسيلة لا غاية ولا أعبدها كعبادة السذج لها) فإن تلك المدعوة دمئراطية هى الصديق الصدوق للأحزاب ذات الشعارات الفاشية..

 

الموقف إذاً واحد من اثنين:

بناء البيئة التى تتيح للأحزاب الاقتصادية أن تقوم وتمتد بقدر ما هى توافق مصالح الناس، هذا اختيار،

أو يبقى الحال على ما هو عليه فتبقى "الدمئراطية" سلاحاً 1ا حدين رديئين أحدهما يُعمِله للزينة المصطنعة وبالقوة الجبرية حزب واحد هو تجميعة أحزاب فى حقيقته، فتبقى الدمئراطية تلك تمثيلية مكشوفة لزينة مفضوحة، ولكن لمتى ستبقى هكذا؟

و"إلى متى؟" هو سؤال تقود محاولة إجابته للاختيار الآخر الذى هو مثابرة وتربص أحزاب ما قبل التاريخ التى تسعى سعى الأفاعى لتقصير فترة "متى" تلك، بتقطيعها للحم المجتمع رويداً رويداً بحد الدمئراطية الآخر، سالبة أمام الجميع أصوات المجالس وحافرة فى تربة التشكيلات الرسمية للدولة، ويبقى سباق الأرنب الغافل والسلحفاة الخبيثة أمام الجميع والدمراطية هكذا تصير سكيناً متلفاً على حديها للجميع، ولعل السلحاة، ربنا لا يُقدِّر، تصل وتسحق الأرنب الواثق فى تمثيليته وتسحق معه الجميع ومعها سلاح "الدمئراطية" القاطع على إرادة اجلميع وكل هذا تتشكل مقدماته ومتوسطاته فى انتظار مؤخراته أمام الجميع والصمت يلف الجميع!!!!

 

وفى هذا المقال أبنى تحذيرى على تحليل دقيق وأعيد التحذير: ابنوا أحزاباً حقيقة وتوبوا عن نهج الارتكان على موثوقية دوام نظام "أحزاب الحزب الوطنى"!!

لأنه وقت الخطر لن يكون هناك من حل إلا إيقاف المحاولة الفاشلة لاستعمال "الدمئراطية"، لأنه وقتها لن يجد عموم الجمهور إلا حزباً فقد قوته الجبرية التى طالما ألزمهم بها بالتصفيق لتمثيليته، يقابله أحزاب تحمل شعارات دينية تداعب معتقداتهم، ولن يجدوا حزباً يحقق المصلحة الاقتصادية،  ومن ثم لن تجد سكينة "الدمئراطية" إلا مساراً واحداً فى "كيكة" المجتمع،

وساعتها سيتذكّر كل عاقل أمين أن "الدمئراطية" ما هى وسيلة لا غاية، وسيقرون أنها صارت وسيلة لغاية سوداء، فسيدير ذوو الحياء منهم ظهورهم لها، وممن سيلتفتون بوجوههم لها ليس إلا لكى يدعسوها، وسأكون أنا مقدام شيعة المنادين بسقوط "الدمئراطية"، تصدقوا؟!

فاحذروا قبل أن تخسرونى وتخسروا أمثالى—خسارتنا ليست مكسباً لكم..

أنا لازلت أرى أننى والملايين من القراء نمثل الحزب الأعلى الذى لو نطق فسيقول هذا ولو تحرك فسيسعى لتحقيقه، ولو ثابر فسيحققه.. ويبقى بعد تكوين هذه الأحزاب أن الحزب الأعلى هو الذى فك عقال هذه الأحزاب، هو الجمهور الذى سيميل لبعض الاشتراكية دون ايديولوجيات.. اشتراكية "محدش بيبات جعان فى البلد دي".. وعند تكوين هذا الحزب الغالب فإنه لن يحكم، ولكنه سيمد يده لأحزاب المصالح التى تتكون (مش شايفين شعاره؟ J).. ومن هنا مصلحته.. وما سيأخذه ليس شحاتة ولا حسنة ولا حسن شحاتة ولكن أصول تعامل سياسى واقتصادي..

 

 

كانت هذه بعض آرائي.. فهل هذا كلام يمكن أن ينشَر؟ أقول تفكيك الحزب الوطنى وينشرون؟

لما مشرف الصفحة قال لى متمرراً ساخراً، وقبلها بسنة فى زمن الهدوء والاطمئمنان النسبى، بشأن منع نشر مقال لم يؤذن فى مالطة: "23 يوليو يعنى أصل النظام اللى جاب اللى جاعد عالكرسى دلوقت يعنى الحكومة واحنا جريدة الحكومة"..

 

صحيح كان يمكن إيجاد طريقة للعرض قبل حادثة 97 الإجرامية الإرهابية غير مسبوقة المثل والنتيجة، لاسيما مع ما جد على معرفتى من هواجسهم وممنوعات النشر وقتها، ولكن بعدها صار الموقف معقداً، فالجيش هو من نزل وطارد الإرهابيين مرتكبى الجريمة، وهو ما أثنيت عليه بتصريح وتوضيح فى مقال تال بعنوان لأول.. وآخر مرة، وهو يقلق الحزب الوطنى ويقرب منه النهاية التى انتهيت إليها فى هذا المقال، ومن ثم تغيرت معايير أسقف النشر وتلاشت فرص التحايل عليها بلاغياً..

يا خسرة يا مقال فكرتك حضرت وفرصتك غابت..